نظرات في

 

 

        الأستاذ محمد كمال مشكاة المحترم

        السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

        وبعد: فلقد بذلتم جهداً مشكوراً في تأليف "التفسير الجديد لقصة أصحاب الكهف"، وبعد الاطلاع عليه تبيَّن أنَّ غرضكم منه الردُّ على متقوِّلٍ اتهمَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم بأخذ قصتهم من النصارى. وتلك شِنْشِنة أعرفها من أخزم، وقد دفعكم هذا إلى التزام أي قولٍ يُمكنُ الردُّ من خلاله عليه وعليهم.

        والذي أراه عرض الآراء والاجتهادات من غير جزم قاطع، فإنَّ الأمر قائمٌ على الاحتمالات، والقرآن والسنة لم يتعرضا للتفاصيل من حيث تعيين الزمان والمكان صراحةً، فإنْ فهِمَ أحدٌ من تلك التعابير إشارةً ما فيحسنُ أن يذكرها على أنها رأي أو فهمٌ قابل للصحة أو للخطأ، وتعلمون أنَّ الجزم عسير، ولا سيما في قصة كهذه القصة التي ترون أنها وقعتْ في القرن السادس قبل الميلاد -من حيث ابتداؤها- والقرن الثالث -من حيث انتهاؤها- وهذا زمن طويل.

        ويقول الصحابيُّ الجليل عبدُ الله بن عباس -فيما يرويه ابنُ أبي حاتم، كما في تفسيره "القسم المجموع 7/ 2355-:

        "إنّ الرجل ليفسِّر الآيةَ يرى أنها كذلك، فيهوي أبعدَ ما بين السماء والأرض، ثم تلا (ولبثوا في كهفهم...) الآية، ثم قال: كم لبث القومُ؟ قالوا: ثلاث مئة وتسع سنين. قال: لو كانوا لبثوا كذلك لم يقل الله: (قل الله أعلم بما لبثوا) ولكنه حكى مقالة القوم فقال: (سيقولون ثلاثة) إلى قوله (رجماً بالغيب) وأخبر أنهم لا يعلمون قال: سيقولون (ولبثوا في كهفهم ثلاث مئة سنين وازدادوا تسعا) ".

        -قولكم إنَّ القصة يهودية وليستْ نصرانية.

    هذا أورده عددٌ من العلماء بين ذاكرٍ ومستظهرٍ ومحتمِل، وبعضُهم ذهبَ إلى أنها -قد تكون- قبْلَ موسى:

        ويُستحسنُ مراجعةُ "النكت والعيون" للماوردي (3/ 288)، وتفسير الرازي (11/ 114)، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (10/ 359)، وتفسير ابن كثير (4/ 370)، ونصه مهمٌ فهو يقول:

"والظاهر أنهم كانوا قبل ملة النصرانية بالكلية، فإنهم لو كانوا على دين النصرانية لما اعتنى أحبارُ اليهود بحفظ خبرهم وأمرهم لمباينتهم لهم، وقد تقدَّمَ عن ابن عباسٍ أن قريشاً بعثوا إلى أحبار اليهود بالمدينة يطلون منهم أشياء يمتحنون بها رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فبعثوا إليهم أن يسألوه عن خبر هؤلاء، وعن خبر ذي القرنين، وعن الروح، فدلَّ هذا على أنَّ هذا أمر محفوظ في كتب أهل الكتاب، وأنه متقدِّم على دين النصرانية، والله أعلم".

        ويُراجع كذلك تفسير ابن عاشور (15/ 265)، وتفسيرالمراغي (15/ 125)، و"الأساس" لسعيد حوى (6/ 3167)، ورأيُه مطابقٌ لما جاء في كتابكم فهو يقول:

        "وأنا لا أستبعد أن تكون قصة أصحاب الكهف سابقة على عهد المسيح عليه السلام، ولكن النصارى أخذوها ونسبوها إلى أنفسهم، فليس هناك مِنْ شيء قطعي في هذا الشأن إلا روايات الله أعلم بصدقها، والاحتمالان واردان".

        وينظر "حاشية الشيخ زاده على البيضاوي" (3/ 254).

        ومن المفيد الاستظهارُ بأقوال هؤلاء العلماء، مع ملاحظة عدم الجزم أيضاً، لأنه ما مِنْ دليلٍ إلا ويتطرق إليه الاحتمال، ويحتمل النزاع والجدال.

        وإذا ذكرتُمْ مواطنَ الاتفاق بين بحثكم وبحث المفسِّرين القدماء والمُحْدثين أعطى للبحث قوة وتأييداً، إلى حصول فوائد أخرى...

        -جزمتم أن القصة وقعتْ في مدينة أفسس، مع أنكم ترون عدمَ إمكان الاهتداء إلى الكهف قديماً وحديثاً، فكيف تأتّى لكم هذا الجزم؟

        وخلافُ العلماء في تعيين مكان الحدث طويل.

        ويُستَحْسنُ مراجعة "تفسير الرازي" (11/ 114)، و"الكشاف" (2/ 709)، و"المحرر الوجيز" لابن عطية (10/ 392)، و"البحر المحيط" لأبي حيان (6/ 102)، و"نظم الدرر" للبقاعي (12/ 17)، و"التسهيل" لابن جزي (1/ 503)، و"كهف أهل الكهف" للدكتور رفيق وفا الدجاني، و"في مسيرة الحياة" لأبي الحسن الندوي، و"الميزان" للطباطبائي (7/ 295)، و"فتح الباري" للحافظ ابن حجر (6/ 581)، وتفسير ابن عاشور (15/ 263) -وهو مهم-، و"موقع أصحاب الكهف وظهور المعجزة" لمحمد تيسير، وغير ذلك.

        -قولُكم بأنَّ الرقيم اسم الكلب جزمَ به الزمخشري، ونُسِبَ إلى أنس وسعيد بن جبير والشعبي...

        -جزمُكم في هذه المسائل:

 1- تفسير "من أمرنا رشدا" بمعنى: عسى أن يهديني الله إلى معرفة الأقرب فائدة من هذا الخلاف في عددهم.

 2- وأن النصارى لم يشكوا في البعث الجسدي.

 3- وأن الورق هي العملة المضروبة.

 4- وبحياة أهل الكهف.

 أقول: جزمُكم هذا كلُّه موضع نظرٍ وأخذٍ وردٍّ، فلو عُرِضَ كلُّ هذا على أنه رأيٌ كان أدعى إلى هدوء المتلقي والقارئ والدارس، وعدم إثارة الردود.

        فالنقطة الأولى لم أطلعْ أنَّ أحدًا قال بها، ويبدو أنَّ صريح القرآن يردها.

        والقطة الثانية لا تُسلَّمُ ففي المسلمين مِنَ الفلاسفة مَنْ ينازع في البعث الجسدي مع أنه أوضح عندنا من غيرنا ! يُنظر "تهافت الفلاسفة" للغزالي.

        والنقطة الثالثة يُنازعها قولُ ابن قتيبة -كما في زاد المسير (5/ 121)-، والزمخشري (2/ 710): الورق: الفضة مضروبةً كانتْ أو غير مضروبة - وهذا نص الثاني-.

        والنقطة الرابعة ذكرها احتمالاً القرطبيُّ في تفسيره (10/ 388)، وبيّنَ ابنُ حجر في "فتح الباري" (6/ 581) أنَّ حديث "أصحاب الكهف أعوان المهدي" سنده ضعيف وقال: "فإنْ ثبت حُمِلَ على أنهم لم يموتوا، بل هم في المنام، إلى أنْ يُبعثوا لإعانة المهدي، وقد وَرَدَ في حديثٍ آخر بسندٍ واه أنهم يحجون مع عيسى بن مريم".

        ومن الضروري جداً مراجعةُ هذا الحديث الأخير في "التذكرة" للقرطبي ص 374 !

        ويُنظر عن موت أهل الكهف تفسير عبد الرزاق الصنعاني (1/ 333) فهذا رأي ابن عباس.

        وقد يُسأل: لماذا التأكيد في أمر حياتهم؟

        ويؤخذ من "الميزان" للطباطبائي أنَّ هذه المسألة عقيدة شيعية!

        فنرى إعادة النظر في هذه المسألة وغيرها من مسائل الكتاب.

        -في الكتاب تعابير غير سليمة، ودفاعٌ عن اليهود لا نرى داعياً له، ولا سيما الاستشهاد بآيتين قرآنيتين على ذلك ! وثم أمور أخرى تثير الجدل والمناقشة.

        وأخيراً فقد قال تعالى: (ولا تمار فيهم إلا مراء ظاهراً ولا تستفت فيهم منهم أحداً)

       ألا يدل هذا التوجيه الرباني -وهو في ظاهره عامٌّ في جميع أمرهم- على ترك الخوض في التفاصيل، لما فيها من احتمالات الأضاليل والأباطيل، والاكتفاء بما قصَّه الله تعالى عن تلك الأقاويل؟

        أنصحُ بمراجعة مزيدٍ من التفاسير.

        وأرجو لكم التوفيقَ والسداد، وأن يجعلكم الله ممن يفوز بأجرين: أجر الاجتهاد وأجر إصابة الصواب.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين