نفحات القرآن...حول ظلمات الكفر وأضواء الإيمان

أ ـ [إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آَيَاتِنَا غَافِلُونَ أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ] {يونس:7-8}.

ب ـ [إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآَخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ] {يونس: 9 -10}.

1 ـ في الشطر الأول: حديث عن الكافرين، وسوء منتهاهم.

2 ـ في الشطر الثاني: نماذج من مباهج المؤمنين في أخراهم.

وقد يخطر لإنسان أن القرآن تحدث كثيراً عن الإيمان وأهله، وعن الكفر وأصحابه، حتى أصبح شأن الفريقين مستفاداً من آيات لا تبلغ هذه الكثرة التي نتلوها في مقامات عدة فلا تكون هذه الكثرة إلا لمجرد التأكيد، وإزالة الشبهات...

ولكن ذلك زعم غير حصيف، أو هو زعم من يضيق وعيه عن مرامي القرآن الكريم في خطابه للناس وفي توجيهاته...

فإن الله تعالى لم يخلقنا سدى، ولم يتركنا هملاً، وإنما خلقنا تنفيذاً لحكمته، ومظهراً لقدرته، ورسم لنا في الدنيا مناهج، وأعد لنا في الآخرة مآلاً يختلف باختلاف مسالكنا في الحياة.

فكان من تمام فضله على الناس سبحانه: بل على الإنس والجن أن يبصرهم تشريعه بما يكفل هديهم، ويكشف لهم من الغيب عنهم ما  تقصر دونه أفهامهم، أو تطغى عليه أهواؤهم، وشواغلهم.

فإذا قرأنا كثرة من الآيات في التوجيه إلى الإيمان والترغيب في عقباه... أو قرأنا كثيراً عن الكفر والتحذير من منتهاه: فإن في هذا التكرار مساندة للعقول بالتذكير وفيه تقويم لما في النفس من عوج لا يستقيم وحده: وفيه تجلية لصدأ القلوب من شوائب الغفلة، أو عدوى التقليد لأهل النفاق.

فلا يكون تكرار القرآن لحديثه عن الإيمان، أو غيره لمجرد التأكيد، وإزالة الشبهات.

بل هو في كل مقام: يراد منه استلفات التوجيه وإبراز الخفي، وإثارة الوعي من غفلته حيناً بعد حين. 

وإن نظرة القارئ في كل آية مستقلة عما يراد فيها لتحدث عنده تنيهاً جديداً، وخشية مستعدة من نفس الآية باستقلال...

ولا تحمل على التأكيد لسواها إلا عند ما تجمع آية إلى آية أخرى في موضوع واحد، فقد يراعى التوافق في الغرض المتحد...

على أنك حينما تجمع بين الآيتين مثلاً: فأيهما التي تراها تأسيساً، والتي  تراها تأكيداً ذلك مطلب عسير على الكثيرين: إلا إذا عرفنا تاريخ النزول على وجه الضبط وهيهات...

وعلى هذا الأساس ننظر في الآيتين السالفتين أ ـ ب.

أ ـ [إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آَيَاتِنَا غَافِلُونَ أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ] {يونس:7-8}.

في الكفر مقاطعة العبد لربه، وحين المقاطعة الروحية لا يتجه العبد نحو ربه بخوف من عذابه، ولا طمع في ثوابه، فإنه ينكر لقاء الله بعد الحياة الدنيا، ولا يحسب أن هناك بعثاً ولا حساباً، فلا مثار عنده الرجاء بمعنى الخوف أو الطمع.

وهذا وصف من جملة صفات يذكرها القرآن عن الكافرين: [إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا].والانصراف عن الآخرة، وإنكار ما بعد الموت يربط الإنسان بدنياه، ويفرغ لها قلبه، وحبه كله.

فلا يتخلى عن التعلق بها، بل ينصر همه فيها، وذلك وصف ثان من لوازم الكفران. [وَرَضُوا بِالحَيَاةِ الدُّنْيَا]. 

وحين يتصور الخيال أن الدنيا هي المراح والمغدى، وأن حبها هو المتاع والحظوة: تكون أثيرة عند المرء، ويطمئن إليها كأنها الخلود الذي لا يتبدل، وهي عبادته الشاغلة عما سواها... وذلك وصف ثالث ذكرته الآية: [وَاطْمَأَنُّوا بِهَا].

وإذا ما اجتمع حول المرء عوامل ثلث: مقاطعة لله...وتفرغ للدنيا... واطمئنان إلى مفاتنها: لا تجد بين جنبيه قلباً يفقه، ولا نفساً تخشع، ولا حياة لضمير...

وعند ما ينحدر المرء إلى هذه المهواة يفقد كل معاني الإدراك المنشود... ويبتعد عن كل تقدير ويتجرد من ملامح الرشد....

وهذه هي المسماة في القرآن بالغفلة عن آيات الله في سمائه، وفي أرضه وفي كتابه الذي ينادينا ولكن لا حياة لمن تنادي...

وتلك خصلة رابعة [وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آَيَاتِنَا غَافِلُونَ].

3 ـ وفي هذا المستوى يكون الإنسان في جهالته قد انحط إلى البهيمية، بل يكون أسوأ منها حالاً، لأنها معذورة بحرمانها من خصائص البشرية التي استوفاها وأغفلتها.

[أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الغَافِلُونَ] {الأعراف:179}.

وهؤلاء الذين ورطوا أنفسهم في الكفر وتردوا في ظلماته: لابد لهم من مآل يستقرون فيه مهما يكن زعمهم في عدم البعث أو الغفلة عن آيات الله تعالى.

فليكن مأواهم لائقاً بمسلكهم ومثبتاًً لما جحدوه.

وهذا هو منطق العدل الذي قامت عليه شرعة الله تعالى في سياسته لخلقه، وقد كاشفهم الله بذلك قبل أن تفلت من أيديهم الفرصة [أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ]. هم الكاسبون لهذا المأثم: فجزاؤهم من جنس عملهم.

4 ـ والجزاء بعد العمل يعتبر مبادلة بين الله وعباده...فما نقدمه نكافأ عليه [وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا] {الكهف:49}.

5 ـ وانظر بعد ذلك إلى الآية الثانية: [إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ...].

الإيمان: صلة وثيقة بين العبد وربه، وفرق ما بين المؤمن و الكافر أشبه ما بين النور والظلام، أو ما بين العلم والجهل، أو ما بين الحياة الفاخرة، والموت المسخوط الرخيص وخاصة إذا كان إيماناً مقروناً بصالح الأعمال، وذلك هو الإيمان الكامل الذي تعلنه الآية، ويعنى به القرآن أكثر من إيمان مجرد عن عمل.

والإيمان المثمر لصالح الأعمال هو العلاقة الروحية التي تهش لها الفطرة السمحة وتطمئن إليها النفوس المشرقة، وتجنح إليها الإنسانية العالية الرحيمة.

وبذكر الإيمان، وعمل الصالحات، انبثت في مجال الحديث نور، وفاح منه عبير، وابتسم في مطلعه أمل.

لأنه حديث عن الإيمان، والمؤمنين وليس أحب إلى الله من الإيمان، وذكر المؤمنين...!

وأنت تلحظ هذه الملامح في سياق الآية فقد تجاوزت عن ذكر الأعمال في تفصيل إلى ذكر المباهج التي يظفر بها المؤمنون.

وكان الحديث عن الكفار بذكر أعمالهم البغيضة، ليقيم عليهم الحجة بما كسبوا حتى كانت النار مأواهم، وفي هذا النمط صدود عنهم، وتجهم في شأنهم، وانصراف إلى سواهم.

أما المؤمنون فيتبسط القرآن الكريم في ذكراهم ويرطب الحديث عنهم بذكر تلك المباهج المرموقة، التي كانت لهم جزاء كريم عند ربهم.

6 ـ وأولها: [يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ]. كانت هدايتهم في الدنيا إيماناً وعملاً... أما هداياتهم الآن:فهي توجيه إلى الجنة بعد البعث والحساب...وهي تمكين لهم من منازلهم فيها... وتحقيق لآمالهم التي تعلقوا بها، واستجابة لطاعتهم في الدنيا بإدراك ما تطلعوا إليه في الآخرة.

وانظر في لطافة التعبير: يهديهم ربهم!!

فإنه يتعهدهم برعايته، ويقرر اعترافهم بأنه ربهم... وذلك هو عنوان الإيمان الذي كان السبب في الجزاء.

7 ـ وثانية المباهج: [تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ].

إذا أتيح للإنسان في دنياه أن يعيش وقتاً ما بين زروع وأنها ر، وفي صحة ورخاء: جاشت بنفسه مسرة تملك عليه نفسه، و تجمع إليه ألوان الهناءة، فينسى همومه، ويكاد يحسب أن الدنيا تطوعت له.

ونحن نعلم أن نعيم الجنة فوق تقديرنا له وأن متع الدنيا دون ما هنالك بكثير وكثير.

فما بالك إذا عرف المؤمنون أن لهم خلوداً في الجنات، يتقبلون في نعيمها، ويحظون بمشاهدها، ويتفيئون ظلالها، ويتملئون بأعينهم، وأحاسيسهم مالا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.

8 ـ ثالثة المباهج [دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللهُمَّ].

والدعوى هنا هي الدعاء ويكون بالتسبيح والتمجيد تلذذاً، وطرباً، وبهجة لما هم فيه، وشكراً على ما منحهم، و ليس ذلك تكليفاً، فقد تجاوزوا حياة التكليف إلى الخلود في نعيم مقيم:

وليس دعاؤهم طلباً لشيء، فقد أغناهم الله عن الطلب، وكلما تعلقت رغبتهم بشيء تفضل الله عليهم به، ودون سؤال: وفي حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (إذا شغل عبدي ثناؤه علي عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطيي السائلين).

وإذا كان هذا في أهل الدنيا: فما ظنك بأهل الدنيا.

9 ـ وبهجة رابعة: [وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ].

كان يخشاه المرء في دنياه: ونحو هذا [سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ] {يس:58}.

وتحيتهم من الملائكة كذلك: سلام يرددونه عليهم، كلما تلاقوا معهم: للتكريم والتهنئة [وَالمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ] {الرعد:24}.

وتحية المؤمنين فيما بينهم كذلك: سلام يتبادلونه في صفاء، وحبور، وسمرة تتجدد، فلا يشوبها  كدر، ولا تلاحقها غضاضة:[وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ] {الحجر:48}.

10 ـ وخامسة المباهج:[ وَآَخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ] {يونس:10}.

في كل ما يصادفونه من نعمة... وفي كل ما ينتهون إليه من شأن يحمدون الله رب العالمين.

وهذا شعار يدين به أهل الجنة على سواء، فالكل شاعر بحظه في جوار الله، والكل آمن على سعادته في رحاب الله...

ومهما يكن بينهم من تفاضل: فلا حسد، ولا أنانية، ولا جشع، ولا غير هذا...

بل العيون قريرة والنعماء وفيرة، والحياة فضفاضة الجوانب، والأمل مديد غير مقطوع، 9[وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ(8) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ(9) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ(10) لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً(11) فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ(12) فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ(13) وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ(14) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ(15) وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ(16) ]. {الغاشية}.. وهذا قبس موجز عن نعيم الجنة...

ونعيمها ـ كما سلف ـ فوق ما تراه العين في الدنيا، وفوق ما سمعت الأذن، وفوق ما يخطر على قلب بشر...

وإن كانت مطامح النفس، والعين لا تقف عند حدود، ففي الجنة كما قرر الكتاب الكريم ما تشتهيه الأنفس، وتلذ الأعين: من مستطاب لا يحيط به خيالنا.

11 ـ وفي نهاية الحديث بذكر الحمد على لسان المؤمنين في الجنة توجيه لنا إلى الاعتراف لله بفضله، وتقرير الحمد له على ما ندرك من خير. كما وجهنا في مقامات أخر إلى الابتداء بذكر اسمه تعالى.

فيكون العبد في سائر شؤونه مستعيناً بذكر الله، ومنتهياً إلى حمد الله.

وهكذا يكون اللسان رطباً بالثناء، وبالشكر والدعاء.

فلا يكون العبد جافاً مع ربه، ولا مقاطعاً للتوجه نحوه.

وقد قال سبحانه:[فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ] {البقرة:152}.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

المصدر: مجلة الأزهر السنة 36 ذو الحجة 1384هـ الجزء 10 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين