نحو صياغة إسلامية لعلم الاجتماع (5)

عوامل التغيير:

في القرآن والحديث إشارات لعوامل التغيير وليس ذلك على سبيل الحصر ولا على طريقة البحث العلمي. لأن ذلك متروك لتفكير البشر واجتهادهم، فالقرآن كتاب هداية لجمهرة الناس، وليس مقصورا على الخاصَّة وهدفه هدايتهم وإرشادهم ودلالتهم.

ولذلك يكفي أن يشير القرآن ويدل على أن الظلم والبطر والترف تسبب هلاك الأمم لتحصل العبرة والفائدة العملية.

ولكن على العالم الباحث أن يفتش فيما وراء كلمة الظلم من أنواع كالظلم السياسي والاستبداد والاستعلاء والظلم الاقتصادي والمالي كظلم المرابين والأغنياء للدائنين والفقراء وظلم القضاة والحكام المتقاضين والمحكومين، وهكذا له أن يحلل مفهوم البطر والترف والإسراف الواردة كذلك في آيات كثيرة على أنَّه من أسباب تبدل النعم ودمار الأمم.

من هذه الإشارات ما ورد في الحديث عن تأثير البيئة الجغرافية في الأخلاق، وذلك قوله عليه الصلاة والسلام: «من بدا جفا»، وفي رواية «من سكن البادية جفا» (رواه الترمذي في السنن).

وكذلك الإشارة على تأثير العامل الاقتصادي في الحديث «اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر»، إذ قرن بين الكفر والفقر فجعلهما مصيبتين متعادلتين من جهة، وإشارة من جهة أخرى إلى ما يوجده الفقر من استعداد لتغير العقيدة، وهذا الحديث الصحيح يقوي معنى الحديث الآخر وهو ضعيف ونصه «كاد الفقر أن يكون كفراً»، وبيئة الفقر هي البيئة المستعدة للثورة على أوضاع المجتمع وعقائده.

لذلك شرع الإسلام أحكاماً كثيرة لإزالة الفقر بطريقين طريق الإلزام بواسطة أولي الأمر وطريق الأخلاق بالحضّ والترغيب. وفي مقابل ذلك أشار القرآن إلى أن المترفين يميلون إلى التقليد واستمرار الأوضاع الفاسدة ولا يحبون التغيير الصالح ويقفون أمام دعوات الأنبياء والمصلحين.

ونجد أنَّ في القرآن الكريم إشارة سريعة إلى العلاقة بين التمكن من إقامة الشعائر الدينية وعبادة الله ووجود الوسائل المادية المساعدة وذلك في قوله تعالى على لسان إبراهيم عليه السلام ﴿رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ﴾ [إبراهيم: 37].

ويشير القرآن إلى أنَّ البشر إذا اقتصروا في تطلعهم وهدفهم على الحياة الدنيا وحدها فإنَّ النتيجة هي الصراع بين الكتل البشرية حول المال. إن القانون مشروط بإطار الحياة الدنيا، وذلك في قوله تعالى: ﴿اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ﴾ [الحديد: 20] ، الصراع لزيادة عدد السكان ولزيادة الأموال وحيازتها، ولكن مفعول هذا القانون المشروط يتغير إذا جعل الإطار شاملاً للحياة الآخرة وما تتطلبه من مُثل عليا فيصبح المال أداة ووسيلة لا غاية ويأخذ الصراع شكلاً آخر وهو التنافس على العمل الصالح في الدنيا ولا نقول صراع أوسع وأبعد، وهذا ما تشير إليه الآية التالية: ﴿سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾ [الحديد: 21].

ويؤكد هذا المعنى ما تشير إليه الآية الكريمة الأخرى من عوامل العصبية وحب المال والأرض في مقابل المُثل العليا التي يدعو الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم إليها ويريد أن تكون هي العليا والمهيمنة، ﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ [التوبة: 24]

ويشير النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى عامل الوراثة في قوله: «اغتربوا لا تضووا»، أي تزوجوا من البعيدين عنكم في القرابة لئلا يخرج النسل ضاوياً هزيلاً.

وأما أثر العامل الاعتقادي فالقرآن مليء بشواهد عليه في حياة الأفراد -كصاحب الجنتين في سورة الكهف. وفي حياة الجماعات وما تولده فيها العقائد الوثنية بأنواعها من نتائج سيئة: عبادة الشمس في مملكة سبأ، وعبادة فرعون من شعبه، وعبادة الكواكب في قوم إبراهيم - شعب ما بين النهرين، وعبادة الأوثان وتقديس الحيوانات المنذورة للإله إلى غير ذلك.

إن هذا التفكير السلبي المستند إلى العوامل المؤثرة في الحياة الاجتماعيَّة والذي هو من إيحاء الآيات القرآنية والأحاديث النبوية نجد أثره واضحاً في تفكير علماء المسلمين من الفقهاء والمؤرخين وعلماء الأقوام والمجتمعات ويمكن أن نأتي ببعض الأمثلة على ذلك.

سئل الإمام مالك -رحمه الله- عن رأيه في التسعير على الجزارين فأجازه، ولكنه أضاف: أخاف أن يقوموا من السوق، وقال الفقيه المالكي أبو الوليد الباجي أن ذلك يؤدي إلى إخفاء الأقوات.

وهذا التفكير المعلَّل بأسبابه في الأمور الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة عامَّة مسيطرٌ على تفكير علماء المسلمين. ويمكنك أن تقرأ كتاب «الحسبة» لابن تيمية لتتحقق من ذلك.

ونعتقد أن هذا التفكير العلمي في الميدان الاجتماعي الذي وجَّه إليه القرآن كان السبب في ظهور مؤلفات في دراسة الشعوب وعاداتهم ككتاب البيروني عن السند، ومؤلفات المسعودي، وهذه كلها من نوع ما يسمى اليوم (علم الشعوب والأقوام)، وهذا الإنتاج هو البداية التي انتهت بعد عدة قرون بظهور مقدمة ابن خلدون التي كان فيها أولَ رائد في العالم لعلم الاجتماع الحديث.

التغيير:

إنَّ الإسلام بناء على ما تبين في القرآن والحديث من تحرك المجتمع وتغيره بسبب عوامل التغيير؛ يدعو إلى تطبيق علمي لعلم الاجتماع أو إلى القسم الأخلاقي التطبيقي، فيدعو المسلم إلى تغيير المجتمعات نحو الأفضل ابتداء من تقويض عقائد الوثنية والشرك ذات النتائج الضارة في جميع المجالات إلى تقويض النظم الفاسدة والجائرة، النظم السياسيِّة والاقتصاديَّة عن طريق الدعوة أولاً، ثم عن طريق الجهاد بأنواعه إذا اقتضى الأمر ذلك.

قال الصحابي ربعي بن عامر رضي الله عنه لقائد الفرس إثر إغرائه لهم بالرجوع عن الحرب: «إن الله بعثنا لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ومن ضيق الدنيا إلى سعتها».

إن قانون التغيير الاجتماعي كأمر وجودي واقع نص عليه القرآن صراحة في قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [الأنفال: 53].

والله تعالى -كما يقول ابن تيمية- عودنا أن يفعل بالأسباب، وكذلك تغيير هذه النعم إنما يقدر الله تعالى لها أسباباً حتى تتغير، وهذه الأسباب هي ما يفعله هؤلاء القوم من أمور سيئة تكون عاملاً في هذا التغيير.

وهذه الفكرة أي فكرة التغيير وإمكانه وكونه مطلوباً عبَّرت عنها الآية الأخرى: ﴿لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ [الرعد: 11]، وهي تشمل التغيير في الاتجاهين: الأحسن والأفضل، ونحو الأسوأ. ونقطة الانطلاق فيها تبدأ من الإنسان فهو الذي يبدأ بالتغيير ليصل إلى أحسن حال أو إلى حال أسوأ، ومعنى هذا أن الإنسان قادر على تغيير المجتمع، وأن الله سبحانه أعطاه هذه القدرة ودلَّه على الطريق وهو معرفة أسباب التغيير وعوامله.

إنَّ الإسلام طلب تغيير الشرك بالتوحيد، والجهل بالعلم، والكسل والبطالة بالعمل، والفقر بالغنى غير المبطر والضعف بالقوة، والأثرة بالتضامن، والفحش بالعفة، إلى غير ذلك من نظام القيم الإسلامي.

إنَّ الإسلام جعل للتغيير أهدافاً وطلب العمل والحركة والتغيير للوصول إلى هذه الأهداف. وجعل للتغيير طريقة وهو حسب التعبير القرآني (تغيير الأنفس) ويشمل هذا التغيير نوعين تغيير (الأنفس) مجموعة وذلك هو المجتمع وتغيير (النفس) بالنسبة للفرد.

الخلاصة:

1- إنَّ المفهوم العلمي لعلم الاجتماع باعتباره دراسة واقعية موضوعية للمجتمع الإنساني لحوادثه وظاهراته، والظاهرة هي الحادثة المتكررة العامة واستخراج سنن حركتها وتغيرها وتطورها ومراحلها ودراسة التجمعات البشرية والمؤسسات الاجتماعيَّة كالأسرة والدولة، إنَّ هذا المفهوم مقبول، بل ماثل وموجود في نصوص الإسلام الأصلية في الكتاب والسنة. وقد انطبع في أذهان المسلمين وأقبل علماء المسلمين على السير من منطلقاته، ويمكننا اليوم أن نسير فيه ونستفيد كذلك من تجارب غيرنا في ميادينه.

2- أما النظريات الخارجة عن هذا النطاق والتي هي من قبيل ميتافيزيق علم الاجتماع فينبغي أن يكون مصدرها ومنطلقها هو الإسلام نفسه؛ إذ إنَّ للإسلام نظرات محددة في أصل الأديان ونشأتها وتعاقب النبوات وتتابع تشريعاتها وأحكامها، كما أن فيه مفهوماً للأمة وموقفاً نظريَّاً وعملياً من التطور الإنساني من القبيلة إلى التعارف الإنساني الذي يجمع وينسق بين جميع أنواع الأشكال الاجتماعيَّة. فما علينا إلا أن نستخرج هذه النظرات ونصوغها لنضعها في مكانها من علم الاجتماع بالمعنى الواسع بدلاً من النظريَّات المبنيَّة على مفاهيم عقائدية أخرى.

3- وهناك قسم ثالث وهو دراسة قضايا اجتماعيَّة متعددة من خلال التشريع الإسلامي، أو كما يقدمها الإسلام وعرضها بالطريقة الاجتماعيَّة، ووضعها في موقعها وفي إطارها العام. مثال ذلك الأسرة كما يحددها الإسلام من جهة وتركيبها ووظائفها وشخصية أفرادها الحقوقية إلى غير ذلك من خصائصها، ثم مقارنتها بأنواع الأسرة الأبوية الكبيرة المعروفة في التاريخ والأسرة الزوجية المنتشرة في العصر الحاضر وبذلك تتحدد صفاتها، وتصنيفها الاجتماعي بين أشكال الأسرة، ومن هذا القبيل بحث فكرة (المسئولية) في التشريع الإسلامي وتحديد صفاتها مستنبطة من الأحكام الفقهية في أحكام المعاملات والجنايات، ثم الاطلاع على ما كتب من بحوث في تطور المسئولية خلال التاريخ وستظهر في مثل هذه الدراسات المقارنة عظمة الإسلام وخلوده.

4- هنالك قسم رابع يشتمل على بحوث ميدانية في المجتمع الإسلامي المعاصر فيما هو من اختصاص علم الاجتماع ويقصد التغيير نحو الأفضل ووفقاً للأهداف التي حددها الإسلام، كدراسة العقائديات الدخيلة والتيارات الفكرية ودراسة موضوعات الطلاق والعمل والملكية وعلاقات الإنتاج ومرحلة التصنيع ودراسة رواسب العصور والتخلف من الأفكار المدسوسة على الإسلام كالتواكل وإسقاط التدبير والاعتقاد بالخرافات التي حاربها الإسلام وسائر أسباب التخلف.

هذه خطة مقترحة لصياغة إسلاميَّة لعلم الاجتماع في خطوطها الكبرى، وهي وليدة تفكير في الموضوع منذ سنين طويلة كانت البداية الأولى منها منذ أيام دراستي لعلم الاجتماع في جامعة باريس، ثم كنت أعاود التفكير فيها خلال تدريسي لعلم الاجتماع في كلية الشريعة في جامعة دمشق، وفي كلية البنات في جامعة أم درمان الإسلامية؛ إذ استجيب لاقتراحي بتدريس علم الاجتماع بطريقة إسلاميَّة وسمُّوها (النظريَّة الاجتماعيَّة الإسلاميَّة)، وإن كنت لم أرتض هذه التسمية ومن خلال أبحاث أخرى اجتماعيَّة إسلامية كالأسرة والمسئولية والأمة.

وإني أرجو أن تتضافر الجهود، ولا سيما جهود المتخصصين لشق هذا الطريق الجديد وتعبيده، ثم إقراره لدى الرأي العام العلمي في البلاد الإسلامية ليستفاد حينئذ من تدريس علم الاجتماع، وليكون عوناً على تقوية الإسلام، ولنزيل الآثار السيئة التي تركها علم الاجتماع في صيغته الغربية، وتنشط البحوث العلميَّة كذلك في مراكز البحث والاختصاص للإسهام على الصعيد العالمي في ترقية علم الاجتماع بوجه عام ليكون أداة نفع للإنساني،ة لا أداة للمتاجرة باسم العلم لحساب مراكز الاستعمار والتبشير بالنظم العقائدية المحطمة للعالم الإسلامي وللشخصية الإسلامية، وأداة بيد أساطين الصهيونية العالمية من أساتذة الجامعات في الغرب للإفساد والتدمير، والله المستعان في إنجاح القصد والتوفيق لما فيه الخير والسعادة.

الحلقة السابقة هـــنا

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم

المصدر: مجلة المسلم المعاصر العدد 12 /1 سبتمبر 1977

جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين