نحو صياغة إسلامية لعلم الاجتماع (1)

لقد تسلل الفكر الغربي في فلسفاته الفكرية ومذاهبه العقائدية بما فيها من حق وباطل، وصحيح وزائف، وصدق وإفك، وخير وشر من خلال التعليم، وعبر جميع فروع المعرفة والثقافة إلى عالمنا الإسلامي يحمله الاستعمار بجيوشه، والغزو بشتى أنواع جنوده ودخل دخول القوي المستعلي بقوة الظاهر وفتنة الباطن.

وقد اتخذ الفكر الغربي جميع خصائصه من جميع العلوم وفروع المعرفة، حيث اتخذها جسراً يعبر عليه من العلوم الطبيعية، إلى الطبيعة التي أحلت محلَّ الإله الخالق، فهي التي تعطي للمخلوقات ما لها من صفات وتزودها بالخصائص، وهي الفاعلة الخالقة المقدِّرة المدبِّرة، - وهي نفسها كذلك المخلوقة المدبَّرة.

حتى العلوم الإنسانية التي جعلت من الإنسان - بصفته إنساناً متميزاً عن بقية الكائنات - موضوعا لبحثها كالفلسفة وعلم النفس وعلم الاجتماع والتاريخ والتربية والأخلاق والأدب والحقوق، التي تبحث عن المعرفة الإنسانية والنفسية الإنسانية والمجتمع الإنساني وتاريخ الإنسان وطرق تثقيفه أي تعليمه وتهذيبه ومقاييس الجمال والحق لديه.

وقد كانت أقوى شحنة وصلتنا من تأثير الفكر الغربي عن طريق هذه العلوم الإنسانية؛ ذلك لأن لها خلفيات عقائدية فهي تنطلق من تصور معيَّن للوجود كله وتشتمل على مقاییس الحق والخير والجمال المنبثقة عن هذا التصور وتختفي هذه الخلفيات وراء ظاهرها العلمي.

فالتصور العام الذي انتهى إليه الفكر الغربي ترك أثره في علوم مختلفة، للكون (الطبيعة) وللإنسان فردا (علم النفس) وجماعة (علم الاجتماع) وتطورا (التاريخ) ولمقاییسه للحقيقة (الفلسفة) وللحق (الحقوق) والخير (الأخلاق) والجمال (الأدب)، وكان الأساس الذي تقوم عليه والصعيد الذي تنطلق منه في فروعها وجزئياتها.

وهذا التصور العام للوجود في الثقافة الغربية والخلفية العقائدية لفروعها المختلفة تجري في كل منها مجرى الحقائق المسلمة التي اصطلح أهلها على الإيمان بها والتسليم بها جيلا بعد جیل، تسليما لا يقل عن تسليم أهل الأديان بعقائدهم، ولا سيما بالنسبة إلى الأجيال اللاحقة منهم. فهم في قبول هذه العقائد - التي يزعم أنها علميَّة أو عقلية - مقلدون لا يقبلون وضعها موضع البحث والنقد، فضلا عن أن تكون موضع شك أو إنكار، فتَنْسَاب في الكتب المقررة وفي الحديث فيما بينهم على أنها من البديهيات المسلمة أو من الحقائق الثابتة.

هكذا هي عند أجيال الغربيين أو أكثرهم وجمهرتهم الآراء المتعلقة بالدين والإله والوحي والنبوات، وأصل خلق الإنسان ونهاية الحياة والخير والشر والفضيلة والرذيلة. والفرق بينهم وبين أهل الأديان، - ولا سيما منهم - أن هؤلاء إنما قَبل أوائلهم الحقائق الدينية بعد محاكمتها عقليا، وبعد التدقيق في أحوال قائليها - وهم الأنبياء - وسيرتهم وتطبيق مقاییس النقد في صدقهم وسلامة عقولهم لتصديقهم في ادعاء الوحي الإلهي. وجميع الأجيال اللاحقة التي تعاود المحاكمة نفسها يكون إيمانها عن قناعة عقلية لا عن تقليد.

ونستطيع أن نلخص هذه الحقائق العقائدية المشتركة بين فروع المعرفة والثقافة الغربية بقولنا:

1- الوجود كله منحصر في الإنسان والطبيعة وهو جزء منها ونوع من أنواعها والطبيعة وجدت هكذا بنفسها وكذلك سننها أو قوانينها فهي مقدرة بنفسها من غير مقدر لها. والعقل وحده طريق معرفة الحقائق وليس ثمة طريق آخر.

2- وليست المثل الأخلاقية والقيم والمفاهيم الحقوقية إلا وقائع أو حوادث كالحوادث الطبيعيَّة نشأت وتطورت فهي ليست ثابتة.

3- والإنسان نفسه إنما هو حيوان اجتماعي مفكر فحسب وليست النفس الإنسانية إلا مجموعة من الغرائز.

هذه هي جذور العقائد الغربية - سواء عند العقلانيين (Rationalistes) أم عند الماديين (Materialiskes) - ولا يشذ عن الإيمان بها واتخاذها أساساً ومقياساً إلا فئة قليلة جداً، هي بقية باقية من المؤمنين بالتفكير الديني المسيحي.

ليس في هذه الفلسفة أو الأساس الاعتقادي أو التصور الوجودي مكانٌ للإله وصلته بالكون ونظامه السببي وبالإنسان، ولا للوحي والنبوات ولا للجزاء والحياة الخالدة ولا المثل العليا الأخلاقية، ولا سيما ما كان مصدره الدين ولا لسائر الغيبيات (ما وراء الطبيعة).

إن هذه المفاهيم منبثة مفرقة في مختلف العلوم التي تُعلَّم في نظم التعليم السائدة في العالم الإسلامي، ويتكون من مجموعها مركب فكري عقائدي يخالف الإسلام مخالفة جذرية وتكوِّن أساسا يتجافى ويتنافى مع الإسلام.

وحصتان أو ثلاثة لتعليم الدين في التعليم الابتدائي وحصة أو حصتان في الثانوي، - ولا سيما إذا كان المناهج ناقصة والأسلوب غير صالح - لا تقف مطلقا أمام هذا الشحن الفكري المستمر خلال سنين طويلة في أكثر من ثلاثين ساعة أسبوعية في الابتدائي وأكثر من عشرين ساعة في الثانوي، وقريبا من ذلك في التعليم الجامعي وما فوق الجامعي مع ما تلقيه دور النشر والطباعة من كتب ودوريات مشربة بالروح نفسها.

إنَّ هذه المشكلة هي أكبر المشكلات كلها بالنسبة إلى العالم الإسلامي لا لأنها تفقده ذاتيته وشخصيته فحسب، بل لأنها تجعله يستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، ويخسر رأس مال يملكه ويمكن أن يسعد به الإنسانية كلها.

وإن هذا النوع من الغزو أشد أنواعه فتكاً ولم تَعرف الأمة الإسلامية في التاريخ كارثة أشد هولاً وأفظع في نتائجها منها، فلا تعدلها كارثة التتار ولا الحروب الصليبية ولا حروب الاستعمار. بل إنَّ جميع المشكلات السياسيِّة والاجتماعيَّة والاقتصاديَّة والتربويَّة فروع لهذه المشكلة الأساسيَّة.

لقد كان من نتائج هذا الغزو الثقافي الفكري وخاصَّة في ميادين العلوم الإنسانية إلغاء التشريع الإسلامي الخالد ذي المعالم الثابتة في أهدافها الأخلاقية والإنسانية، والصيغ المرنة المتبدلة في مواجهة الأوضاع المستجدة والأحداث النازلة، وإحلال التشريع الغربي مكانه.

وكان من نتائجه أن نستبدل بالثقافة الإسلامية بمعناها الواسع المستوعب الثقافة العربية، ويُكتفي برقعة تلصق بها يسمونها التعليم الديني ليزداد المنظر تنافراً والتناقض النفسي شدة.

وكان من نتائجه كذلك بناء نظام الحكم السياسي على أسس غير إسلامية يسمونها علمانية تزيينًا لها وإمعاناً في الخداع ويسخرون لها صنائع، ممن صُنعوا على أعينهم ورُموا على أحضانهم ويجعلون منهم أبطالاً لأوطانهم ترويجاً لصنيعهم في إقصاء الإسلام باسم الحياد الديني في المرحلة الأولى.

وكان من نتائج هذا الغزو إعداد جيش من المثقفين ليكونوا مختصين بتنفيذ عملية تغريب التشريع وتنفيذ عملية تغريب الحكم والدولة والسياسة، وخرجت جيوش الاستعمار باحتفالات كبيرة للترحيب بجيوش التغريب من أبناء المسلمين أنفسهم للتخطيط لإقصاء الإسلام، ثم لحصره وتطويقه في كل ميدان: في حصة الدين في التعليم، وفي الأحوال الشخصيَّة في التشريع، وفي مراسم حضور صلاة العيدين في ميدان الحكم وسياسة الدولة، ثم لإزالته من جميع الميادين وإتمام عملية التغريب والإلحاق.

وقد تمتَّ المراحل كلها في بعض البلاد الإسلامية وهي سائرة في طريقها إلى النهاية؛ إن لم يتم التدارك في البلدان الأخرى.

إنَّ حلَّ هذه المشكلة ليس بطرد هذه العلوم وإيصاد الأبواب أمامها، وهي في الأصل علوم لنا فضل السبق في العمل في ميادينها والتجديد فيها في تاريخنا الإسلامي الطويل، وللشعوب الإسلامية إسهام في تقدمها.

وإنما الحل الذي نطرحه وندعو إلى الأخذ به هو صياغة العلوم جميعاً صياغة إسلامية أو بعبارة أدق إقامتها على أسس إسلامية والسير بها من منطلقات إسلامية، أي بناؤها على التصور العام للوجود الذي يقدمه الإسلام.

ما الذي يرجح التصور الغربي للوجود وهو ليس حقيقة عملية جاءت بها المختبرات أو المعامل أو المراصد، بل إنَّه لا يثبت أمام النقد العقلي وما أكثر ما تلوَّن وتغير في الغرب نفسه بتغير المذاهب حتى أصبح مجرد مبرر لغايات وأهداف عملية.

وهو كما يرى كثير من المفكرين الغربيين أنفسهم مجرد عقيدة (dogme) ليس عليها ولا على نفي عكسها دليل قاطع.

ولو قابلنا هذا التصور الغربي للوجود بالتصور الإسلامي العام لوجدنا التصور الإسلامي مستوعباً له ومتمماً لنقصه وبه من الحجج العقلية ما يجعله الأرجح ومن النتائج العملية ما يجعله الأفضل. ويمكن أن نلخِّص هذا التصور الإسلامي العام في مقابل تلخيصنا السابق آنفا للتصور الغربي بما يلي:

1- إن الإنسان والكون (الطبيعة) الذي يعيش فيه ليسا وحدهما في الوجود، بل كلاهما يبتدئ من الله خلقاً ووجوداً وينتهيان إليه مصيراً وهو المهيمن عليهما.

2- الطبيعة لم تخلق نفسها ولم توجد بنفسها، بل أوجدها الله تعالى وهي تسير على سنن مطردة وفق نظام مترابط الأجزاء والله سبحانه الذي خلقها هو المقدِّر لسننها ونظامها.

3- العقل الإنساني ليس وحده أداة الوصول إلى الحقيقة، بل هناك طريق آخر وهو الوحي. ولكل منهما ميدانه واختصاصه: فالعقل أداة الوصول إلى حقائق الطبيعة، وهو معرض مع ذلك للخطأ. والوحي أداة معرفة ما وراء الطبيعة (عالم الغيب).

4- الإنسان ليس حيوانا مفكراً فحسب، بل إن عناصر تكوينه تتجاوز ذلك فتزيد على العضوية والتفكير.

5- إن الله تعالى هو المشرِّع للإنسان، كما قدّر للطبيعة سننها. وهو المجدد عن طريق الوحي المعالم الثابتة للأخلاق والحقوق. والمجال مفسوح أمام الإنسان فيما وراء هذه المعالم الثابتة، مما هو قابل للتغيير والتبدل.

6- النبوات منذ بداية خلق الإنسان هي الصلة بين الإنسان والله تعالى لتزويده بالقيم الثابتة، وبما ينبغي أن يعرفه من عالم الغيب، وقد ختمت هذه النبوات بمحمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأنهيت سلسلة الرسالات السابقة المتفرقة في الشعوب برسالة خاتمة جامعة هي الإسلام الذي تَبَلَّغَهُ وبَلَّغه خاتم الرسل.

يتبع...

جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين