من ثمرات الإسراء والمعراج الأقصى أمانة في أعناق الأمة

الشيخ أحمد النعسان


بسم الله الرحمن الرحيم


مقدِّمة الخطبة:
الحمد لله رب العالمين, وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد, وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد فيا عباد الله:
لقد ذكرت لكم في الأسبوع الماضي بأن حضرة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم قد أكرمه الله تعالى بالإسراء والمعراج روحاً وجسداً, وكان هذا بعد أن تحقَّق بأعلى مراتب العبودية لله عز وجل وأسماها, وبعد أن تحقَّق بالأخلاق الفاضلة حتى نال أسمى وأعلى درجات الأخلاق التي شهد الله عز وجل له بها بقوله تعالى: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُون * مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُون * وَإِنَّ لَكَ لأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُون * وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيم}.
وقلت: بأن الذي يريد أن يسري ويعرج روحاً في ظل إسراء ومعراج سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فعليه أن يتحقَّق بالعبودية لله عز وجل في سائر أحواله, وأن يتحقَّق بصفاء قلبه وروحه وسره, كما كان الحبيب صلى الله عليه وسلم الذي شهد له بذلك الأعداء قبل الأولياء والأصفياء, الذي يريد العروج بروحه في صلاته, لأن الصلاة معراج المؤمن, فعليه بالاقتداء بسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
تصديق حدث الإسراء والمعراج يحتاج إلى إيمان:
أيها الإخوة المؤمنون: الإسراء والمعراج له فوائد جليلة وثمرات يانعة, والإيمان والتصديق بها يحتاج إلى إيمان بالذي أسرى بحبيبه صلى الله عليه وسلم, وكلما عظم الإيمان عظم التصديق بما أخبر به الحبيب صلى الله عليه وسلم, وحدث الإسراء والمعراج أظهر إيمان الصديق رضي الله عنه أنه أقوى إيمان الصحابة رضي الله عنهم, وذلك عندما أخبره المشركون عن إسراء ومعراج سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لئن كان قال ذلك لقد صدق, قالوا: أو تصدقه أنه ذهب الليلة إلى بيت المقدس وجاء قبل أن يصبح؟ قال: نعم ، إني لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك, أصدِّقه بخبر السماء في غدوة أو روحة ، فلذلك سمي أبو بكر الصديق رضي الله عنه. رواه عبد الرزاق والحاكم.
إقامة الحجة على منكري الإسراء:
أيها الإخوة الكرام: إن الصدع بالحق أمام أهل العناد يحتاج إلى حكمة بالغة, ولذلك كانت من حكمة النبي صلى الله عليه وسلم أن يحدِّثهم عن الإسراء أولاً, دون المعراج, لأنهم إن صدَّقوها صدَّقوا ما بعدها, وإن كذَّبوها فتكذيب المعراج من باب أولى.
عند ذلك قال له القوم: صف لنا بيت المقدس، كيف بناؤه وكيف هيئته؟ وكيف قربه من الجبل ؟ وفي القوم من سافر إليه. فذهب ينعت لهم بناءه كذا وهيئته كذا، وقربه من الجبل كذا، فما زال ينعته لهم حتى التبس عليه النعت, فكرب كرباً ما كرب مثله، فجيء بالمسجد وهو ينظر إليه حتى وضع دون دار عقيل أو عقال، فقالوا: كم للمسجد من باب؟ ولم يكن عدها، فجعل ينظر إليه ويعدها باباً باباً، ويعلمهم، وأبو بكر يقول: صدقت صدقت، أشهد أنك رسول الله.
فقال القوم: أما النعت فوالله لقد أصاب. ولذا قال بعضهم:
يا واصف الأقصى أتيت بوصفه *** فكأنك الرسام والبنَّاء
ثم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: أخبرنا عن عيرنا.
فقال: أتيت على عير بني فلان بالروحاء قد أضلوا ناقة لهم فانطلقوا في طلبها, فانتهيت إلى رحالهم ليس بها منهم أحد, وإذا قدح ماء فشربت منه.
ثم انتهيت إلى عير بني فلان فنفرت مني الإبل, وبرك منها جمل أحمر عليه جوالق مخطط ببياض لا أدري أكسر البعير أم لا؟
ثم انتهيت إلى عير بني فلان في التنعيم يقدمها جمل أورق وها هي ذه تطلع عليكم من الثنية.
قالوا: فمتى تجيء ؟ قال: يوم الأربعاء.
فلما كان ذلك اليوم، انصرفت قريش ينظرون وقد ولى النهار، ولم تجئ, فدعا النبي صلى الله عليه وسلم، فزيد له في النهار ساعة، وحُبست عليه الشمس، حتى دخلت العير، فاستقبلوا الليل.
فقالوا: هل ضل لكم بعير؟ قالوا: نعم.
فسألوا العير الأخر فقالوا: هل انكسر لكم ناقة حمراء؟ قالوا: نعم.
قالوا: فهل كان عندكم قصعة من ماء؟ فقال رجل: أنا والله وضعتها فما شربها أحد، متأولاً أهريقت في الأرض.
تأكد المشركون من ذلك فوجدوه صحيحاً, وكانت هذه الأدلة مفحمة لهم لا يستطيعون ردَّها.
من ثمرات الإسراء والمعراج:
أيها الإخوة الكرام: إن من ثمرات الإسراء والمعراج أن تعلم الأمة علم اليقين وجوب الربط بين المسجد الأقصى والمسجد الحرام, وأن تعلم الأمة أن المسجد الأقصى هو مسرى نبيها سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم عليه وسلم, ومعراجه إلى السماوات العلى, وأنه كان قبلة المسلمين الأولى خلال الفترة المكية.
من ثمرات الإسراء والمعراج وجوب تحمل مسؤولية المسجد الأقصى, ومسؤولية تحريره من رجس المشركين, ولذلك أدرك الصحابة رضوان الله عليهم ما للمسجد الأقصى من أهمية وهو يقع أسيراً تحت حكم الرومان, فقام سيدنا عمر رضي الله عنه بتحريره ودام محرَّراً ينعم بالأمن والأمان خمسة قرون من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم.
التسلُّط على الأمة بسبب ضعف التزامها:
أيها الإخوة الكرام: كلما التزمت الأمة كتاب ربِّها عز وجل وسنة نبيها صلى الله عليه وسلم مكَّنها الله تعالى في الأرض وأعزَّها, وكلَّما ابتعدت عن منهج ربها سلَّط الله تعالى عليها عدوَّها, وهذا ما يؤكده الواقع.
سيدنا عمر رضي الله عنه سلَّم الأمة المسجد الأقصى محرَّراً, وعندما بقيت الأمة ملتزمة كان عزُّها قائماً, ولكن عندما ابتعدت عن نهج ربها تمكَّن منها عدوُّها وعادوا إلى الأقصى ثانية, ومكثوا فيه قرابة قرن يعيثون فيه فساداً.
عادت الأمة إلى رشدها وصوابها, وعادت إلى الالتزام بكتاب ربها, وجاء سيدنا صلاح الدين رضي الله عنه فكان به صلاح دين الأمة, فحرَّره رضي الله عنه من رجس الصليبيين.
وعادت النكسة للأمة في دينها, فعاد اليهود واحتلوا القدس الشريف, ولن تتخلص الأمة من رجس هؤلاء إلا بالعودة إلى كتاب الله وسنة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الأقصى أمانة في عنق الأمة:
أيها الإخوة الكرام: إن المسجد الأقصى أمانة في عنق الأمة بقضِّها وقضيضها, أمانة في عنق الأمة من القاعدة إلى القمة, كلٌّ على قدر مسؤوليته وتحمُّله, الأمة ـ حكاماً ومحكومين ـ مسؤولة عن المسجد الأقصى ما دامت أنها آمنت بمن أسرى بالحبيب صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى.
ويجب أن يعلم الجميع ـ وخاصة حكام العرب والمسلمين ـ أن تهديد المسجد الأقصى يعني تهديداً للمسجد الحرام ومسجد سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأن النيل من المسجد الأقصى هو نيل من المسجد الحرام, فالمسجد الأقصى هو بوابة الطريق إلى المسجد الحرام.
هذه رئيسة مجلس وزراء اليهود جولدا ماثير تقول بعد احتلال القدس: إني أشم رائحة أجدادي في المدينة والحجاز, وهي بلادنا سوف نسترجعها. ألا لعنة الله عليها وعلى أجدادها.
أيها الإخوة: لنكن على بصيرة من أمرنا, وخاصة عندما نقرأ سورة الإسراء, يجب أن تلفت سورة الإسراء نظرنا إلى آياتها, سورة الإسراء بكاملها ما تحدثت عن الإسراء إلا بآية واحدة, ثم جاء من بعدها الحديث عن اليهود وفسادهم وإفسادهم, ارجعوا إلى سورة الإسراء, وتدبَّروا ذلك, قال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِير * وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُواْ مِن دُونِي وَكِيلا * ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا * وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا * فَإِذَا جَاء وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولا * ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا * إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاء وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيرًا}.
ماذا يجب علينا؟
أيها الإخوة: قد يقول أحدنا وأنا واحد منكم: ماذا نفعل نحو القدس, والأمر ليس بيدنا, إنما هو بيد أولياء الأمر؟
هذا حقٌّ أيها الإخوة من جانب, ومن جانب آخر ليس حقاً, لأن الواجب نحو الأقصى يتحمَّله الكل من أدناهم إلى أعلاهم, وكلُّ واحد يتحمَّل بمقدار ما حمَّله الله إياه, وأعظم من يتحمَّل هذا هم أولياء الأمر.
ولكن أيها الإخوة يجب علينا أن نعلم بأن شعورنا إن كان صادقاً نحو الأقصى مسرى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعراجُه, فإن هذا الشعور يدفعنا للالتزام بكتاب الله تعالى وسنة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم, وخاصة فيما يتعلَّق بنسائنا.
لأن النساء اليوم أصبحن معول هدم لا معول بناء في جسم الأمة الإسلامية, لأن العدوَّ تمكن من إفساد النساء, وخاصة فيما يتعلق بالسفور والتبرُّج والاختلاط.
أيها الإخوة: أناشدكم الله تعالى أن يهتمَّ كلُّ واحد منا في محارمه, من زوجة وبنت وأم وأخت, أن يقنعهنَّ في الابتعاد عن السفور والتبرج والاختلاط.
السفور والتبرج والاختلاط هو سبب فساد الشباب, وإذا فسد الشباب ـ وهم مستقبل الأمة ـ فلا خير يرجى, لأن الشباب إذا اتَّبعوا الأهواء والشهوات ضيَّعوا الأرض والعرض والعياذ بالله تعالى.
الذي يجب علينا ونحن نعيش ظلال الإسراء والمعراج هو العودة إلى كتاب الله وسنة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم, فنحلُّ حلاله ونحرِّم حرامه, ونقف عند حدوده.
خاتمة نسأل الله تعالى حسنها:
أيها الإخوة الكرام: الأقصى يناشدنا العودة إلى كتاب الله وسنة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيرته العطرة, لأن وعد الله تعالى لا يُخلف, قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُون}.
اللهم ردَّنا إليك رداً جميلاً, ومع ثمرات الإسراء والمعراج في الأسبوع القادم إن شاء الله تعالى. أقول هذا القول, وكلٌّ ما يستغفر الله, فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين