من همَّ بحسنة ولم يعملها كُتبت له حسنة

 

الله سبحانه لطيفٌ بعباده، حكيمٌ رحيمٌ عادل في معاملتهم، وآيات لُطفه وحِكمته وعدله ورحمته لا تحصى، فمن لطفه تعالى بعباده ورحمته وعدله في معاملتهم أنَّه في مكافأة من أحسن منهم يكافئ بالجود والفضل ويضاعف الأجر ويجزل الثواب. وفي مؤاخذة مَن أساء منهم يؤاخذ بالرحمة والعدل، ويسوي بين الذنب والجزاء، فهو جلَّ ثناؤه في مكافأة المحسن يتجلَّى جوده وفضله وكرمه، وفي مؤاخذة المسيء يتجلى عدله وعفوه وعطفه، قال الله تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [الأنعام:160].

ومن لطف الله تعالى بعباده ورحمته وعدله في معاملتهم أنَّ من همَّ منهم بحسنة ولم يعملها كتبت له حسنة، ومن همَّ بسيئة ولم يعملها لم تُكتب عليه سيئة، روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أنَّ الله تعالى يقول للحفظة: إذا همَّ عبدي بسيئة فلا تكتبوها، فإن عملها فاكتبوها سيئة، وإذا همَّ بحسنة فاكتبوها حسنة فإن عملها فاكتبوها عشراً).

وهذا النظام الإلهي في المكافأة والمؤاخذة أفضل نظام يحبب في الخير، وفي نية الخير، وفي الهمِّ بفعل الخير؛ لأنَّ من نوى الخير وهمَّ بفعله إن لم ييسر له تنفيذ ما نواه كتبت له حسنة. 

وإن نفَّذ ما نواه كتبت له عشر حسنات، فهو مأجور على كل حال وهو أيضاً نظام يصلح نفس من همَّ بالسوء ويهيئ له السبيل للرجوع عمَّا همَّ به؛ لأنَّه إذا لم يفعل ما هَمَّ به عفا الله عنه، ولم يكتب عليه سيئة، ولابدَّ لي أن ألفت النظر إلى أمرين.

أحدهما: أنَّ المقصود بالهمِّ بفعل الحسنة أو فعل السيئة هو عَزم القلب، وتصميمه على الفعل وتوجُّهه إلى تنفيذه، وأما مجرَّد حديث النفس والخاطر الذي يمرُّ بالفكر فهذا لا يسمى همَّاً ولا عَزْماً ولا مُكافأة ولا مؤاخذة عليه، وهو المقصود بقوله صلى الله عليه وسلم: (عُفي عن أمتي ما حدَّثت به نفوسها).

وثانيهما: أنَّ من همَّ بسيئة ولم يعملها لم تُكتب عليه سيئة إذا كان المانع الذي منعه من عملها أمراً خارجاً عن إرادته. 

وأما إذا كان المانع الذي منعه هو ندمه على همِّه بفعل السيئة وجهاده نفسه في صرفها عن فعل السيئة فهذا الندم والجهاد يكتب له حسنة، وفي الحديث القدسي: (إنما تركها من أجلي فاكتبوها له حسنة).

ومن همَّ بحسنةٍ ولم يعملها إنما تُكتب له حسنة إذا منعه عن العمل والتنفيذ عذر خارج عن إرادته، وأما إذا عَدَل عن تنفيذ الخير الذي همَّ به إعراضاً عنه وانصرافاً عن الرغبة فيه فهذا لا تكتب له حسنة، بل يكتب عليه نكوصه وإعراضه عن الخير سيئة.

فمن همَّ بالخير وصمّم عليه وأخذ في أسباب تنفيذه ثم حال بينه وبين التنفيذ عذر خارج عن إرادته كتب له حسنة، وكان شريكاً لمن نفَّذوا في مثوبة الله تعالى وأجره، روي عن أنس بن مالك أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خرج في غزوة تبوك قال: (إنَّ بالمدينة أقواماً ما قطعنا وادياً ولا موطئاً يَغيظ الكفارَ ولا أنفقنا نفقة ولا أصابتنا مخمصةٌ إلا شَركونا، وذلك وهم بالمدينة قالوا كيف ذلك يا رسول الله وليسوا معنا؟ قال: حبسهم العذر، فشركونا بحسن نيتهم)

قال الله جل ثناؤه: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ المَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ } [النساء:100].

قال الله عزَّ وجلّ: {وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا } [آل عمران:97]، فهنا ليس المراد بأنَّه كتبت له حسنة واستحقَّ الأجر على نيته أنَّ فريضة الحج سقطت عنه؛ لأنَّ فريضة الحج فرضها الله على كل من استطاع إليه سبيلاً، وهي فريضة عينية لا تسقط عمَّن فرضت عليه إلا إذا أداها مستوفية شرائطها وأركانها وواجباتها متبعاً في أداء مناسكها ما بيَّنه الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله وفعله، لأنه صلى الله عليه وسلم حجَّ، وقال للمسلمين: (خذوا عني مناسككم)، وهي ليست فريضة على المستطيع فوراً ففي أي عام يؤديها المستطيع سقطت عنه الفريضة.

فنية الحج وعزم القلب عليه وتهيئة أسبابه ووسائله كلها حسنات تكتب لمن نواه ويثاب عليها، ولكن لا تسقط فريضة الحج عنه ولا تغني عن أدائه. 

ومن خرج من بيته متهيئاً لأداء فريضة الجمعة قاصداً المسجد للصلاة فيه ثم منعه عذر قاهر من الوصول إلى المسجد حتى فاتته الجمعة أثيب على قصده ونيته، ولم تسقط فريضة الجمعة.

فهؤلاء الذين همَّوا بالحجِّ، وحال بينهم وبينه العذر القاهر إذا أراد الله ووفَّقهم لأدائه في العام القادم أو في أي عام، كتب لهم في صحيفة حسناتهم حسنة نيتهم وقصدهم وعزمهم، وحسنات حجِّهم وتنفيذهم.

ومن قارن بين النظام الإلهي في المكافأة والمؤاخذة، وبين نظام أكثر الرؤساء وولاة الأمور في رقابتهم أعمال العاملين وجهود الموظفين، يعنون بالسيئات لا بالحسنات فالمحسن مهما كان إحسانه لا يشار في تقرير أعماله إلى حسناته، فإذا أساء سجلت سيئته وكانت بارزة في صحيفة أعماله، وأكثر ملفات الموظفين لا يسجل فيها إلا السيئات، كأنَّ المسيء لا حسنة له، وهذا نظام جائر لا يحبِّب في الإحسان، ولا يرغِّب فيه، ويجعل همَّ الموظف أن يفرَّ من العقوبة ولا يبعث فيه الهمة والنشاط للإحسان، فهو إن زلَّ لا تغفر زلته، وإن أحسن لا تقدَّر حسنته.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم 

(مجلة منبر الإسلام، السنة الخامسة، جمادى الأولى 1367 - المجلد 3). 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين