نظرات في فاتحة الكتاب الحكيم – 1-

 

[بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(1) الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ(2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ(4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ(5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ(6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ(7) ]. {الفاتحة}. 

خير ما تفتتح به الأعمال، وتستنجح به المقاصد، التوجه إلى الله العليِّ القدير، ثناء عليه بما هو أهله، واستعداداً للمعونة من قوته، واستلهاماً للرشد من هدايته. 

وتلك هي الخطوط البارزة في سورة الفاتحة [الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ] {الفاتحة:2} ثناء على الله تعالى

 [إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ] {الفاتحة:5} استعانة بالله سبحانه

 [اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ] {الفاتحة:6} استرشاد بنور الله تعالى.

عند هذه النظرة العابرة يقف أكثر الذين يتلون هذه السورة، أو الذين يستمعون إليها، ولعلَّ كثيراً منهم لا يدركون من تسميتها بالفاتحة إلا أنها تحلُّ المكان الأول في صدر المصحف.

ولكن هلمَّ بنا نلقِ على هذه السورة الكريمة نظرتين أخريين: 

نظرة في موادها ومقاصدها، مقارنة بموادِّ القرآن ومقاصده.

ونظرة في وجهة خطابها، مقارنة بوجهة الخطاب القرآني، وسنجد لها بذلك شأنا أهمَّ وأعظم.

ولنبدأ بالنظر في إحصاء المقاصد الكلية للقرآن الكريم، وفي مدى احتواء الفاتحة على هذه المقاصد.

فالشؤون التي تناولها القرآن الكريم، على تنوُّعها وكثرتها، نستطيع أن نجملها في أربعة مقاصد، هي في الحقيقة كل مطالب الدين والفلسفة والأخلاق، مقصدان نظريان: 

هما: معرفة الحق، ومعرفة الخير.

ومقصدان عمليان تثمرهما هاتان المعرفتان إذا قدِّر لهما أن تثمرا، فثمرة معرفة الحق هي تقديس الحق واعتناقه، وثمرة معرفة الخير هي فعلُ الخير والتزامه.

فالقصد النظري الأساسي للقرآن الحكيم هو: تعريفنا بالحقيقة العُليا، صعوداً بنا إليها على معراج من الحقائق الأخرى، فهو يعرِّفنا بالله تعالى وصفاته عن طريق توجيه أنظارنا إلى آياته في ملكوت السموات والأرض: في خلق الإنسان والحيوان والنبات، في سير الشمس والقمر والنجوم، في تكوين السحاب، في تسخير الطير، في تصريف الرياح، في ظاهرتي الحياة والموت، وفي سائر الظواهر النفسيَّة والكونيَّة الخارجة عن إرادتنا، وعن إرادة الكائنات كلها، والتي لا يستطيع العقل السليم أن يفسِّر وجودها، ولا بقاءها ولا تناسقها وتماسكها ووحدة نظامها، إلا بوجود قوة عاقلة قديرة مدبِّرة حكيمة، تقبض على زمام الأمر كله، وتوجه العالم كله على هذا النحو الموحد المعين، المختلف المؤتلف دون ملايين الملايين من الأوضاع الممكنة التي لابدَّ لها من أن تتناوب على الكون في كل لحظة لو ترك أمره لمحض المصادفة والاتفاق، أو لو ترك أمره لقوَّة عمياء صمَّاء طائشة، لا عقل لها، أو لقوَّة مخربة مدمرة باطشة لا رحمة لها، أو لقوَّة عابثة لاهية لاعبة لا هدف لها.

والقرآن حين يرينا صُنع الله تعالى في ملكوته لا يقف بنا عند هذه اللوحة العالمية في صورتها الحاضرة، ولكنه يوجِّه نظرنا إلى طرفي الزمان الكوني، فيطلُّ بنا على صورة العالم في ماضيه وفي مستقبله، في بدايته وفي نهايته، كما يوجه نظرنا إلى طرفي الزمان الإنساني، فيرينا صورةً من صنيع الله في الأفراد والأمم: في ماضيها وفي مستقبلها القريب والبعيد، في إسعادها وإشقائها، في إبقائها وإفنائها، في مثوبتها وعقوبتها.

هذه النظرة الشاملة إلى صنع الله في الأنفس والآفاق، وهذه المعرفة بالله في مظهري عدله وفضله، في صفتي جلاله وجماله إذا وقعت موقعها من النفس تقاضتها حتماً أن تتخذ لها موقفاً عمليَّاً تجاه هذه الحقيقة المقدسة العليا، وما ذلك إلا موقف التوقير والخشوع أمام هذا العدل والجلال، وموقف الولاء والحب أمام هذا الفضل والجمال، فمن عرف الله تعالى خشعت له نفسه، واطمأنَّ له قلبه، وذلك هو روح العبادة وجوهرها، الخشوع التام عن طوع واختيار، وعن رضى ومحبة.

فإذا كان هذا الأصل النظري الأول، هو معرفة الله تعالى، فالأصل العملي الأول الذي يثمره هذا الأصل، هو توقير الله تعالى، ومن جملة هذين الأصلين يتألف الجانب الإلهي بعنصريه النظري والعملي، والقرآن يفصِّله تفصيلاً، وسورة الفاتحة تجمله إجمالاً في شطرها الأول: [بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(1) الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ(2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ(4) ]. {الفاتحة}. وهذه هي المعرفة الأساسية: [إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ(5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ(6) ]. {الفاتحة}. وهذا هو الموقف العملي الذي تثمره تلك المعرفة.

وقبل أن ننتقل إلى الجانب الإنساني، الذي يتناوله الشطر الثاني من السورة، يجمل بنا أن نقف وقفة يسيرة أمام هذه الحبَّات الدريَّة التي يتألف منها هذا الجناح الأول من السورة لكي نمتع عقولنا وقلوبنا بتذوق معانيها، وإجلاء جمال مواقعها، ولنبدأ بهذه الصفات الحسنى: 

رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، شذرات ثلاث انتظمت أركان العقيدة القرآنية الثلاثة، في ترتيب بالغ الغاية في الإبداع والإحكام: المبدأ، فالواسطة، فالمعاد... التوحيد، فالنبوة، فالجزاء... 

[رَبِّ العَالَمِينَ]: ليس إله قبيلة أو شعب، ليس إله خير أو شر، أو إله نور أو ظلام فحسب، ولكنه ربُّ كل شيء: بارئه ومصوِّره، منقِّله في أطواره، مبلِّغه غايته، ممدُّه بحاجاته، مبتليه أو معافيه، وبالجملة مربي كل شيء بأنواع التربية الظاهرة والباطنة. 

هذا هو التوحيد الخالص، وهذا هو ركن المبدأ: [الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ] {الفاتحة:3} ليس رحماناً رحيماً فحسب، ولكنه هو الرحمن الرحيم، ليس واحداً من جملة الراحمين، ولكنه سبحانه هو المصدر الوحيد للرحمة. 

ثم هو ليس ذا رحمة واحدة، ولكنهما رحمتان مفسرتان في القرآن: رحمة وسعت كل شيء، ورحمة يختص بها من يشاء، فالرحمة الأولى وسعت الإنسانية جميعها، لا أقول وسعتها بنعمة الوجود والحياة والرزق المادي فحسب، ولا أقول وسعتها بنعمة الهداية الفطرية وكفى، ولكن بنعمة الهداية السماوية نفسها وذلك بإرسال الرسل إلى كل الأمم: [وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا] {النحل:36}. [وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ] {فاطر:24}. هذه هي الرحمة الأولى؛ الرحمة الأساسية العامَّة، التي هو بها (رحمن) ممتلئ الخزائن بالرحمة، باسط اليدين بالنعمة: [وَآَتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لَا تُحْصُوهَا] {إبراهيم:34}.

ورحمة أخرى خصوصية إضافية، علاوة يمنحها سبحانه لمن يستحقها، تلك هي رحمة الاصطفاء والاجتباء، والقيادة والإمامة والتوفيق والرشاد، والمزيد من الفضل: [اللهُ يَصْطَفِي مِنَ المَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ] {الحج:75}. [اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ] {الأنعام:124} [اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ] {الشُّورى:13} [وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى] {محمد:17} [يَزِيدُ فِي الخَلْقِ مَا يَشَاءُ] {فاطر:1} [يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ] {الرعد:26}. وهذه هي الرحمة التي هو بها رحيم، على هاتين الرحمتين يقوم ركن النبوَّات فهو رحمة عامَّة للمرسل إليهم، ورحمة خاصَّة للمرسلين، ومن اهتدى بهديهم وهذا هو الواسطة بين المبدأ والمعاد... 

[مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ] {الفاتحة:4} إليه وحده سبحانه ترجع الأمور، وبيده تعالى تقرير المصير الأخير، يقف الخلق جميعاً بين يديه مسؤولين، فيدينهم ويجزيهم بما كانوا يعملون، وهذا هو الركن الثالث والأخير، ركن المعاد والجزاء.

عرفنا الآن مغزى هذه الصفات الثلاث ومواقعها فيما بينها، فلننظر إلى موقعها مما حولها، لنرى كيف وقعت بين قضيتين، [الحَمْدُ للهِ] و[إِيَّاكَ نَعْبُدُ]. فكانت تأييداً لما قبلها، وتمهيداً لما بعدها، فمنزلتها من قضية الحمد منزلة البرهان من الدعوى، ومنزلتها من قضية العبادة منزلة القوة المحرِّكة من الحركة المطلوبة.

وفي الحق أنه إذا كان الله تعالى وحده هو الذي أعطى كل شيء خلقه، وهو الذي كفل كل شيء وتعهده بالإمداد آناً فآناً حتى أبلغه مداه، وإذا كان هو سبحانه وحده الذي يملك خزائن الرحمة والنعمة كلها، وهو تعالى الذي ينفق منها، وهو جل وعلا الذي يضاعفها لمن يشاء، وإذا كان هو وحده تعالى الذي بيده فصل القضاء، وتقرير المصير، فأي شيء أحق منه تعالى بنعوت الجمال والجلال؟ بل أي شيء غيره سبحانه يستحق هذا الثناء والإجلال؟ الحمد والثناء كله حقٌّ مستحق خالصاً مخلصاً لله تعالى... تلك إذن قضية معها برهانها.

هذا البرهان الاستقرائي، الذي يستقصي مظاهر العظمة والرحمة كلها في الأزمنة الثلاثة: الماضي، والحاضر، والمستقبل، فيحصرها في الله تعالى، هو سبحانه في الوقت نفسه قوة دافعة تأخذ بأقطار نفسك وتوجهك إلى غاية معيَّنة عمليَّة، فإنَّ نظرة إلى ماضيك وقد أتى عليك حين من الدهر لم تكن شيئاً مذكوراً فتعهَّدك الخلاَّق العظيم في مختلف أطوارك حتى بلغت أشد وأصبحت سميعاً بصيراً خصماً مبيناً، مستأصلاً لخلافة الأرض، لابدَّ أن تتقاضاك حقُّ الاعتراف له تعالى بالفضل والجميل، قياماً بواجب الرضاء، ونظرة إلى حاضرك وإلى مستقبلك القريب وأنت تتقلب كل آن في رحمته، وتطمع كل آن في المزيد من نعمته، لاشك تثير فيك نحوه سبحانه باعثة الحب والرجاء، ونظرة إلى مستقبلك البعيد وأنت واقف أمامه تعالى في ساحة القضاء، وقد علق مصيرك في كفتي ميزانه، لابدَّ أن تنفث في روعك مزيجاً من الرغبة والرهبة والاستحياء.

ماذا يكون موقفك إذن من هذه الحقيقة المحيطة الغامرة، وأنت كلما التفت إلى أمسك أو إلى يومك أو إلى غدك لم تر إلا يد جلالها أو يد جمالها؟!

النتيجة الطبعيَّة التي لا تستطيع دفعها عن نفسك بعد هذه المقدمات الثلاث، هي أن يضمحلَّ في عينك كل ما ترى في الوجود من مظاهر زائفة، وظواهر زائلة، وأن ترتفع فوق العالم كله بهامتك، وأن تتحول كل رغبتك ورهبتك، إلى هذا المنبع الأول والوحيد لكل قوة ورحمة، وهنالك لا يسعك إلا أن ينطلق لسانك في حب خاشع قائلاً: أيها الحق الجامع المانع! لك كلي، لك صلاتي ونسكي، ولك محياي ومماتي، إياك أعبد، ولك وحدَك أركع وأسجد، على أنك لو كنت أوسع أفقاً وأيقظ قلباً، لوجدت نفسك لست وحيداً في هذا الموقف، ولرأيت العالم كله حولك راكعاً ساجداً أمام هذه العظمة الباهرة، لا تقل إذن: إياك أعبد، ولكن قل: [إِيَّاكَ نَعْبُدُ] وهذه هي النتيجة الحقيقية التي أعلنها القرآن الحكيم: [إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ] لا نعبد إلا إياك، ولا نستعين إلا بك!.

- ماذا أقول؟ لا نستعين إلا بك! إني لأكاد أسمع من يَهْمس في أذني همساً يقول لي: أما [إِيَّاكَ نَعْبُدُ] فقد فقهناها، وأما [إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ] ففي النفس منها شيء، إذ من ذا الذي يطيق هذا الاستغناء الكلي عن معونة الخلق؟ أليس الناس كلهم يعين بعضهم بعضاً، ويستعين بعضهم ببعض؟ أليس التعاون هو أساس الحياة؟ أليس القرآن نفسه يقول: [ وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى] {المائدة:2}.

- بلى أنا أستعين بك، وأنت تستعين بي، ولكننا كأمة، والناس، والعالم أجمع، بمن نستعين وراء طاقاتنا المحدودة، وحيلنا المعدودة؟ ثم إني حين أستعين بك وتستعين بي، فمن ذا الذي يبعث الباعثة في قلبك لمعونتي وفي قلبي لمعونتك؟ ومن ذا ييسر لي ولك وسائل هذه المعونة؟ ومن ذا الذي ينجح هذه المعونة ويؤتيها ثمرتها؟ الله تعالى وحده في الحقيقة وفي النهاية هو المستعان.

[إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ] باجتماع هاتين الكلمتين بطل الشرك كله: شرك العبادة لغير الله تعالى، وشرك الاستعانة والاستشفاع بما لم يأذن به الله سبحانه، وباجتماع هاتين الكلمتين بطلت العقائد المتطرفة كلها: بطلت عقيدة الجبر المحض، الذي ينكر قدرتنا ومسؤوليتنا، وبطلت عقيدة الاختيار المحض، الذي يدَّعي الاستغناء عن معونة ربنا، فنحن نعمل ونتوكل، نعبد ونستعين.

نعبد أولاً... ونستعين ثانياً... نؤدي واجبنا، ثم نطالب بحقوقنا، ألا فليستمع أولئك الذين لا يفتأون يطالبون بحقوقهم، ولا يبدأون بأداء واجباتهم... إنهم لم يتأدبوا بأدب القرآن... ألا فليصححوا موقفهم من فاتحة الكتاب، التي يرددِّونها في صلاتهم كل يوم تسع عشرة مرة على الأقل.

وللمقالة تتمة في الحلقة القادمة.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم

المصدر: (مجلة المجلة، ذو الحجة 1376 - العدد 7).

***

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين