من وحي اجتماع الميلادين

هذا حديث إذاعي من أحاديث العلامة الشيخ مصطفى الزرقا ألقاه عبر الإذاعة السورية في شهر كانون الثاني سنة (1951م)، وأشار إلى أن عيد المولد النبوي الشريف وعيد ميلاد سيدنا عيسى عليهما السلام اجتمعا في الشهر الفائت الهجري، وهو (3)ربيع الأول (1370هـ) ويقابله (12)كانون الأول(1950 م).

وهذا الحديث الإذاعي ضمن مقالات العلامة الزرقا التي جمعها الأستاذ مجد مكي، وستصدر قريبا في مجلدين كبيرين بعون الله تعالى

كان الشهر الفائت محبوكَ الطرفين بأقدس الذكريات، فقد اجتمع فيه يومان لم تشرق على الأرض شمسٌ كشمسهما بالخير والبركة، واليُمن والهدى.

ففي أول ذلك الشهر الماضي يوم مولد الرسول الأعظم النبي العربي سيدنا محمد بن عبد الله صلّى الله عليه وسلّم، وفي آخره يوم ميلاد سيدنا عيسى المسيح عليهما الصلاة والسلام.

رسالة الإسلام رسالة السلام:

فمنذ شهر تتوالى احتفالات العالم الإسلامي في بقاع الأرض بذكرى مولد الرسول الأعظم، سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم الذي جاء بدعوة الإسلام رحمةً للعالمين، وتجديداً لهداية السماء، وإيماناً وتصديقاً بمن تقدَّم من رسل الله، وما جاؤوا به من كتبه، وتوجيهاً للبشر إلى الجادّة، بعدما أضلّتهم عنها عبادة الهوى والمادّة، فكانت رسالة الإسلام رسالة السلام، تدعو إلى مقوِّمات الحياة البشرية الصالحة الناجحة، وتوجِّه الخلق إلى مراقبة الخالق، وإلى التعاون على الخير، والتعارف في سبيله، وتُسخِّر القوة للحق، والسطْوة للأمن والحزم للرحمة، فجاء القرآن ينادي: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ *} [الحجرات: 13] .

{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ *} [آل عمران: 104] .

ودعا أهل الكتاب والأديان السماويَّة السابقة إلى نبْذ العصبيَّات جانباً، وإلى الاجتماع تحت اللواء المشترك الذي تدافع عنه الأديان السماوية كافّة، ضد عدوٍّ مشترك هو الوثنيَّة أو الإلحاد أو عبادة الرؤساء والأهواء أو المادة، فجاء القرآن ينادي أيضاً: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ *} [آل عمران: 64] .

ثم نادى بالإحسان العام وجعله دعامة الإيمان، فقال: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195] .

وقال النبي عليه السلام: «الناس عيال الله، وأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله»[رواه البزار (6947)، وأبو يعلى (3315)، وقال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (13706): رواه أبو يعلى والبزار، وفي إسنادهما زياد بن أبي حسان، وهو متروك، عن أنس رضي الله عنه. والحديث قد حسَّنه بعضهم لكثرة طرقه وشواهد الكتاب والسُّنَّة العامة تدل على صحته. وينظر: شرح «الجامع الصغير» للمناوي والعزيزي، و«المقاصد الحسنة» (ص201)].

وقال: «إنَّ الله كتب الإحسان في كلِّ شيء»[ رواه مسلم في الصيد (1955)، عن شداد بن أوس رضي الله عنه.].

هذه أسس دعوة الإسلام التي احتفل العالم الإسلامي بمولد صاحبها عليه السلام منذ أيام.

المسيح عليه السلام رسول الرحمة والحكمة والإنسانية والرفق:

ومنذ أسبوعين، احتفل العالم المسيحي باليوم الذي يذكر بميلاد سيِّدنا عيسى عليه السلام، وهو رسول الرحمة والحكمة والإنسانيَّة والرفق، جاء على فترة من الرسل، بعد أن تجهَّم وجه البشر بالشر، وتلبَّدت فيه من الطغيان ألوان غائمة قاتمة، واطَّرح الإنسان إنسانيته وتسلح بوحشيَّته، فجاء عيسى عليه السلام بدعوة المحبة والوداعة، والرفق والأناة، والسِّلْمِ المطلقة، والحكمة المشفقة، فذكَّر عيسى عليه السلام الإنسانَ بإنسانيَّته التي تناساها، وأراده أن يقلِّم من أظافير وحشيَّته وضراوته التي تسلَّح بها. وقد صبر عيسى عليه السلام صبر الأنبياء العظام على الأهوال التي قامت في وجه دعوته بقلبٍ ثابت الجَنان، مفعم بالحنان لا يحقد ولا ينتقم، ولا يثأر ولا يُرغِم.

وكانت دعوته تمهيداً لدعوة محمد عليهما السلام، وقد عدَّه القرآن العظيم في عظماء الرسل الذين سمَّاهم أُولي العزم، وبرَّأه وأمَّه البتول من مفتريات اليهود.

شقاء العالم اليوم واتجاهه نحو عبادة المادة:

هذه هي الدعوة الإلهيَّة إلى المعاني والمقاصد التي يجب أن تتوجَّه إليها الأفكار الإنسانيَّة، وهي ضرورة تعاون العلم والعقل والروح في سبيل خير البشريَّة، ولكن من شقاء العالم أن يُفقَد فيه اليومَ روح الدين، ولا يبقى فيه إلا اسمه ورسمه.

إنَّ العالم يتَّجه نحو عبادة المادة في صورتها الحديثة، من القوة والشهوانيَّة كما كان الأقدمون يعبرونها في صورتها القديمة من الوثنيَّة والخيال.

وإنه ليؤسفنا أن تكون عبقريَّة البشر الحديثة لا تتَّجه إلى اكتناه خصائص المادة واكتشاف قوانينها الطبيعيَّة إلاّ وهدفُها الأول تسخيرُ قوَّتها لقهر البشر أنفسهم.

ويؤسفنا أن يكون اكتشاف تحطيم الذرَّة وتفجير قوَّتها القاهرة الباهرة مدفوعاً إليه بغرض تحطيم الشعوب، لا بقصد خدمة البشر وتسهيل وسائل النفع والإحسان.

فهل يصح أن نقول: إنَّ المواهب والعقول التي خلقها الله في الإنسان بوجه عام لم يعد الإنسان يستخدمها إلا في تهديم كيانه.

فالإنسانيَّة تنتحر وهي تفتخر، وما حياة أمَّة غالبة، تبقى في النهاية وحدها، بعد أن تتداعى من حولها المدنيَّات وتتساقط الشعوب بالتدمير بعد التعمير.

وهل أفظع من أن يصل البشر بمعارف الطب والكيمياء إلى استخدامها في نشر الأوبئة والأمراض خلال الحروب الطاحنة، بينما لم يوجد الطب إلا لمكافحة تلك الأوبئة ومقاومة عواملها وجراثيمها؟

وهل أصبح هدف الإنسان أن يربي الجراثيم الفتَّاكة ليحارب بها عوضاً عن أن يحاربَها ويبيدَها؟

فأيُّ تناقض هذا بين الواجب والواقع؟

أو أيُّ هُوَّة سحيقة أعظم من هذه الهُوَّة الفاصلة بين الإنسان والإنسانيَّة في هذا العصر، عصر المدهشات والأعاجيب.

فلقد كاد يبلغ الاعتقاد بكلِّ ذي سمع وبصر أنَّ كلمة المستحيل يجب أن تنقل إلى كتب الأساطير، وتحذف من معجمات اللغة، وكتب الفلسفة، بعد أن أصبح الإنسان يتَّصل من شرق الأرض وغربها بمجرَّد فلكة زرٍّ على آلة تحمل باليد، وبعد أن أصبح يقطع مسافة الشهر بساعة، وقد يقطعها في المستقبل بدقيقة، وبعد أن أصبح يدمِّر بالذرة بلداً.

الظلام الروحي في عصر الكهرباء:

ولكن مع كل هذا العلم والقدرة اللذين انْبجست ينابيعهما بين أصابع عباقرة الأمم المتمدنة، لا يرى أهل البصيرة في كلِّ أمَّة منها إلا أنَّ البشر في ظلام روحي، وإنْ كانوا في عصر الكهرباء، وأنَّهم في جاهليَّة يستبيحون فيها من محرَّمات الفضيلة الإنسانيَّة ـ بقدر ما يكتشفون من أسرار العلم، فكأنَّما العلم ينتقم لنفسه منهم بهم، فلا يفتحون من حَرَمه غرفةً جديدة إلا لتكون قبراً لأمَّة منهم، أو كأنَّما أعاجيب هذا العلم الكوني الحديث طعام مسموم لا يصيب منه أحد شيئاً إلا يموت به.

والحقيقة أنَّ الداء ليس في هذا العلم الحديث، بل في نفوس العلماء، الذين لا يريدون العلم إلا سلاحاً للبغي والاستيلاء.

فنحن اليوم في جاهليَّة العلم، وهي أخطر على البشر من جاهليَّة الجهل.

إنَّ كل هذه الملاحظات في سوء المصير المنتظَر لهذه البشريَّة الشقيَّة بعلمها، لجديرة بأن تُهيب بقادة الثقافة، والتربية العالميَّة، إلى أن يفكروا بالرجوع إلى سبيل ترقية الروح وتنقية النفوس، في تلك السبيل التي أرسل الله رسله، وأنزل شرائعه السماويَّة متتالية للدعوة إليها والتبشير بها كلما طغت المادة عليها لإنقاذ البشر من الهاوية.

فجميع الشرائع السماويَّة متضافرة على هذه الدعوة الإنقاذيَّة عن طريق العناية بالقيم الروحيَّة والأهداف الإنسانيَّة العليا العامَّة.

والشريعة الإسلاميَّة كانت أعظم دعوة إلهيَّة للبشر، تدعوهم إلى الخير العام والإخاء والسلام، وترجيح الفضيلة على كل وسيلة بآيات قرآنها التي رويناها آنفاً، وبلسان رسولها العربي الكريم إذ يقول عليه الصلاة والسلام: «الناس عيال الله، وأحبُّهم إلى الله أنفعهم لعياله»[ حسَّنه بعضهم لكثرة طرقه وشواهده العامة. وينظر: «المقاصد الحسنة» (ص201).].

ويقول: «لا فضل لعربيّ على عجميّ، ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى»[رواه أحمد (23489)، وقال مخرجوه: إسناده صحيح، عن من سمع خطبة النبي صلّى الله عليه وسلّم.].

ويقول: «إنَّما بُعثت لأتمِّم مكارم الأخلاق»[رواه أحمد (8952)، وقال مخرِّجوه: صحيح وهذا إسناد قوي، والبخاري في «الأدب المفرد» (1/104)، والحاكم في «التاريخ» (2/613)، وصحَّحه على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، عن أبي هريرة رضي الله عنه].

فهل نَنْعم باليوم الذي يدرك فيه البشر واجبهم الإنسانيَّ على وجْه الأرض، ويستفيدون من ذكريات رسالات الأنبياء، ويُسخِّرون العلم، للبناء لا للهدم، وتتعاون الأمم على كشف الغمّ؟!

هذا ما نرجو أن نراه، وإنَّ غداً لناظِره قريب، وما ذلك على الله بعزيز.

جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين