من علَّمَك الكتابة؟

قالوا: تعجبنا عربيتك رقيقة الكلمات جزلة، شائقة العبارة مليحة، بديعة البيان سهلة، فهل درجْتَ في بادية نجد باكيا على رسومها وأطلاها؟ أم ترعرعت في براري تهامة متحَوِّلا بين حزونها وجبالها؟ 

قلت: لم تلدني صحراء نجد متغذيا بلبانها، ولا نَمتْني قريش ممهَّدا لي الشرفُ في بطحائها، ولكني أعجمي أيفعْتُ في ريف من أرياف الهند، لا أنا في علياء معد ولا فخار نزار، بيد أني من طلاب العربية المحبين لها المتيَّمين بها.

قالوا: فكيف ألِفْت الكتابة بها ولست من أهلها؟

قلت: كما نبغ فيها ألوف من الأعاجم قديما وحديثا، قالوا: نحن عجم مثلك ومثل غيرك ممن أتقنها وحاز قصب السبق فيها ونال شأوا بعيدا، ونريد أن نحذو حذوهم ونقصد قصدهم، على منوالهم ناسجين ونهجهم ناهجين، فاقصص علينا مِن بصرك وغنائك واقفا إيانا على من روّضك كتابة بها وثقفك تثقيفا،.

قلت: أخذتها من شيوخ كثيرين في مدارس جونفور ودار العلوم لندوة العلماء، قالوا: من هو أبرزهم تأثيرا فيك وتنمية فيك هذه الملكة العجيبة والسليقة الغالية؟

قلت: هو شيخنا الأستاذ محمد واضح الرشيد الندوي سليل العرب الأقحاح، غرة مضر، ووارث مجد بني عدنان.

قالوا: انعتْ لنا طريقته في تعليم الكتابة نعتا يغنينا عن غيره ويقرب لنا مرادنا تقريبا ومُدْنيا مطلبنا إدناءً.

قلت: أكشفها لكم في أربع نقاط، قالوا: ما هي؟ 

قلت:الأولى: دلَّنا على المبرّزين من الكتَّاب المعاصرين، مستحِثًّا إيانا على قراءة كتبهم ومقالاتهم محبِّبًا لها إلينا تحبيبا، مقوِّين بها مهارة القراءة، ومستزيدين من الحصائل اللغوية، وسابرين الأنماط الكتابية، وواعين المعاني والتعابير، ومتأملين مواطن الجمال في الفكرة والخيال والعاطفة والأسلوب لدى أدباء العرب وملاك نواصي البيان فيها، ومستقين منها في استيعابنا لمعاني الحياة، وتعرفنا بالعالم العربي ثقافته وحضارته واتجاهاته، والاطلاع على قضايا أمتنا وعصرنا، ووقوفنا على تراثنا قيما وآدابا، وعادات وميولا.

الثانية: طوَّر فينا كفاءة الترجمة من العربية إلى الأردية، ومن الأردية والإنكليزية إلى العربية، معمِّقين فينا معرفتنا بلغتنا الأم، ومتمكنين من ضبط العربية في مفرداتها وتراكيبها، ومضاعفين من مخزوننا الثقافي ودراية أدق بما نقرأ وما نكتب، وباذلين جهدنا في فهم النص الذي نترجمه واستخراج الألفاظ المتكافئة والبديلة بالعربية، ثم أداء أفكار النص ومعانيه أداء يجعل كتابتنا طبيعية بعيدة من التكلف والتصنع.

الثالثة: درّبنا على الكتابات الإبداعية بإنشاء لمقال، وتعليق على خبر، ونقد اتجاه أدبي، أو فكرة سياسية، أو مذهب ديني، أو رأي اجتماعي، ملقِّحا مواهبنا وقدراتنا، ودافعا إيانا إلى التفكير والاستنتاج، والصبر على التعبير والإبلاغ، متمرنين على استكشاف أفكارنا وآرائنا وأحاسيسنا وحاجاتنا، وترتيبها ترتيبا منطقيا، ثم بيانها بلغة عربية سليمة، ومرتقين بمستوى تفكيرنا وصولا الى الإبداع والابتكار، ومصيبين بألفاظنا مواقع الشعور، ومثيرين بها مكامن الخيال.

الرابعة: شجَّعنا بنشر تراجمنا ومقالاتنا في صحيفة (الرائد) التي يترأس إدارتها، منشئًا فينا ثقة بأنفسنا وكفاءتنا الأدبية وملكتنا اللغوية، فكان يختار لنا نصوصا أو أخبارا أو تعليقات للترجمة، أو كنا نستولد أفكارا واقعية جديدة منتزعيها من الحياة أو من قراءاتنا أو خبراتنا، ونقوم بتسويدها ناقلين الحقائق إلى حيز الكتابة، ثم نراجع كتاباتنا ونطورها في أسلوب أوفى وأدق وأجمل، ثم نقدمها إليه للنشر، فيعدِّلها لتصبح مفهومة راقية إلى مستوى الصحيفة. 

قالوا: من هم الكتاب المعاصرون الذين وجهك شيخك إلى قراءة كتاباتهم؟ 

قلت: أبرزهم أحمد أمين، وطه حسين، ومصطفى السباعي، ومصطفى لطفي المنفلوطي، وسيد قطب، وعلي الطنطاوي، ومصطفى أمين. 

قالوا: ألم يحذِّرك من الأفكار الزائغة عند بعضهم لاسيما طه حسين؟ 

قلت: بلى، كان يربينا على الفكر الإسلامي الصحيح يرعانا رعاية الآباء للأبناء من دون أن يسلبنا حرياتنا في القراءة والتفكير والنظرمعالجا انحرافات طه حسين وتغرب غيره بتوجيهنا إلى كتابات أبي الحسن الندوي وغيره من أصحاب الفكر الإسلامي الصالح المعتدل.

قالوا: كيف كان إصلاحه للحناتك وهناتك اللغوية وتصحيحه لأخطاء الصياغات؟ قلت: هذا سؤال خطير ممتع، فلم أر أحدا يحسن فن إصلاح الأخطاء إحسانه، وهو في ذلك عجب، كان يحاول أن يبقي على أصلنا محتفظا به ما أمكن. 

قالوا: هل غضب على زلاتك قط، قلت: لم أره أبدى انزعاجا أو سخطا مهما جل الخطأ أو دق، وجسم الغلط أو رق، بل عهدته محتملا للأذى، صبورا على الإصلاح، سليم ذات الصدر رحبا، فأحببناه من صميم قلوبنا وأعماق نفوسنا. 

قالوا: لعل ذلك لقلة خطأ أو عدم غلط لديك. 

قلت: لا، بل قد تكون أخطاؤنا كثيرة فيها أضاحيك وبلايا، ولكنه عظيم الخلق، شريف الطبع، نزيه الفكر، حسن العشرة، دائم البشاشة، ساتر للعيوب، متغاض عن السقطات، غير متتبع للعثرات، لم يواجهنا قط بما يسوءنا، وكل يوم تبدي صروف الليالي خلقا منه نبيلا، قالوا: يا ليت المعلمين كلهم مثله، قلت: إن المعاهد التعليمية عقيمة أن تلد مثله، فليطل عمره ليحظى العلم بصنيعه الجميل ومعروفه المتصل.

قالوا: لا ندري هل إعجابنا بشيخك في منهجه التعليمي أكبر أم تعامله الخلقي الرفيع الفاضل مع طلابه؟

قلت: يشارككم في هذه الحيرة جميع طلابه وأصحابه، فليست أخلاقه السامية الكريمة دون علو منزلته في التعليم والتربية، بارك الله في حياته وأعماله.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين