موقف الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين حول الفيلم والرسوم المسيئة لمقام الرسول الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم والعنف المصاحب للمظاهرات

 

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم النبيين، محمد بن عبد الله وعلى سائر إخوانه من الأنبياء والمرسلين، وعلى من اتبعهم بإحسان إلى  يوم الدين.
( أما بعد)
 
      فإن الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين تنطلق ثوابته من ثوابت الإسلام الذي شرعه الله ليكون منهجًا للحياة، وهو دين التسامح والتعايش، والرحمة للعالمين، فقد جعل الاتحاد من أهم أهدافه تحقيق الوسطية والاعتدال للأمة، والعمل بكل إمكانياته للحفاظ على هوية الأمة ووحدتها وقيمها العليا، ومواجهة الغلو في الدين، والانحراف عن المنهج الوسطي، كما أن من ثوابت الاتحاد الدعوة إلى  تعاون البشرية جمعاء على البر والتقوى، وتحقيق المصالح والسلام للجميع كما دعا القرآن الكريم: { أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ } [ آل عمران:64]، حيث لا يجوز أن يقوم أي أحد بما يعكر صفو السلام العام، أو يعرقل تعاون البشرية بعضها مع بعض، كما يدعو الاتحاد إلى احترام مقدسات جميع الأديان، لأن الإساءة إلى  هذه الأديان، أو أحدها، يشعل نيران فتنة عامة، لا يسهل إطفاؤها.
وبناءً على ذلك فإن موقف الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين من الفيلم، والرسوم المسيئة لرسول الإسلام، والعنف الذي صاحب بعض المظاهرات، يظهر جليًّا فيما يأتي:
 
·        أولاً: أن مقام الأنبياء والرسل جميعًا عليهم السلام في عقيدة المسلمين عظيم جدًّا، وأنهم يحبون رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من أنفسهم، ومن هنا فإن أي إساءة للرسول صلى الله عليه وسلم فهي إساءة للمسلمين جميعًا، كما أن الإساءة إلى  أي رسول من رسل الله مثل موسى أو المسيح عليهما السلام، إساءة إلى  أمة الإسلام كلها.
ولذلك يرى الاتحاد أن قيامهم بالاعتصامات والمظاهرات السلمية أمر مشروع؛ بل مطلوب شرعا وعقلاً وطبعا، ويؤكد الاتحاد في هذا الإطار على ما يأتي:
 
1- أن مظاهرات المسلمين يجب أن تكون سلمية، ولا يجوز الاعتداء على الأموال الخاصة، والعامة للدولة، ولا للأفراد ولا على أي نفس بغير حق، قال تعالى: { أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا } [المائدة:32] وقد حرّم الإسلام الاعتداء على المال والعرض في أي مكان وزمان، كحرمة الاعتداء في الحرم المكي وفي الشهر الحرام.
2-  أن الجريمة – أي جريمة الإساءة – لا تقابل بجريمة أخرى- وهي جريمة الاعتداء على الأفراد، أو الأموال - ولذا نطالب بقوة: منع الاعتداء تحت أي غطاء كان، ومعاقبة مرتكبيه، وتجريم فاعليه، وقد أدان الاتحاد بشدة الاعتداءات التي حدثت في ليبيا، والسودان على السفارات، كما أدان بشدة مقتل الدبلوماسيين.
3-  الجريمة في الإسلام شخصية لا يجوز أن تتجاوز عقوبتها الجاني إلى  غيره أبدًا – كما هو الحال في القوانين الدولية -  ولذلك أكد القرآن الكريم في أكثر من آية: { أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى?} [النجم :38].
4-  أن الحرية - وإن كانت مصونة في الدساتير – ولكن لا يجوز أن تتجاوز حدودها لتصل إلى إهانة الآخر، وإيذائه في مقدساته وفي مشاعره، ولذلك فإيذاء المسلمين والازدراء بهم، والاستهزاء بنبيهم أو رموزهم غير مقبول.
      وفي هذا الإطار يرى الاتحاد ازدواجية في المعايير لدى بعض الدول، حيث لا تسمح بأي شئ يمسّ اليهود، حتى التشكيك في عدد من قتلوا في الهولوكوست – كما حدث للفيلسوف جارودي الذي حكم عليه بالسجن لمجرد التشكيك – فالمسلمون يرون هذه، ثم يرون أن أفلامًا ورسومًا بعيدة كل البعد عن الحقيقة، تسيء إلى  دينهم وإلى رسولهم جهارًا ونهارًا، وبعض الحكومات الغربية تبرر ذلك بحجة حرية التعبير، وهنا تستغل العاطفة الهائجة لدى البعض لتصرفات قد تكون لها نتائج غير مقبولة شرعًا.
لذلك نحن في الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين نوصي بوضع قانون دولي لمنع الازدراء بالأديان السماوية ورموزها ومقدساتها، حتى لا يكون هناك سبب لتحريض البشر بعضهم على بعض.
 
·         ثانياً: أن الإسلام حرّم الاعتداء على غير المسلمين الذين يعيشون في البلاد الإسلامية، في أنفسهم وأعراضهم وأموالهم، كحرمة المسلمين، بل إن الرسول صلى الله عليه وسلم بيّن أن ذمتهم وعهدهم هي من ذمة الله ورسوله، وأن من أخفَر ذلك فاعتدى، أو قتل واحدًا منهم لم يرح رائحة الجنة، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قتل مُعاهدًا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عامًا" رواه البخاري (6549 ) وغيره.
 
·        ثالثاً:  أن من ثوابت الإسلام أن الرسل ( أي سفراء الملوك) لا يُقتلون، فقد أرسل مسيلمة الكذاب رسولين (وهما غير مسلمين) إلى الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم لاعتراف الرسول صلى الله عليه وسلم به، فردّهما ولم يقتلهما مع أنهما اعترفا أمام رسول الله بأنهما يقولان بمثل ما يقول به مسيلمة، فقال: "لولا أن الرسل لا يقتلون لضربت أعناقهما" رواه أبو داود بسند حسن (2425)، ورواه أحمد بسند صحيح (3613) عن ابن مسعود، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهما: "أتشهدان أني رسول الله؟" قالا: نشهد أن مسيلمة رسول الله، فقال: " لو كنت قاتلاً رسولاً لضربت أعناقكما" قال ابن مسعود: "فجرت سُنَّة: أن لا يُقتل الرسول".. وفي رواية رقم (3662): "فمضت السنة أن الرسل لا تقتل" رواه الحاكم وصححه، وابن خزيمة في صحيحه، وغيرهما.
      وقد أجمع فقهاؤنا قاطبة على حرمة الاعتداء على كل من دخل بلاد الإسلام بعهد وأمان.
 
·        رابعاً: أن الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين يرى أن الأصل في العلاقات بين الناس – وإن اختلفت أديانهم- يجب أن تقوم على السلم والتعايش والتعاون على البر والتقوى، ورعاية مصالح الناس جميعًا، وأن الحرب هي آخر الدواء. ومع ذلك يجب أن تكون لإحقاق الحق ودرء الظلم، وليست للبغي والعدوان والاحتلال. فالناس جميعًا – في نظر الإسلام – تجمعهم الأخوة الإنسانية، قال تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى? وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ، إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [ الحجرات: 13]، وأن الله تعالى بيّن لهم أن الأرض لم تخلق لفئة معينة؛ بل لجميع المخلوقات ليعيشوا عليها، ويستفيدوا منها بعدل وإنصاف، فقال تعالى: { وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ} [الرحمن: 10] بل إن الله تعالى أمر الناس برعاية رحم القرابة الإنسانية فقال تعالى: { وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ}  [ النساء: 1] أي:الأرحام الإنسانية، كما يدل السياق.
فلذلك فإن الأصل في حل النزاعات والصراعات هو الصلح والحوار البناء للوصول إلى  الحق الذي يجب أن يقف معه الجميع، بحيث يتحقق قوله تعالى: { فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى? فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى? تَفِيءَ إلى ? أَمْرِ اللَّهِ } [ الحجرات:9]، حتى لا يبقى الظلم داخل المجتمع، لأن الظلم ظلمات.
 
·         خامسًا: أن الاتحاد يرى أن على المسلمين القيام بالأفعال المؤثرة لإعطاء صورة حقيقية للإسلام ولرسوله الرحمة للعالمين، من خلال القدوة الصالحة والحوار الإيجابي، ومن خلال الدعوة بجميع اللغات الحية للتعريف بحقيقة الإسلام ورسالته ونبيه، ولاسيما بالوسائل المعاصرة، مثل الأفلام، ووسائل التواصل الاجتماعي، والندوات والمؤتمرات لقادة الفكر والإعلام الغربيين وغيرهم، وتنظيم الدورات والحلقات الثقافية، في السفارات الإسلامية، وتقوية المراكز والقنوات الإسلامية في العالم، والإشراف على المواقع الالكترونية، والقنوات الفضائية القوية؛ لتقوم بدورها في التعريف بالإسلام ورسالته ورسوله، فقد أمر الله رسوله بأن يعرض عن الجاهلين، وينشغل بنشر دعوته بين العالمين، فقال تعالى:{ فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ، إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} [الحجر:94].
 
·        سادساً: أن الاتحاد يرى أن الاستهزاء، والازدراء بأيّ دين أمر مرفوض ومعيب في الإسلام، كما يدينه العقل السليم والفطرة الإنسانية، لأن الازدراء والاستهزاء بأي دين، تترتب عليه مشاعر الكراهية، والفتن التي تشعل نيران الحروب التي ملها البشر وكرهوها، وهي إذا قامت يصعب إطفاؤها. وليس هذا من لوازم حرية الفن والتعبير؛ بل هو من لوازم حرية السب والإيذاء والتشهير، وهذا لا ينبغي أن يقره أحد.
 
ولذلك يدعو الاتحاد جميع العقلاء والحكماء في العالم أجمع إلى وضع ميثاق شرف بعدم إهانة المقدسات، أو إيذاء المشاعر الدينية، وإلى قانون أممي يصدر (من الأمم المتحدة) يحرم الاستهزاء والازدراء بالأديان ومقدساتها المعروفة، وهذا ما يسعى إليه الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، ويدعو الجميع للتعاون معه لتحقيق ذلك، حتى ينأى بالعالم عن دواعي الكراهية والصدام. والله المستعان.
        
 
أ.د علي محيي الدين القره داغي                       أ.د. يوسف القرضاوي
 
 
 
الأمين العام                                           الرئيس