نبي الرحمة (44)

نظرة على الغزوات:

كان صلى الله عليه وآله وسلم أكبر قائد عسكري في الدنيا وصاحب عبقرية فذة، كما كان سيد الرسل وأعظمهم في صفة النبوة والرسالة، فلم يفشل في أي معركة لغلطة في الحكمة أو تعبئة الجيش. وما وقع في أحد وحنين هو بعض الضعف في أفراد الجيش- في حنين- أو معصيتهم أوامره. وتجلت عبقريته صلى الله عليه وآله وسلم في أحد وحنين عند هزيمة المسلمين، ثبت واستطاع بحكمته الفذة أن يخيّب الأعداء في أهدافهم- كما فعل في أحد- أو يغير مجرى الحرب حتى يبدل الهزيمة انتصاراً- كما في حنين- مع أن مثل هذه الهزيمة تأخذ بمشاعر القواد وتؤثر على أعصابهم، فلا يبقى لهم إلا هم النجاة بأنفسهم. واستطاع بهذه الغزوات فرض الأمن والسلام، وإطفاء نار الفتنة، وكسر شوكة الأعداء في صراع الإسلام والوثنية، وإلجائهم إلى المصالحة، وتخلية السبيل لنشر الدعوة، واستطاع أن يكشف المنافقين. وأنشأ طائفة من القواد الذين لاقوا بعده الفرس والرومان في ميادين العراق والشام، ففاقوهم في تخطيط الحروب وإدارة دفة القتال. كما استطاع أن يوفر السكنى والأرض والحِرَف للمسلمين، حصل على كل ذلك بدون ظلم أو طغيان أو بغي على عباد الله. وقد غير أهداف الحروب، فقد كانت الحرب للنهب والسلب والقتل والإغارة والظلم والبغي والعدوان، وأخذ الثأر، وهتك حرمات النساء، وإهلاك الحرث والنسل، والفساد في الأرض- في الجاهلية- وصارت الحرب في الإسلام جهاداً لتحقيق أهداف نبيلة، يعتز بها المجتمع الإنساني في كل زمان ومكان، صارت جهادا في تخليص الإنسان من نظام القهر والعدوان. إلى نظام العدالة، ومن نظام يأكل فيه القوي الضعيف، إلى نظام يصير فيه القوي ضعيفاً حتى يؤخذ منه. وصارت جهادا في تطهير أرض الله من الغدر والخيانة إلى بسط الأمن والرحمة ومراعاة الحقوق.

كما شرّع للحروب قواعد شريفة ألزم بها جنوده وقواده. وروى سُلَيْمَانُ بْنُ بُرَيْدَةَ عن أبيه قال: كان صلى الله عليه وآله وسلم إذا أمّر أميراً على جيش أو سرية أوصاه بتقوى الله، ثم قال:(اغزوا باسم الله، في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا، فلا تغلوا ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليداً...) الحديث. وكان يأمر بالتيسير ويقول:(يسروا ولا تعسروا، وسكنوا ولا تنفروا) وكان إذا جاء قوماً بليل لم يُغر عليهم حتى يصبح، ونهى عن التحريق في النار، ونهى عن قتل الصِّبْيَة، وقتل النساء وضربهن، ونهى عن النهب حتى قال:(إن النهبى ليست بأحل من الميتة) ونهى عن إهلاك الحرث والنسل وقطع الأشجار إلا إذا اشتدت إليها الحاجة. وقال عند فتح مكة:(لا تجهزنّ على جريح، ولا تتبعنّ مدبراً، ولا تقتلنّ أسيراً) وأمضى السنة بأن السفير لا يقتل، وشدد في النهي عن قتل المعاهدين حتى قال:(من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها لتوجد من مسيرة أربعين عاماً).

الناس يدخلون في دين الله أفواجاً:

قال عمرو بن سلمة: كنا بماء مَمَرَّ الناس وكان يمر بنا الركبان فنسألهم: ما للناس؟ ما هذا الرجل؟- أي النبي صلى الله عليه وآله وسلم- فيقولون: يزعم أن الله أرسله، أوْحَى إليه. أوْحَى الله كذا، فكنت أحفظ ذاك الكلام، فكأنما يُقَرُّ في صدري، وكانت العرب تَلَوَّمُ بإسلامهم الفتح- يَنتظِرون فَتْحَ مَكَّةَ ليسلموا- فيقولون: اتركوه وقومه، فإنه إن ظهر عليهم فهو نبي صادق. فلما كانت وقعة أهل الفتح بادر كل قوم بإسلامهم، وبدر أبي قومي بإسلامهم، فلما قدم قال: جئتكم والله من عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم حقاً. فقال:(صَلُّوا صلاة كذا في حين كذا، وصلاة كذا في حين كذا، فإذا حضرت الصلاة فَلْيُؤَذِّنْ أحَدُكُمْ، ولْيَؤُمَّكُمْ أكْثَرُكُمْ قُرْآنًا). الحديث. والحديث يدل على مدى أثر فتح مكة في تعزيز الإسلام وتغيّر العرب واستسلامهم للإسلام، ولذلك نرى الوفود تقصد المدينة في العامين ـ التاسع والعاشرـ ونرى الناس يدخلون في دين اللّه أفواجاً، حتى إن الجيش الإسلامي الذي كان قوامه عشرة آلاف في غزوة الفتح، إذا هو يزخر في ثلاثين ألفاً في غزوة تبوك، ثم نرى في حجة الوداع ـ مائة ألف من الناس أو مائة ألف وأربعة وأربعون ألفاً ـ يموج حول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بالتلبية والتكبير والتسبيح والتحميد، تدوي له الآفاق، وترتج له الأرجاء.

الوفود: الوفود كانت كثيرة، سنذكر منها من له روعة أو أهمية في التاريخ:

١-وفد عبد القيس: كانت لهذه القبيلة وفادتان:

الأولى ٥هـ. جاء رجل منهم يقال له مُنْقِذُ بن حيان إلى المدينة بتجارته بعد مقدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وعلم بالإسلام فأسلم وذهب بكتاب من النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى قومه فأسلموا، فتوافدوا إليه في شهرٍ حرامٍ في ثلاثة أو أربعة عشر رجلاً وسألوا عن الإيمان وعن الأشربة، وكان كبيرهم الأشج العصري الذي قال فيه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم:(إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة). والوفادة الثانية كانت في سنة الوفود وكانوا أربعين رجلاً وكان فيهم الجارود بن العلاء العبدي، وكان نصرانياً فأسلم وحسن إسلامه.

٢-وفد دَوْس:

قدّمنا حديث إسلام الطفيل بن عمرو الدوسي، وأنه أسلم والنبي صلى الله عليه وآله وسلم بمكة، ثم رجع إلى قومه، فلم يزل يدعوهم إلى الإسلام ويبطئون عليه حتى يئس منهم، ورجع إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فطلب منه أن يدعو على دوس، فقال:(اللهم اهد دوساً). ثم أسلم هؤلاء، فوفد الطفيل بسبعين أو ثمانين بيتاً من قومه إلى المدينة في أوائل سنة ٧هـ والنبي صلى الله عليه وآله وسلم بخيبر فلحق به.

٣-رسول فَرْوَة بن عمرو الجُذَامي:

كان فروة قائداً عربياً من قواد الرومان، عاملاً لهم على من يليهم من العرب، وكان منزله معان وما حوله من أرض الشام، أسلم بعدما رأى من جلاد المسلمين وشجاعتهم، في معركة مؤتة ٨هـ. وبعث إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم رسولاً بإسلامه وأهدى له بغلة بيضاء، ولما علم الروم بإسلامه حبسوه ثم خيروه بين الردة والموت، فاختار الموت فصلبوه بفلسطين على ماء يقال له: عفراء، وضربوا عنقه.

٤-وفد صُدَاء:

بعث صلى الله عليه وآله وسلم أربعمائة من المسلمين، وأمرهم أن يطأوا ناحية من اليمن فيها صُدَاء، فعسكروا بصَدْرِ قَنَاة، فعلم بهم زياد بن الحارث الصدائي، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: جئتك وافداً على مَنْ ورائي، فاردد الجيش وأنا لك بقومي، فرد الجيش من صدر قناة وجاء الصدائي إلى قومه فرغّبهم في القدوم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقدم عليه خمسة عشر رجلاً منهم وبايعوه على الإسلام، ثم رجعوا إلى قومهم فدعوهم، ففشا فيهم الإسلام فوافى النبي صلى الله عليه وآله وسلم منهم مائة رجل في حجة الوداع.

٥- قدوم كعب بن زهير بن أبي سلمى:

كان من بيت الشعراء، ومن أشعر العرب، وكان يهجو النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلما انتهت غزوة الطائف ٨هـ. كتب إلى كعب بن زهير أخوه بُجَيْر بن زهير أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قتل رجالاً بمكة ممن كانوا يهجونه ويؤذونه، ومن بقي من شعراء قريش هربوا في كل وجه، فإن كانت لك في نفسك حاجة فَطِر إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإنه لا يقتل أحداً جاء تائباً، وإلا فانج إلى نجاتك. ضاقت الأرض على كعب، وأشفق على نفسه، فجاء المدينة ونزل على رجل من جُهَيْنَةَ وصلى معه الصبح، فلما انصرف أشار عليه الجهني، فقام إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى جلس إليه، فوضع يده في يده، وكان صلى الله عليه وآله وسلم لا يعرفه فقال: يا رسول الله. إن كعب بن زهير قد جاء ليستأمن منك تائباً مسلماً فهل أنت قابل منه إن أنا جئتك به؟ قال:(نعم) قال: أنا كعب بن زهير. فوثب عليه رجل من الأنصار يستأذن ضرب عنقه، فقال:(دعه عنك، فإنه قد جاء تائباً نازعاً عما كان عليه) وحينئذ أنشد كعب قصديته المشهورة "بانت سعاد" وهو يعتذر إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويمدحه، ومدح المهاجرين من قريش لأنه ما تكلم منهم رجل في كعب حين جاء إلا بخير، وعرّض على الأنصار لاستئذان رجل منهم في ضرب عنقه. فلما أسلم وحسن إسلامه مدح الأنصار في قصيدة له، وتدارك ما كان قد فرط منه في شأنهم.

٦- وفد عُذْرَة:

قدموا في صفر ٩هـ. وهم اثنا عشر رجلاً فيهم حمزة بن النعمان. قال متكلمهم حين سئلوا من القوم: نحن بنو عذرة، أخوة قصي لأمه، نحن الذين عضدوا قصياً، وأزاحوا من بطن مكة خزاعة وبني بكر، لنا قرابات وأرحام، فرحب بهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وبشرهم بفتح الشام، ونهاهم عن سؤال الكاهنة، وعن الذبائح التي كانوا يذبحونها. أسلموا وأقاموا أياماً. ثم رجعوا.

٧- وفد بَلِي:

قدم في ربيع الأول ٩هـ. وأسلم وأقام بالمدينة ثلاثاً، وقد سأل رئيسهم أبو الضُّبَيْب عن الضيافة هل فيها أجر؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (نعم، وكل معروف صنعته إلى غني أو فقير فهو صدقة) وسأل عن وقت الضيافة، فقال:(ثلاثة أيام) وسأل عن ضالة الغنم فقال:(هي لك أو لأخيك، أو للذئب) وسأل عن ضالة البعير، فقال:(ما لك وله؟ دعه حتى يجده صاحبه).

٨-وفد ثقيف:

في رمضان ٩ هـ. وقصة إسلامهم أن رئيسهم عروة بن مسعود الثقفي جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد غزوة الطائف في ذي القعدة ٨هـ قبل أن يصل إلى المدينة فأسلم عروة، ورجع إلى قومه ودعاهم إلى الإسلام- وهو يظن أنهم يطيعونه لأنه كان سيداً مطاعاً في قومه وكان أحب إليهم من أبكارهم- فلما دعاهم إلى الإسلام رموه بالنبل من كل وجه حتى قتلوه، ثم أقاموا بعد قتله أشهراً، ثم ائتمروا بينهم ورأوا أنه لا طاقة لهم بحرب من حولهم من العرب- الذين كانوا قد بايعوا وأسلموا- فأجمعوا أن يرسلوا رجلاً إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فكلموا عَبْد يالِيل بن عمرو فأبى، وخاف أن يصنعوا به إذا رجع مثل ما صنعوا بعروة، وقال: لست فاعلاً حتى ترسلوا معي رجالاً، فبعثوا معه رجلين من الأحلاف وثلاثة من بني مالك، فصاروا ستة فيهم عثمان بن أبي العاص الثقفي وكان أحدثهم سناً. فلما قدموا على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ضرب عليهم قبة في ناحية المسجد لكي يسمعوا القرآن، ويروا الناس إذا صلوا، ومكثوا يختلفون إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو يدعوهم إلى الإسلام، حتى سأل رئيسهم أن يكتب لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم قضية صلح بينه وبين ثقيف. يأذن لهم فيها بالزنا وشرب الخمور وأكل الربا ويترك لهم طاغيتهم اللات وأن يعفيهم من الصلاة، وألايكسروا أصنامهم بأيديهم، فأبى صلى الله عليه وآله وسلم أن يقبل شيئاً من ذلك، فخلوا وتشاوروا، فلم يجدوا محيصاً عن الإستسلام للرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فاستسلموا وأسلموا، واشترطوا أن يتولى النبي صلى الله عليه وآله وسلم هدم اللات، وأن ثقيفاً لا يهدمونها بأيديهم أبداً، فقبل ذلك وكتب لهم كتاباً، وأمّر عليهم عثمان بن أبي العاص الثقفي، لأنه كان أحرصهم على التفقه في الإسلام وتعلم الدين والقرآن. وذلك أن الوفد كانوا كل يوم يغدون إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ويخلفون عثمان بن أبي العاص في رحالهم، فإذا رجعوا وقالوا بالهاجرة عمد عثمان بن أبي العاص إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فاستقرأه القرآن، وسأله عن الدين، وإذا وجده نائماً عمد إلى أبي بكر، وكان من أعظم الناس بركة لقومه في زمن الردة، فإن ثقيفاً لما عزمت على الردة قال لهم: يا معشر ثقيف كنتم آخر الناس إسلاماً، فلا تكونوا أول الناس ردة، فامتنعوا على الردة وثبتوا على الإسلام. ورجع الوفد إلى قومه فكتمهم الحقيقة، وخوفهم بالحرب والقتال، وأظهر الحزن و الكآبة، وأنّه صلى الله عليه وآله وسلم سألهم الإسلام وترك الزنا والخمر والربا وغيرها وإلا يقاتلهم، فأخذت ثقيفاً نخوة الجاهلية، فمكثوا يومين أو ثلاثة يريدون القتال، ثم ألقى الله في قلوبهم الرعب، وقالوا للوفد: ارجعوا إليه فأعطوه ما سأل، وحينئذ أبدى الوفد حقيقة الأمر، وأظهروا ما صالحوا عليه، فأسلمت ثقيف. وبعث صلى الله عليه وآله وسلم رجالاً لهدم اللات، أمّر عليهم خالد بن الوليد، فقام المغيرة بن شعبة، فأخذ الكِرْزين وقال لأصحابه: والله لأضحكنكم من ثقيف. فضرب بالكرزين، ثم سقط يركض، فارتج أهل الطائف، وقالوا: أبعد الله المغيرة قتلته الرَّبَّةُ، فوثب المغيرة فقال: قبحكم الله، إنما هي لُكَاع حجارة ومَدَر، ثم ضرب الباب فكسره، ثم علا أعلى سورها، وعلا الرجال فهدموها وسووها بالأرض حتى حفروا أساسها، وأخرجوا حليها ولباسها، فبهتت ثقيف، ورجع خالد مع مفرزته إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بحليها وكسوتها، فقسمه صلى الله عليه وآله وسلم من يومه، وحمد الله على نصرة نبيه وإعزاز دينه.

٩-رسالة ملوك اليمن:

بعد غزوة تبوك قَدِمَ كتاب ملوك حِمْيَر، وهم الْحَارِثُ بْنُ عَبْدِ كُلَالٍ، وَنُعَيْمُ بْنُ عبد كُلَالٍ والنعمان، وقَيْلُ ذي رُعَيْن وهَمْدَانَ ومُعَافِر، ورسولهم إليه صلى الله عليه وآله وسلم مالك بن مرة الرَّهَاوي، بعثوه بإسلامهم ومفارقتهم الشرك وأهله، وكتب إليهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم كتاباً بين فيه ما للمؤمنين وما عليهم، وأعطى فيهم المعاهدين ذمة الله وذمة رسوله إذا اعطوا ما عليهم من الجزية، وبعث إليهم رجالاً من أصحابه أميرهم معاذ بن جبل.

١٠-وفد همدان:

قدم ٩هـ بعد مرجع النبي صلى الله عليه وآله وسلم من تبوك، فكتب صلى الله عليه وآله وسلم لهم كتاباً أقطعهم فيه ما سألوه، وأمّر مالك بن النَّمَطَ على من أسلم من قومه، وبعث إلى سائرهم خالد بن الوليد يدعوهم إلى الإسلام، فأقام ستة أشهر يدعوهم فلم يجيبوه، ثم بعث علي بن أبي طالب، وأمره أن يُقْفُلَ خالداً، فجاء علي إلى همدان، وقرأ عليهم كتاباً من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ودعاهم إلى الإسلام فأسلموا جميعاً، وكتب علي ببشارة إسلامهم إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلما قرأ الكتاب خر ساجداً، ثم رفع رأسه فقال:(السلام على همدان، السلام على همدان).

١١-وفد بني فزارة:

في ٩هـ بعد مرجع النبي صلى الله عليه وآله وسلم من تبوك، قدم بضعة عشر رجلاً جاؤوا مقرين بالإسلام، وشكوا جدب بلادهم، فصعد صلى الله عليه وآله وسلم المنبر، فرفع يديه وقال:(اللهم اسق بلادك وبهائمك، وانشر رحمتك، وأحي بلدك الميت، اللهم اسقنا غيثاً، مغيثاً، مريحاً، مريعاً، طبقاً، واسعاً، عاجلاً، غير آجل، نافعاً غير ضار، اللهم سقيا رحمة، لا سقيا عذاب، ولا هدم، ولا غرق، ولا محق، اللهم اسقنا الغيث، وانصرنا على الأعداء).

١٢-وفد نَجْران:

وهو بلد كبير على سبع مراحل من مكة إلى جهة اليمن، وفيه ثلاث وسبعين قرية، مسيرة يوم للراكب السريع، وفيه مائة ألف مقاتل كانوا على دين النصرانية. وكانت وفادتهم سنة ٩هـ، وقوام الوفد ستون رجلاً، منهم أربعة وعشرون من الأشراف، فيهم ثلاثة زعماء، أحدهم العاقب- عبد المسيح- كانت له الإمارة، والثاني السيد- الأيهم أو شُرَحْبيل - كانت له الأمور السياسية، والثالث الأسقف - أبو حارثة بن علقمة- وله الزعامة الدينية. ولما نزل الوفد بالمدينة، ولقي النبي صلى الله عليه وآله وسلم سألهم وسألوه، ثم دعاهم إلى الإسلام، وتلا عليهم القرآن فامتنعوا، وسألوه عما يقول في عيسى عليه السلام، فمكث صلى الله عليه وآله وسلم يومه ذلك حتى نزل:{إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ * فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ}[آل عمران:٥٩-٦١]. ولما أصبح صلى الله عليه وآله وسلم أخبرهم بالآيات، وتركهم ليفكروا. فلما أصبحوا وقد أبوا عن قبول قوله في عيسى، وأبوا عن الإسلام دعاهم صلى الله عليه وآله وسلم إلى المباهلة، وأقبل مشتملاً على الحسن والحسين في خميل له، وفاطمة تمشي عند ظهره، فلما رأوا منه الجد والتهيؤ خلوا وتشاوروا، فقال كل من العاقب والسيد للآخر: لا تفعل فو الله لئن كان نبياً فَلاَعَنَنَا لا نفلح نحن ولا عقبنا من بعدنا، فلا يبقى على وجه الأرض منا شعرة ولا ظفر إلا هلك، ثم اجتمع رأيهم على تحكيم النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أمرهم، فجاؤوا وقالوا: إنا نعطيك ما سألتنا. فقبل صلى الله عليه وآله وسلم منهم الجزية، وصالحهم على ألفي حلة، ألف في رجب، وألف في صفر، ومع كل حلة أوقية، وأعطاهم ذمة الله وذمة رسوله، وترك لهم الحرية الكاملة في دينهم، وكتب لهم بذلك كتاباً، وطلبوا منه أن يبعث عليهم رجلاً أميناً، فبعث أمين الأمة أبا عبيدة بن الجراح ليقبض مال الصلح. ثم طفق الإسلام يفشو فيهم، فقد أسلم السيد والعاقب بعد ما رجعا إلى نجران، وبعث صلى الله عليه وآله وسلم علياً، ليأتيه بصدقاتهم وجزيتهم، فالصدقة إنما تؤخذ من المسلمين.

١٣- وفد بني حنيفة:

سنة ٩هـ. كانوا سبعة عشر رجلاً فيهم مسيلمة الكذاب- مسيلمة بن ثمامة بن كبير- نزلوا في بيت رجل من الأنصار، ثم جاؤوا إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فأسلموا، أما مسيلمة إستكبر لطموحه بالإمارة، فلم يحضر مع الوفد إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأراد صلى الله عليه وآله وسلم إستئلافه بالإحسان بالقول والفعل أولاً دون جدوى. وكان صلى الله عليه وآله وسلم قد أري في المنام أنه أتي بخزائن الأرض، فوقع في يديه سواران من ذهب، فكبرا عليه وأهماه، فأوحي إليه أن انفخهما، فنفخهما، فذهبا، فأوَّلَهُمَا كذابين يخرجان من بعده، فلما صدر من مسيلمة ما صدر من الإستنكاف- وقد كان يقول: إن جعل لي محمد الأمر من بعده تبعته- جاءه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفي يده قطعة من جريد، ومعه خطيبه ثابت بن قيس، حتى وقف على مسيلمة في أصحابه، فكلمه فقال له مسيلمة: إن شئت خلينا بينك وبين الأمر، ثم جعلته لنا بعدك، فقال:(لو سألتني هذه القطعة ما أعطيتكها، ولن تعدو أمر الله فيك، ولئن أدبرت ليعقرنك الله، والله إني لأراك الذي أريت فيه ما رأيت، وهذا ثابت يجيبك عني) ثم انصرف. وأخيراً وقع ما تَفَرَّسَ فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم. فإنّ مسيلمة لما رجع إلى اليمامة ادعى أنه أشرك في الأمر مع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فادعى النبوة، وجعل يسجع السجعات، وأحل لقومه الخمر والزنا، وهو مع ذلك يشهد للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه نبي، وافتتن به قومه فتبعوه، حتى تفاقم أمره فكان يقال له رحمان اليمامة لعظم قدره فيهم. وكتب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم كتاباً: إني أشركت في الأمر معك، وإن لنا نصف الأمر، ولقريش نصف الأمر، فرد عليه صلى الله عليه وآله وسلم بكتاب:{إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ، وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}[الأعراف:١٢٨]. وعن ابن مسعود: جاء ابن النواحة، وابن أثال رسولا مسيلمة إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فقال لهما:(أتشهدان أني رسول الله؟) فقالا: نشهد أن مسيلمة رسول الله. فقال صلى الله عليه وآله وسلم:(آمنت بالله ورسوله. لو كنت قاتلاً رسولا لقتلتكما). كان ادعاء مسيلمة النبوة سنة عشر، وقتله وحشي في حرب اليمامة في عهد أبي بكر الصدّيق في ربيع الأول ١٢هـ. والمتنبىء الثاني الأسود العَنْسِي في اليمن قتله فَيْرُوز-الدليمي- قبل وفاة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بيوم وليلة، فأتاه الوحي فأخبر به أصحابه، ثم جاء الخبر في عهد أبي بكر.

يتبع.......

منقول بتصرف يسير من كتاب السيرة (الرحيق المختوم)

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين