مختارات من تفسير (من روائع البيان في سور القرآن) (الحلقة 198)

الحكم التشريعي الثامن  والعشرون : التعريض للمتوفى عنها زوجُها بالخِطبة

﴿وَلَا جُنَاحَ عَلَيۡكُمۡ فِيمَا عَرَّضۡتُم بِهِۦ مِنۡ خِطۡبَةِ ٱلنِّسَآءِ أَوۡ أَكۡنَنتُمۡ فِيٓ أَنفُسِكُمۡۚ عَلِمَ ٱللَّهُ أَنَّكُمۡ سَتَذۡكُرُونَهُنَّ وَلَٰكِن لَّا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّآ أَن تَقُولُواْ قَوۡلٗا مَّعۡرُوفٗاۚ وَلَا تَعۡزِمُواْ عُقۡدَةَ ٱلنِّكَاحِ حَتَّىٰ يَبۡلُغَ ٱلۡكِتَٰبُ أَجَلَهُۥۚ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ يَعۡلَمُ مَا فِيٓ أَنفُسِكُمۡ فَٱحۡذَرُوهُۚ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٞ٢٣٥﴾ [البقرة: 235]

 

السؤال الأول:

لم قال ربنا سبحانه وتعالى: ﴿وَلَا تَعۡزِمُواْ عُقۡدَةَ ٱلنِّكَاحِ [البقرة:235] ولم يقل: ولا تعقدوا النكاح؛ حتى يكون اللفظ صريحاً في النهي عن العقد؟

الجواب:

أراد ربنا سبحانه وتعالى أنْ يبين حرمة نكاح المعتدة أثناء عدة المرأة بقوله: ﴿ وَلَا تَعۡزِمُواْ عُقۡدَةَ ٱلنِّكَاحِ حَتَّىٰ يَبۡلُغَ ٱلۡكِتَٰبُ أَجَلَهُۥۚ  وفي هذه الآية نهي عن عقد دون عزم؛ لأنّ العزم يدل على التصميم، وإذا ما نُهي المؤمن عن التصميم والإرادة كان هذا النهي أبلغ من نهي العمل وهو (ولا تعقدوا) .

 والمرء إذا صمم على أمرٍ ما نفّذه، ولذلك كان النهي عن العزم أبلغ في النهي عن المعزوم عليه، ومن هذا الباب قوله تعالى: ﴿ تِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلَا تَقۡرَبُوهَاۗ [البقرة:187] فقد نُهي عن القرب؛ لأنه أبلغ من النهي عن الوقوع في المحظور.

 

السؤال الثاني:

ما دلالة استعمال كلمة ﴿ حَلِيمٞ  بعد ﴿ غَفُورٌ في الآية ؟

الجواب:

آـ لم نعتد كثيراً في القرآن الكريم على لفظ ﴿ غَفُورٌ حَلِيمٞوإنما الوارد على الأكثر في القرآن صيغة ﴿ غَفُورٞ رَّحِيمٌ ، فقد وردت صيغة ﴿ غَفُورٌ حَلِيمٞ في القرآن في 6 مواضع فقط، بينما وردت صيغة ﴿ غَفُورٞ رَّحِيمٌ﴾   64  مرة في القرآن.

أما الآيات التي جاءت فيها صيغة ﴿ غَفُورٌ حَلِيمٞ فهي:

1.     ﴿ لَّا يُؤَاخِذُكُمُ ٱللَّهُ بِٱللَّغۡوِ فِيٓ أَيۡمَٰنِكُمۡ وَلَٰكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتۡ قُلُوبُكُمۡۗ وَٱللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٞ٢٢٥ [البقرة:225].

2. ﴿ وَلَا جُنَاحَ عَلَيۡكُمۡ فِيمَا عَرَّضۡتُم بِهِۦ مِنۡ خِطۡبَةِ ٱلنِّسَآءِ أَوۡ أَكۡنَنتُمۡ فِيٓ أَنفُسِكُمۡۚ عَلِمَ ٱللَّهُ أَنَّكُمۡ سَتَذۡكُرُونَهُنَّ وَلَٰكِن لَّا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّآ أَن تَقُولُواْ قَوۡلٗا مَّعۡرُوفٗاۚ وَلَا تَعۡزِمُواْ عُقۡدَةَ ٱلنِّكَاحِ حَتَّىٰ يَبۡلُغَ ٱلۡكِتَٰبُ أَجَلَهُۥۚ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ يَعۡلَمُ مَا فِيٓ أَنفُسِكُمۡ فَٱحۡذَرُوهُۚ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٞ [البقرة:235].

3. ﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ تَوَلَّوۡاْ مِنكُمۡ يَوۡمَ ٱلۡتَقَى ٱلۡجَمۡعَانِ إِنَّمَا ٱسۡتَزَلَّهُمُ ٱلشَّيۡطَٰنُ بِبَعۡضِ مَا كَسَبُواْۖ وَلَقَدۡ عَفَا ٱللَّهُ عَنۡهُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٞ١٥٥ [آل عمران:155] .

4. ﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَسۡ‍َٔلُواْ عَنۡ أَشۡيَآءَ إِن تُبۡدَ لَكُمۡ تَسُؤۡكُمۡ وَإِن تَسۡ‍َٔلُواْ عَنۡهَا حِينَ يُنَزَّلُ ٱلۡقُرۡءَانُ تُبۡدَ لَكُمۡ عَفَا ٱللَّهُ عَنۡهَاۗ وَٱللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٞ١٠١ [المائدة:101] .

5. ﴿ تُسَبِّحُ لَهُ ٱلسَّمَٰوَٰتُ ٱلسَّبۡعُ وَٱلۡأَرۡضُ وَمَن فِيهِنَّۚ وَإِن مِّن شَيۡءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمۡدِهِۦ وَلَٰكِن لَّا تَفۡقَهُونَ تَسۡبِيحَهُمۡۚ إِنَّهُۥ كَانَ حَلِيمًا غَفُورٗا٤٤ [الإسراء:44] .

6. ﴿۞إِنَّ ٱللَّهَ يُمۡسِكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ أَن تَزُولَاۚ وَلَئِن زَالَتَآ إِنۡ أَمۡسَكَهُمَا مِنۡ أَحَدٖ مِّنۢ بَعۡدِهِۦٓۚ إِنَّهُۥ كَانَ حَلِيمًا غَفُورٗا ٤١ [فاطر:41] .

ب ـ الحليم: الحِلمُ لغوياً: الأناة والتعقل، والحليم هو الذى لا يسارع بالعقوبة، بل يتجاوز الزلات ويعفو عن السيئات، و(الحليم) من أسماء الله الحسنى بمعنى: يؤخر العقوبة عن بعض المستحقين ثم يعذبهم، وقد يتجاوز عنهم، وقد يعجل العقوبة لبعضٍ منهم .

قال تعالى: ﴿ وَلَوۡ يُؤَاخِذُ ٱللَّهُ ٱلنَّاسَ بِمَا كَسَبُواْ مَا تَرَكَ عَلَىٰ ظَهۡرِهَا مِن دَآبَّةٖ [فاطر:45] . وقال تعالى عن سيدنا إبراهيم: ﴿ إِنَّ إِبۡرَٰهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّٰهٞ مُّنِيبٞ٧٥ [هود:75]، وعن إسماعيل ﴿ فَبَشَّرۡنَٰهُ بِغُلَٰمٍ حَلِيمٖ١٠١) [الصافات:101] .

وروى أنّ إبراهيم عليه السلام رأى رجلا مشتغلا بمعصية فقال: (اللهم أهلكه) فهلك، ثم رأى ثانياً وثالثاً فدعا فهلكوا، فرأى رابعاً فهمّ بالدعاء عليه، فأوحى الله اليه: (قف يا إبراهيم، فلو أهلكنا كل عبد عصى ما بقى إلا القليل، ولكن إذا عصى أمهلناه، فإن تاب قبلناه، وإنْ أصرّ أخرنا العقاب عنه، لعلمنا أنه لا يخرج عن ملكنا) .

ج ـ وإذا أخذنا الآية 235 من سورة البقرة ورجعنا إلى سياق الآيات نجد أنّ الله تعالى يُحذّر من بعض التجاوزات التي تحصل في الحياة الزوجية، وقد ينتهي الأمر إلى الطلاق، وقد يكون هناك أولاد. ولو عجّل الله تعالى العقوبة لأصحاب الذنوب ما بقي من الناس أحد، ﴿ وَلَوۡ يُؤَاخِذُ ٱللَّهُ ٱلنَّاسَ بِمَا كَسَبُواْ مَا تَرَكَ عَلَىٰ ظَهۡرِهَا مِن دَآبَّةٖ وَلَٰكِن يُؤَخِّرُهُمۡ إِلَىٰٓ أَجَلٖ مُّسَمّٗىۖ فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمۡ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِۦ بَصِيرَۢا٤٥ [فاطر:45] فالله تعالى يؤخّر العقوبة من باب الحِلم، وهو صفة من صفاته سبحانه وتعالى، ومن أسمائه تعالى الحليم لأنه يُعطي الفرصة لإصلاح الأوضاع، وقد يكون قد حصل بعض التقصير أو بعض الذنوب بين الناس فتسوء أخلاقهم وتضعف ضمائرهم، والله تعالى سبحانه يعطي الناس فرصة للعودة عما حصل منهم.

د ـ والمقصود من قوله تعالى في هذه الآية: ﴿ غَفُورٌ حَلِيمٞ أنه لا يغرَّنّك أيها الزوج حِلمُ الله تعالى عليك فتتمادى في البطش بزوجتك وبما يحلم الله تعالى عليك، فإنه لا ينسى عملك: ﴿ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٞ٢٣٥ فكلمة ﴿ حَلِيمٞ هنا جاءت كتهديد بالعذاب، ولا يؤخذ من كلمة ﴿ حَلِيمٞ هنا التبشير بالرحمة؛ لأنها لو كانت كذلك لجاءت بصيغة (غفور رحيم).

هـ ـ ونلاحظ أنّ المولى تعالى في الآية 235 من سورة البقرة والتي ختمت بقوله تعالى ﴿ غَفُورٌ حَلِيمٞ يأتي فيها بالأفعال المضارعة، وهذا ليدل على أنّ هذه الأمور متجددة الحصول، ونحن نقع فيها والبعض عليها الآن ﴿ سَتَذۡكُرُونَهُنَّ ﴿ تُوَاعِدُوهُنَّ ﴿ تَقُولُواْ ﴾﴿ تَعۡزِمُواْ  ﴿ يَبۡلُغَ ﴿ يَعۡلَمُ

﴿ فَٱحۡذَرُوهُۚ .

ولو تأملنا في كل الآيات التي خُتمت بقوله تعالى ﴿ غَفُورٌ حَلِيمٞنجد أن السياق فيها كان تحذيراً للذي لا يرتدع عن تجاوز حدود الله تعالى، ولا يخاف بطشه سبحانه وتعالى.

 

السؤال الثالث:

ما أهم الدروس في الآية ؟

الجواب:

الله سبحانه وتعالى يريد أنْ يجعل للعواطف تنفيساً، والتنفيس ليس مجرد تعبير عن العاطفة ولكنه رعاية للمصلحة، وكأنّ الحق يقول لنا: (أنا أمنعكم أنْ تخطبوا النساء في العدة أو تقولوا كلاماً صريحاً ولكن لا مانع من التلميح من بعيد) .

يقول الحق: ﴿ عَلِمَ ٱللَّهُ أَنَّكُمۡ سَتَذۡكُرُونَهُنَّ أي: أنّ الله يعلم أنّ تلك المرأة التي مات زوجها عنها أو طلقها فقد أصبحت أملاً بالنسبة لك، فلو أنه ضيق عليك لعوّق عواطفك ولضاعت منك الفرصة لأن تتخذها زوجة، لذلك أباح التعريض: ﴿ وَلَٰكِن لَّا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا فالمواعدة بالسر أمر منهي عنه، أو يقول لها: تزوجيني، لكنّ المسموح به التعريض بأدب كالثناء وغيره، والمرأة تملك شفافية وألمعية تلتقط بها معنى الكلام ومراده.

ولا يصح العزم على الزواج إلا بعد انتهاء العدة، ومعنى العزم: أنْ تفكر في المسألة في نفسك حتى تستقر على رأي أكيد، ثم لك أنْ تقبل على الزواج على أنه أمر له ديمومة وبقاء لا شهوة طارئة.

لذلك الزواج القائم على غير روية والمعلق على أسباب مؤقتة كقضاء الشهوة لا يستمر ولا ينجح.

والذين يبيحون زواج المتعة مصابون في تفكيرهم؛ لأنهم يتناسون عنصر الديمومة في الزواج، والنكاح الأصيل لا يُقيَّد بمدة، والأصل فيه العمر كله، لذلك فنكاح المتعة ليست مسألة زواج وإنما المسألة هي تبرير زنى .

 4 ـ لذلك فعقدة النكاح تمر بثلاث مراحل تعطي للطرفين فرصتهما للتفكير العميق:

 آ ـ التعريض أو التلميح.

 ب ـ العزم الذي لا يصح إلا بعد انتهاء فترة العدة.

 ج ـ العقد.

والله أعلم .

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين