من أعلام الأزهر: الشيخ عبدالفتاح أبو غدة (1)

فضيلة الشيخ عبد الفتاح أبو غدة، زميل كريم التقيت به - حين زار الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.

ومجلة الأزهر، وقد تلقت سيلاً طبياً من أحاديث تكريمه لتشارك العالم الإسلامي مشاعره نحو هذا العالم الجليل الذي أصاب العالم الإسلامي بقبضه ما يصيب العلم بقبض العلماء، ولقد تسنى لنا - وكم نأسف لضيق المساحة بالمجلة - أن نشر الكلمات التالية عنه رحمه الله رحمة واسعة.

مازلتُ أذكر ما دار في ندوة لواء الإسلام المنعقدة لتأبين الإمام الأكبر محمد الخضر حسين، حيث قال أحدُ المتحدثين: إن الخضر بقية السلف الصالح، فاعترضَ الأستاذ محمد أبو زهرة قائلاً: إن معنى ذلك أن السلف الصالح قد انتهى بموت الأستاذ الخضر، ومازال في المسلمين من يسير على منواله، فالأولى أن نقول: إنه من بقايا السلف الصالحِ، وهذا حقٌّ فبقايا السلف الصالح لا يزالُونَ يُرسلون الضوء الثاقب في ظلام الحياة، ومن هؤلاء الأستاذ عبد الفتاح أبو غدة، وهناك وجهٌ للشبه بينه و بين الإمام الخضر حسين، هو التمكّن من علوم اللسان والشريعة معاً على نحو متساوٍ.

أولُ ما سمعتُ عن الأستاذ أبي غدة في مُفتتح الأربعينيات حيثُ كان طالباً بكلية الشريعة، وله بزملائِهِ ودٌّ علميُّ يجعلهم يتحدّثون عنه مكبرين، إذ كان ذا صلةٍ طيبة بأساتذته.

لم يُغادر أحداً من ذوي المثاليةِ فيهم، على اختلافِ منازعهم العلمية، من مُجدِّدٍ متوثب، إلى محافظٍ متشدّد، وتلكَ هي ميزةُ الطالب الطُّلَعَة الَّذي يَرد الأنديةَ والمحافل ليأخذَ من كلِّ متحدثٍ ما يروقهُ دُون أن يتعصب لأحد منهم، فمن أساتذته الأعلام الفضلاء، مصطفى صبري. ومحمود شلتوت والكوثري ومحمد المدني، والخضر حسين، وأحمد شاكر، وبين هؤلاء مِن الاختلاف الفقهي ما قد يضطر الناشئ المتسرّع إلى الانحياز إلى فريقٍ دون فريق؛ بل إلى التعصب الحاد على فريقٍ يُخالف مشربَ أستاذٍ أشير له فيكون حرباً على المخالف، ولكن الأستاذ عبد الفتاح رُزِقَ انفساحاً في النظر، واتساعاً في الأفق لم يجدْ معهما داعياً إلى التعصب لأستاذٍ دون أستاذ، وقد أصابَ، لأنَّ الأيام أثبتَتْ أن لكل إمام وجهةً صائبةً.

بزع نجمُ أبي غدّة في الأوساطِ الأزهرية، ثم انتقلَ إلى الأوساطِ الأدبيّة، حين بدأ يُرسل نقداتٍ علميّة موجزةً على صفحاتِ مجلاتِ الأدب، تدُلُّ على بَصَره وسداده.

لقد كان الأستاذ الكبير محمد كرد علي وثيق الصلة بالعلامة أحد تيمور حيثُ كان يؤم منزلَه.. الليالي.. ذوات العدد، قارئاً في مكتبته الحافلة، ولكنَّه كالأستاذ أحمد أمين وقعَ في خطأٍ جوهري يتعلق بسيرة أحمد تيمور فيما كتباهُ عنه، ولم يلتفت إلى تصحيحه غير الأستاذ عبد الفتاح أبو غدة، إذ كتب في مجلة الرسالة (1) تعليقاً مُوجزاً يضع الحقَّ في نصابه، وكان فيما قاله الباحث الشاب الواعد ما يلي: «يذكر الأستاذان أحمد أمين بك ومحمد كرد علي بك في كتاب ذكرى أحمد تيمور الذي ظهر حديثاً في ص ۳۰، وص ۷۷ أن العلامة أحمد تيمور باشا كان في جُملةِ أساتذته الشيخ نصر الهوريني وأنا أعلم أن وفاة الشيخ نصر الهورىني كانت سنة ۱۲۹۱ هـ. كما ذكره العلامة تيمور في كتابه (تصحيح القاموس) ص 4۲، والأستاذ الزركلي في الأعلام، والعلامة تيمور ولد سنه 1288هـ فتكونُ سنة ثلاث سنوات عند وفاة الشيخ الهوريني، ومُمْتَنع أن يكون الباشا تيمور في هذا السن صديقاً للهوريني أو تلميذا له، فذِكرُه في معارف أحمد تيمور خطأ، وجلَّ من لا يخطىء».

نقلتُ هذا التَّعليق الموجز بنصهْ، ليدلّ على منحى الأستاذ العلمي منذ حَمل أمانة القلم في عهده الباكر، فهو أولاً يميلُ إلى الأدب النفسي في تخطئةِ ذوي الرأي، فيَلتقي بإيضاح الخطأ دُون تزيُّد أو تهجم، وهو ثانياً، يذكر رأيه مؤيَّداً بالمصدر التاريخي الذي لا يقبل الدفع، وهو ثالثاً يلتزم بالإيجاز الدقيق في تصحيح الأخطاء، وهذه السِّمات الثلاث قد ظلَّت دىدنَه في كل ما أثر عنه من تصويب ونقاش، على أنَّ أقوى مصدر عرّفتي بالأستاذ بعد أن رأيتُه في مشاهدَ كثيرة مع الأستاذ الكوثري، هو السيد زكي مجاهد صاحب المكتبة العلمية بالصنادقية، وخان جعفر؛ إذ أُتيح لي أن أعرفَ ما بينهما من الود، ولم يَحرمني من الاطلاع على ترجمةٍ موجزةٍ كتبها الأستاذ زكي محمد مجاهد، في كتابه «الأخبارُ التاريخية في السيرة الزكية» عن الشيخ أبي غدة قال فيها (2):

«الشيخ عبد الفتاح أبُو غدة الحلبي الحنفي المذهب، وُلد في مدينة حلب بسوريا، وتربى وتلقى العلوم الشرعية والأدبية على عُلماء حلب، ودمشق، ثم سافر إلى القاهرة، والتحق بالجامعة الأزهرية ونالَ شهادة القسم العالي، وفى أيام إقامته بمصر تعرف على كثيرٍ من علماء العصر، وأخَذَ عنهم العلوم الشرعية ومن شيخُنا المرحوم محمد زاهد الكوثري، إذ حضر كثيراً من دُروسه، ومجالسه، وصار من كبار تلاميذه، ولما عاد إلى وطنه اشتغل بالعلم والتدريس في المدارس ثم في كلية الشريعة بجامعة دمشق، وسافر إلى المملكة العربية السعودية، وعُين أستاذاً في كلية الشريعة بجامعة الرياض (كذا) وقد تعرفت به أثناء طلبه للعلم بالأزهر وبيننا مودة وصداقة علمية وأدبية وهو دائم الزيارة لنا في مكتبتي بخان جعفر، كلّما زار القاهرة، ومن المساعدين في نشر كتابي «الأعلام الشرقية»، ومن مصادره التاريخية، وهو من العلماء المشتغلين بالعلم ونشره، والتأليف فيه، وتحقيق الكُتب العلمية والدينية، وجمع الكتب في جميع العلوم».

يتبع...

(1) مجلة الرسالة ، العدد 658، 11/2/1964م.

(2) الأخبار التاريخية في السيرة الزكية ص117، 118، ط أولى.