نقد الطالب لزغل المناصب

قديم البحث:

الموضوع الذي يعالجه محمد بن طولون الصالحي في مصنفه الشيق مهم جداً، يدخل في باب الأحكام السلطانية والسياسات الشرعية، ويختص بوظائف السلطان وأصحاب الولايات من الأمراء والوزراء والقضاة والقواد فيذكر ماعليهم من واجبات ، وتبعات، ويشير إلى ما يدخل في أعمالهم من تقصير وما يتلبسهم من أخطاء ينبههم على وجوب تداركها واجتنابها.

إلا أن ابن طولون لا يقف عند وظائف السلطان وولاته وأتبـاعـه من رجالات الحكم، بل يجاوزها إلى ذكر المهن التي شاعت في عصره فيتناولها بالنقد، فلا يكاد يترك مهنة شريفة أو وضيعة إلا ويذكرها، منها المهن العملية والأخرى العلمية أو الديوانية أو الأميرية، والغريب أنه يسمي هذه المهن كلها مناصب، مع أن المنصب ما دل على الرفعة والسمو، وليست الوظائف التي يذكرها ولا الأعمال التي يقوم بها الناس شريفة كلها ولاسامية.

جاء في المصباح المنير : " يقال لفلان منصب أي علو ورفعة، وفلان له منصب يراد به المنبت والمحتد" ولعله حمل الكل على البعض مجازاً.

أما الزغل فهو الغش والفساد وهو مجمل ما يدور موضوع الكتاب حوله، إذ يشير إلى ما يدخل على كل منصب من انحرافات، وما يطلب من العاملين فيه من سلوكيات.

وتأتي قيمة الكتاب من عدة أمور:

منها أنه كتاب عالم مؤرخ، يصور جوانب الحياة في عصره، ويطلعك على أشياء جانبية منه، كانت تجري آنذاك، ولم تتعرض لها كتب التاريخ العام. والكتاب سجل للمهن والأعمال في زمنه، يذكرها بالتفصيل.

وقد انقرض كثير منها اليوم، فاختفى، أو حل محله مهن أخرى مشابهة أو تغيرت أسماؤها، كمهنة المشاعلية، ومهنة رماة البندق، ومنصب المفيد، ومنصب المعيد، ومنصب الموقت والناسخ والمكاري والبابا والجمدار والأستادار والجوكندار والطشتدار ومايشابهها.

وهو كذلك يبرز الناحية الاجتماعية لعصره، فيتحدث بشكل غير مباشر عن ناس بلاده، كيف يحيون، والطريقة التي يتصرف بها أهل كل طبقة من طبقات المجتمع، والعادات التي يعتادونها، فنعرف مثلاً أن للسلطان والأمراء غلماناً من المماليك خصـصـوهـم ليقوموا على إلباسهم الثياب، وآخرين وضعوهم مشرفين على ترتيب النعال والعناية بها، وأن لهم خدماً فرغوهم للصيد، يحملون لهم أدواته . ونطلع على سخافات النحويين واللغويين في تصرفاتهم المضحكة، ونرى تفاهات العامة وانحرافاتهم الدنيئة، كيف كان يلجأ ضعاف النفوس من القضاة

وغيرهم إلى الرشوة، وماذا يصنع أعوان السلطان . . وهكذا .

وتبرز للكتاب مع التأمل غاية سامية، فهو دعوة صادقة للتمسك بالفضائل والأخلاق وأخذ النفس بالورع والتقوى، فحينما يعرف المصنف بمهمة كل صاحب عمل، ويبين العيوب التي تدخل عليه والأخطاء الملابسة لمهنته ينصح له ويخوفه الله، يأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر، فلا يفرق بين أمير أو مأمور، أجير أو مستأجر، صاحب ذي سطوة وبأس، أو من أصحاب الأعمال الحرة .

ونتبين في الكتاب ابن طولون العالم من جانب الفقه الحنفي، إنه ينثر أحكام المذهب هنا وهناك عند أدنى ملابسة أو أقل مناسبة، فيعرض فتاوى الحنفية كلما دعا الكلام إلى ذلك. كما يظهر ابن طولون المحدث المتمكن في علوم الحديث العارف بأسماء مشاهير العلماء والمحدثين مشهوريهم وغير مشهوريهم ويورد سلسلة من المراجع الحديثية وأقوال المحدثين، ويروي قصص طلاب الحديث وما يقعون فيه من أخطاء وتصرفات غير حميدة.


تحميل الملف