نبذة عن حياة فضيلة العالم الرباني المجاهد  الشيخ حسن حبنكه رحمه الله تعالى

كتبها فضيلة الشيخ كريم راجح حفظه الله تعالى

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله على كل حال وحسبنا الله ونعم الوكيل.
بحق شيعت دمشق ليلة الأثنين 14 ذي القعدة عام 1398 الموافق 15/10/1978 رجلاً عظيماً، وبحق عرفت دمشق عظمته حين خرجت تموج كموج البحر تمشي وراء جنازته، تبكيه عيون الرجال والنساء والأطفال، ولم يقتصر ذلك على دمشق، بل شاركها سائر المحافظات السورية بما أرسلت من وفود وبرقيات وكتب، وشارك كذلك العالم الإسلامي حين نعى الرجل العظيم الذي أصيب بموته العالم الإسلامي كله، إنه فضيلة العلامة المجاهد الشيخ حسن حبنكه رحمه الله تعالى.
بحق إن دمشق شيعت عظيماً صنعه الله على عينه، ورباه بعنايته، فشب وعين الله ترعاه، ودرج والتوفيق يحرسه، وهيأ الله له ظروفاً مواتيه فبلغ في أرض الشام ما بلغه من قبله شيخ الإسلام ابن تيمية، والإمام النووي عليهما رحمة الله فأعاد سيرتهما اعتزازاً بالله، واستعلاء على الباطل، واعتداداً بالإسلام، فما لانت له قناة، ولا خضدت له شوكة، ولازلت له قدم، ولا نبا له سهم.
 
ولد العلامة الشيخ حسن حبنكه رحمه الله تعالى في دمشق في حي يسمى ميدان الحصى، والميدان معروف بنبله وإبائه وكرمه، ووفائه وتدينه، فكان لذلك أثر على نشأته. والمحلة التي ولد فيها – الجزماتية - في وسط الميدان فهي ملتقى الميدانيين، ومجال اجتماعهم، إذ كانوا يلتقون فيها للإصلاح بين الناس، ولفعل الخير، فرأى الشيخ ذلك إبان نشأته فأفاد منه. وكان البيت الذي نشأ فيه بيت دين وفضل، وخلق وورع، فيه الصلاة والصوم والقيام بالأسحار، فقد كان والد الشيخ الحاج مرزوق رجلاً من التقوى والورع بمكان، كان مرآه يوحي باحترامه لأن معاني الرجولة تظهر على وجهه، كان قليل الكلام، قليل مخالطة الناس، يؤدي واجبه في صمت، ويعمل الخير في السر، وكان عند الناس الذين عرفوه مثال المؤمن الأمين والصادق الوقور، فكان لشخصيته أثر واضح في حياة ولده الشيخ. ولم تكن أم الشيخ أقل صلاحاً من أبيه، بل كانت خير أم عرفت حق ربها وبعلها وولدها، فأولت الشيخ عناية خاصة في سلوكه كأنما كانت تلهم أنه سيكون لولدها شأن، وقد كان.
 
ولقد منح الله الشيخ بالإضافة إلى ما مر ذكاء وقاداً، يدرك به اللمحة، ولا تند عنه فيه الخطرة، ومنحه كذلك حافظة جيدة تستوعب ما يقع عليه بصره في الكتب والمراجع، وما كان يسمعه من شيوخه أثناء الطلب، فكانت تلك الحافظة تسعفه حين يعود إليها يستقرئها ما يريد. وكان ذا دأب عجيب، فلربما يسهر الليلة بكاملها ليطالع كتاباً كاملاً. أو ينظر في بحث، فإذا صلى الفجر، وجلس إلى الطلاب في درسه الصباحي الذي لم يتركه طيلة عمره كان يقول لهم، ويومئ إلى الكتاب الذي طالعه: لقد طالعت هذا الكتاب كله الليلة، وتصفحت ما فيه، فرأيت فيه كذا وكذا، ثم يأخذ يعدد بحوثه ومحتوياته، فلو شئت أن تدرسه دراسة كاملة لما استطعت أن تستوعب أكثر مما ذكر لك. ومرد ذلك إلى ذكائه وحافظته ودأبه رحمه الله تعالى.
كان للشيخ رحمه الله فراسة عجيبة (اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله) فكان يجتمع بالرجل لم يلقه من قبل فيكوِّن عنه فكرة كاملة في جلسة واحدة فلا يكاد الواقع يعدو رأيه فيه مهما تقلبت الظروف (ومن أسر سريرة في نفسه ألبسه الله رداءها).
كان للشيخ رحمه الله لسان فصيح وكلام بليغ ولغة سليمة وأدب رفيع وتراكيب لفظية تستلفت السمع. وتسترعي اللب، جمع الله له بين عمق التفكير. وسهولة التعبير فاستجمع البلاغة من مورديها. فكان يصرف القول كما يريد. حتى ليخيل إليك أنه يغرف من بحر. أو يستقي من ينبوع وكان مع ذلك صادقاً في القول. مستقيماً في العمل مخلصاً في النية فانساب قوله في الأسماع انسياب الماء إلى الكبد العطاش. واستقر في القلوب استقرار المسافر عاد من طويل غياب.
كان الشيخ رحمه الله مهيباً وقوراً كساه الله الجلال والجمال معاً فكانت العيون تحبه. والقلوب تجله ولن تعدو الحق إذا قلت كان يملأ العين جمالاً والقلب بهاء. والنفس احتراماً. والأذن بياناً. ولو رأينه وهو يخطب أو يدرس لرأيت منه رجلاً يملك الأسماع بجواهر لفظه. ويوقظ القلوب بزواجر وعظه في محيا يطلع على المنبر قمراً.
أخذ الشيخ رحمه الله علمه عن ثلاثة أصناف من الشيوخ: صنف كان بحراً في العلم ذاخراً كالشيخ محمود العطار، وصنف كان آية في البيان والحجة كالشيخ عبد القادر السكندراني، وصنف أعطاه الله قوة في الشخصية والجرأة على المبطلين من ذوي المناصب إلى ما امتاز به من نفوذ البصيرة وصفاء السريرة والاستقامة على المبدأ كالشيخ بدر الدين الحسني المحدث الأكبر. فأخذ الشيخ من الجميع حتى امتاز بشخصيته الفذة التي شهد لها القاصي والداني.
كان الشيخ رحمه الله كريماً معطاءً فلم يستبح لنفسه كنز العلم إيثاراً للراحة. بل كان شغوفاً بالتدريس وبذل العلم فأخذ يدرس العلوم على اختلاف أنواعها. ولم يستكمل الخامسة عشر من عمره. وكان إذ ذاك يغوص في الكتب القيمة ويشرح معانيها. ويحل عويصها. وكان يهمه أن يكوِّن شخصية الطالب المسلم الواعي اكثر مما يهمه أن يستحفظ الطالب كتاباً. وذلك منه بعد في النظر. وإدراك للأهم. ولا غرو فقد كان رحمه الله العالم الواعي. والمعلم المربي.
استمر الشيخ رحمه الله يعلم العلم إلى آخر حياته وكان يحن إلى طلابه حنين الظبية إلى ولدها. يواسيهم ويتحبب إليهم. يكرمهم إذا حضروا. ويتفقدهم إذا غابوا ويعاملهم في كل الأحوال كما يعامل الأب أبناءه.
كان رحمه الله يحب أن يقرن العلم بالعمل. فإذا قرأ شيئاً من السنة عمل به. وإذا مر على حكم طبقه على نفسه. ولا يستطيع المرء أن يستغرق البحث في ذلك ولكن على سبيل المثال نقول:
عندما قامت الثورة السورية في أوائل العشرينيات من هذا القرن وكان الشيخ في مقتبل عمره وقد قرأ آيات الجهاد وما أعد الله للمجاهدين. اندفع لقتال الفرنسيين مع الثائرين آنذاك كالشيخ محمد الأشمر والشيخ محمد الفحل ومن كان على شاكلتهما من ذوي الإخلاص. فكان في تلك الأيام مثال المجاهد الصادق. والعالم الأمين. والمؤمن الغيور فاستفاد الثوار من شجاعته وعلمه ودينه. فجرى بهم على نبراس الشريعة. وأخذ بهم إلى مهيع الحق. فكانوا يحبونه كما أحبهم ويستجيبون لدعوته إذا دعاهم.
ولما وضعت الثورة أوزارها ذهب الشيخ إلى الأردن فقام بواجب التعليم والتوعية. ووفد إليه الناس أفواجاً . وجاؤوه بأولادهم ليأخذوا عنه العلوم بأنواعها فقامت بوجوده نهضة علمية ودينية. كانت لها أثرها الواضح في ذلك القطر.
وعاد الشيخ إلى وطنه دمشق. وأخذ يرسل خطبه الفذة من منبر جامع منجك. ويبذل نصائحه المؤثرة. في دروسه المختلفة. فملك النفوس والقلوب. وكان يغرس مخافة الله في قلوب المستمعين كما يحذرهم من كيد المستعمرين.
ولما أرادت الدولة المستعمرة أن تفرض قانون الطوائف وكان مغايراً لتعاليم الإسلام. هب الشيخ يصرخ في وجوه الفرنسيين ويكشف للناس تطاولهم على الدين. فاستجاب الجماهير لدعوته ووضعوا نفوسهم رهن إشارته. حتى أرغم الفرنسيين المستعمرين على التراجع عن ذلك القانون وأعلنوا تراجعهم وانتصر الحق على الباطل {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} ومن توفيق الله للشيخ. أنه كان يقوم بأعماله مهما كانت صعبة وعسيرة دون أن يسمح للفتنة أن تدخل في صفوف رجاله أو تتسرب إلى عمل من أعماله. مما يدل على إحكام دقيق وضبط عجيب. فكان يعمل في صمت حتى ربما يظن من لا يعرف الشيخ أنه كان يرتجل أعماله ارتجالاً. فيتهمه بالعفوية والسطحية. ولو قدر له أن يعرف الشيخ حقاً لعرف أن للشيخ تخطيطاً مبيناً. وعملاً منظماً يحيطه بالحزم والكتمان. ثم يبديه في حينه. ويفاجئ به في وقته. يستنصر بالله. ويستعين بمن وثق بإيمانهم وصدقهم متبعاً في ذلك خطة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يقول الله له:{هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} ولقد كان واثقاً بأن الغوغائية لا يجني منها ذووها إلا العنت والفشل، والتقهقر والزلل.
وما أحوج المسلمين اليوم إلى التأسيس الهادئ والخطى الثابتة وكم فوّت الغوغائيون على المسلمين فرصاً سانحة.
كان الشيخ رحمه الله يعرف للجميع حقوقهم. وينزل الناس منازلهم. ويعامل كلاً كما يجب أن يعامل.
ولقد كان رحمه الله يتمسك بتوجيه القرآن. فيأخذ بمبدأ الشورى فإذا تم الاتفاق على شيء فلا يجوز النكوص عنه من أجل هدف دنيوي أو مصلحة شخصية. ويرى أن المنتدب عن مجلس الشورى أمين على رسالته ليس له أن ينحرف عنها أو يبدل فيها وإذا بدل فيما تم عليه الاتفاق. استحق العتاب. والدعوة للاستجواب. حتى يقدم مبرراً مقبولاً. أو عذراً واضحاً يعرض على كتاب الله ويوزن بالقسطاس المستقيم.
لقد لقي الشيخ في سبيل الدعوة إلى الله كثيراً من المشاق والأتعاب، فلقد سجن الشيخ وصودر ماله وجرد من الدنيا وهو فيها، ومع ذلك كله لا يعرف أحد أنه شكا أو تضجر، ويوم أخرج من السجن بفضل الله لا بفضل أحد سواه جاءه الكثيرون وطلبوا منه أن يخرج من البلد ولو للاستجمام أياماً فأبى بكل اعتزاز وهو يقول: "إن البلد بلدنا، ولن نهاجر منه"، ويتمسك بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية)، بل كان رحمه الله يعتب بمرارة على الذين فارقوا البلد، وما كسبوا من ذلك إلا المال أو الراحة أو الفرار من المعركة. كما قال ذلك لبعض منهم في وجهه.
منح الله الشيخ عفة اليد، وقناعة النفس، فكان يرضى بالقليل متوكلاً على الله، مستعيناً به، لم يعرف أنه تطامن من أجل منصب، ولا طأطأ من أجل مال، ولقد أصبح الشيخ في ذمة التاريخ، والتاريخ يشهد على ذلك، وكم كان الشيخ يردد:
ليكن بربك كل عزك يستقر ويثبت ... فإذا اعتززت بمن يموت فإن عزك ميت
بحق كان الشيخ المسلم الكامل، والعالم العامل، والنزيه الورع، فأعاد سيرة طاووس وسعيد بن جبير رحمهما الله في كثير من مواقف كفاحه، وبطولاته.
لقد فقدنا الشيخ ونحن أحوج ما نكون إليه، ولكن الله الذي أرسل محمداً صلى الله عليه وسلم لن يتخلى عن رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وإن في العلماء العاملين، وما ترك الشيخ من طلاب وأبناء لعزاء جميلاً.
ويطيب لنا أن نسوق في هذه الكلمة المختصرة كلمة للشيخ العلامة أبي الحسن الندوي صديق الشيخ ما قال في رسالته التي عزى بها من الهند فإليكم الرسالة التي وجهها لمن نعى له الشيخ رحمه الله، وهي مسك الختام:
قال أبو الحسن الندوي بعد المقدمة:
تلقيت كتابكم العزيز الذي تنعون فيه المربي الجليل وبركة العصر الشيخ حسن حبنكه الميداني رحمه الله، فإنا لله وإنا إليه راجعون، لقد كان هذا النبأ مفاجأة أليمة لي بوجه خاص ولجميع الأخوة الأعزة هنا بوجه عام، فقد كانت لي بالفقيد رحمه الله صلة شخصية خاصة، وكنت أعرفه منذ فاتحة حياتي العلمية، ولما حضرت دمشق لأول مرة في عام 1369 هـ زرته في منزله فوجدته على منزلة رفيعة من العلم والربانية، وقد أحبني هو أيضاً وأحاطني برعايته، وفي عام 1956م حينما زرت دمشق على دعوة من صديقنا المرحوم الأستاذ الكبير مصطفى السباعي عميد كلية الشريعة بجامعة دمشق في ذلك الوقت كأستاذ زائر في الجامعة، زرت الشيخ حسن حبنكه واستفدت من مجالسه، وظللت أتصل به طوال مدة إقامتي هناك، ومنذ ذلك الوقت كانت الصلة بيني وبينه وثيقة وطيدة، واستقر حبه في قلبي لأنني وجدته على صفات عالية وأخلاق فاضلة، وعلم جم وربانية مخلصة، وفي زيارتي الأخيرة لدمشق في عام 1973م تناولني بالعطف والإكرام والحفاوة البالغة، الخصلة الكريمة التي لا أنساها أبداً، فجزاه عنا كل مثوبة وأجر كريم.
كان الفقيد عالماً ربانياً، وكبقية السلف الصالح في الورع والتقى، والاتصال بالله والثقة الكاملة فيه والتفاني في سبيله، كما كان آية في الأخلاق الفاضلة والنزاهة والبعد عن زخارف الدنيا وشواغلها، قلما يوجد له نظير في هذا الوقت.
وقد أكرمني بقبول دعوتي التي وجهتها إليه للحضور في المهرجان التعليمي الذي أقامته ندوة العلماء منذ ثلاث سنوات، وشرف الجميع بحضوره في المهرجان وزاده إشراقاً وبهاء، وإنني اعتبر ذلك منة له كبيرة علينا لا يسعنا نحوها إلا أن ندعو الله له بمزيد من الجزاء الحسن والمثوبة الطيبة في آخرته، وكم كان لدعائه الذي دعاه في إحدى جلسات المهرجان تأثير عميق وعجيب أدمع العيون وأبكى القلوب، وكان له تأثير كبير في نجاح المهرجان واتساع نفعه المرجو، فجزاه عنا جميعاً كل خير ووفاه أجره بغير حساب.
ولا شك فقد حرم العالم الإسلامي بوفاته علماً من أعلام العلم والروحانية، وفقد فيه رجلاً كبيراً لا ينساه التاريخ المعاصر، ويسجل مآثره بمداد من نور ويخلد ذكره في سجل الخالدين من العلماء الأبرار، والصالحين الأخيار.
وإنني إذ أخط إليكم هذه السطور أشعر بمرارة الألم، وبفداحة الخسارة التي منيت بها الشام خاصة والعالم الإسلامي كله بصفة عامة، ولا أدري كيف أعزيكم على هذا المصاب العظيم وكيف أعبر عما أحس به في قلبي من أسى بالغ وحزن عميق، وأدعو الله تعالى أن يعزي قلوبنا جميعاً، ويلهم جميع أفراد أسرته وأهله وأنجاله الكرام وذويه، وجميع تلاميذه ومحبيه والشعب السوري الكريم، الصبر والسلوة، فإنه سميع مجيب، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
بلغوا تحياتي إلى جميع الأخوة الكرام والمحبين والعلماء والمشايخ والكرام، وخاصة إلى أعضاء أسرة الفقيد، رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته. والسلام عليكم ورحة الله وبركاته.