نبي الرحمة (43)

غزوة تبوك: (2)

الجيش الإسلامي بتبوك:

نزل الجيش بتبوك، فعسكر هناك، وقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيهم خطيباً، حض على خير الدنيا والآخرة، وبشر وأبشر، حتى رفع معنوياتهم. ولما سمع الرومان وحلفاؤهم بزحف النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخذهم الرعب فلم يجترئوا على التقدم واللقاء، فبذلك حصل المسلمون على مكاسب سياسية وعسكرية دون اصطدام بين الجيشين. جاء يُحَنَّةُ بْنُ رُوبَةَ صاحب أَيْلة، فصالح الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأعطاه الجزية، وأتاه أهل جَرْبَاء وأهل أذْرُح فأعطوه الجزية، وكتب لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كتاباً، وكتب لصاحب أيلة:(بسم الله الرحمن الرحيم، هذه أمنة من الله ومحمد النبي رسول الله ليحنة بن روبة وأهل أيلة، سفنهم وسياراتهم في البر والبحر لهم ذمة الله وذمة محمد النبي، ومن كان معه من أهل الشام وأهل البحر، فمن أحدث منهم حدثاً، فإنه لا يحول ماله دون نفسه، وإنه طيب لمن أخذه من الناس، وأنه لا يحل أن يمنعوا ماء يردونه، ولا طريقاً يريدونه من بر أو بحر). وبعث صلى الله عليه وآله وسلم خالد بن الوليد إلى أُكَيْدِرِ دُومَة الجَنْدَل في أربعمائة وعشرين فارساً، وقال له:(إنك ستجده يصيد البقر) فأتاه خالد، فلما كان من حصنه بمنظر العين، خرجت بقرة تحك بقرونها باب القصر، فخرج أكيدر لصيدها فتلقاه خالد في خيله، فأخذه وجاء به إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فحقن دمه، وصالحه على ألفي بعير، وثمانمائة رأس، وأربعمائة درع، وأربعمائة رمح، وأقر بإعطاء الجزية.

وأيقنت القبائل التي كانت تعمل لحساب الرومان أن اعتمادها على سادتها الرومان قد فات أوانه، فانقلبت لصالح المسلمين، وهكذا توسعت حدود الدولة الإسلامية، حتى لاقت حدود الرومان مباشرة، وشهد عملاء الرومان نهايتهم إلى حد كبير.

الرجوع إلى المدينة:

رجع المسلمون من تبوك منصورين، وكفاهم الله القتال، وفي الطريق عند عقبة حاول اثنا عشر رجلاً من المنافقين الفتك بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وذلك أنه حينما كان يمر بتلك العقبة كان معه عمار يقود بزمام ناقته، وحذيفة بن اليمان يسوقها، وأخذ الناس ببطن الوادي، فانتهز أولئك المنافقون هذه الفرصة، فبينما النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصاحباه يسيران إذ سمعوا وكزة القوم من ورائهم، قد غشوه وهم ملتثمون، فبعث حذيفة فضرب وجوه رواحلهم بمِحْجَن كان معه، فأرعبهم الله، فأسرعوا في الفرار حتى لحقوا بالقوم، وأخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأسمائهم، وبما هموا به، فلذلك كان حذيفة يسمى بصاحب سر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال تعالى: {وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا} ولما لاحت للنبي صلى الله عليه وآله وسلم معالم المدينة من بعيد قال:(هذه طابة، وهذا أحد، جبل يحبنا ونحبه) وتسامع الناس بمقدمه، فخرج النساء والصبيان والولائد يقابلن الجيش بحفاوة بالغة.

وكان خروجه صلى الله عليه وآله وسلم إلى تبوك في رجب وعوده في رمضان، واستغرقت هذه الغزوة خمسين يوماً. أقام منها عشرين يوماً في تبوك، والبواقي قضاها في الطريق جيئة وذهوباً.

وكانت هذه الغزوة آخر غزواته صلى الله عليه وآله وسلم.

المخلفون:

كانت غزوة تبوك اختباراً من الله:{ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ}[آل عمران:١٧٩] فقد خرج للغزو من كان مؤمناً صادقاً، حتى صار التخلف أمارة على النفاق، فكان الرجل إذا تخلف وذكروه للنبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لهم:(دعوه، فإن يكن فيه خير سيلحقه الله بكم، وإن يكن غير ذلك فقد أراحكم منه) فلم يتخلف إلا من حبسهم العذر والمنافقون. ولما دخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم المدينة بدأ بالمسجد فصلى فيه ركعتين، ثم جلس للناس، فأما المنافقون فجاؤوا يعتذرون، وطفقوا يحلفون له، فقبل منهم علانيتهم وبايعهم واستغفر لهم، ووكل سرائرهم إلى الله. وكان ثلاثة نفر من المؤمنين الصادقين تخلفوا- وهم كعب بن مالك، ومرارة بن الربيع، وهلال بن أمية- فاختاروا الصدق، فأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم الصحابة ألا يكلموا هؤلاء الثلاثة، فقاطعوهم، حتى ضاقت عليهم الأرض، وضاقت عليهم أنفسهم، وبلغت بهم الشدة أنهم بعد أن قضوا أربعين ليلة من بداية المقاطعة أُمِرُوا أن يعتزلوا نساءهم، فتمت مقاطعتهم خمسين ليلة، ثم نزلت توبتهم {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا، إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [التوبة:١١٨] وفرح المسلمون، وفرح الثلاثة، فبشروا وأبشروا واستبشروا وأجازوا وتصدقوا. وأما الذين حبسهم العذر فقد قال تعالى فيهم:{لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ...}[التوبة:٩١] وقال صلى الله عليه وآله وسلم فيهم حين دنا من المدينة:(إن بالمدينة رجالاً ما سرتم مسيراً، ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم)، قالوا: يا رسول الله، وهم بالمدينة؟ قال:(وهم بالمدينة حبسهم العذر).

أثر الغزوة:

زاد نفوذ المسلمين وقوتهم في جزيرة العرب، وتبين للناس أن قوة الإسلام هي القوة الوحيدة في العرب، وفقد المنافقون وبقايا الجاهليين أملهم بالرومان، واستسلموا للأمر الواقع، وقد أمر الله بالتشديد على المنافقين، ونهى عن قبول صدقاتهم، والصلاة عليهم، والاستغفار لهم، وأمر بهدم وكرة دسهم وتآمرهم التي بنوها باسم المسجد، وأنزلت آيات افتضحوا بها افتضاحاً تاماً. وأثر هذه الغزوة أن العرب وإن توافدت إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد فتح مكة، بل وما قبلها، إلا أن تتابع الوفود وكثرتها بلغ إلى القمة بعد هذه الغزوة.

نزول القرآن حول موضوع الغزوة:

نزلت آيات من سورة براءة حول الغزوة، فاشتملت على ذكر ظروفها وفضح المنافقين، وفضل المجاهدين، وقبول التوبة من المؤمنين الصادقين، الخارجين في الغزوة والمتخلفين.

بعض الوقائع المهمة في هذه السنة:

١- بعد القدوم من تبوك وقع اللعان بين عويمر العجلاني وامرأته.

٢- رجم المرأة الغامدية التي جاءت فاعترفت على نفسها بالفاحشة، رجمت بعدما فطمت ابنها.

٣- توفي النجاشي أصحمة، ملك الحبشة، وصلى عليه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم صلاة الغائب.

٤-توفيت أم كلثوم بنت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فحزن عليها، وقال لعثمان:(لو كانت عندي ثالثة لزوجتكها).

٥-مات رأس المنافقين عبد الله بن أبيّ بعد الرجوع من تبوك، فاستغفر له النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وصلى عليه وحاول عمر منعه عن الصلاة عليه، فنزل القرآن بموافقة عمر.

حج أبي بكر:

في ذي القعدة ٩ هـ. بعث صلى الله عليه وآله وسلم أبا بكر الصديق أميراً على الحج، ليقيم بالمسلمين المناسك. ثم نزلت أوائل سورة براءة بنقض المواثيق ونبذها على سواء، فبعث صلى الله عليه وآله وسلم علي بن أبي طالب ليؤدي عنه ذلك، حسب عادة العرب في عهود الدماء والأموال، فالتقى علي بأبي بكر بالعَرْج أو بضَجْنَان، فقال أبو بكر: أمير أو مأمور؟ قال علي: لا، بل مأمور ثم مضيا، وأقام أبو بكر للناس حجهم، حتى إذا كان يوم النحر، قام علي بن أبي طالب عند الجمرة، فأذن في الناس بالذي أمره النبي صلى الله عليه وآله وسلم. ونبذ إلى كل ذي عهد عهده، وأجل لهم أربعة شهور، وكذلك أجل أربعة أشهر لمن لم يكن له عهد، وأما الذين لم ينقصوا المسلمين شيئاً، ولم يظاهروا عليهم أحداً، فأبقى عهدهم إلى مدتهم. وبعث أبو بكر رجالاً ينادون في الناس: أن لا يحج بعد هذ العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان. وكان هذا النداء بمثابة إعلان نهاية الوثنية في جزيرة العرب.

يتبع.......

منقول بتصرف يسير من كتاب السيرة (الرحيق المختوم)

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين