من أدب القوة

 

 

على مشارف العام الجديد، وبعد أن قطعنا منه مرحلة يسيرة، أحب أن ألفت الأبصار إلى منطق الحياة في التقدم والتأخر، والنصر والهزيمة، وبلوغ القمم، أو معاناة السفوح...

إن المشقات ضرائب مفروضة على صنوف الأحياء، وكأن الله عزَّ وجل ـ أراد أن يعرف عباده ماذا سيواجهون في هذه الدنيا، فقال مؤكداً: [لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ] {البلد:4}.

وربما استرسل المرء ـ مع الوهلة الأولى ـ فظن الريح تهب رخاء، وشئونها تتسق مع الرغبات... وهيهات!..

وإذا كنت قد أخطأت في فهم طبيعة هذه الحياة، فينبغي أن تبادر إلى تصحيح هذا الخطأ ـ نظرياً ـ قبل أن تكرهك الأحداث المفاجئة على تغييره عملياً.

ليست الحياة شيئاً سهل المنال قليل الأعباء، بل هي شيء صعب الادراك، كثير العقد، جم التكاليف، وإذا لم يوطن المرء نفسه على أن يكون شديد المتن، أيد الظهر... فهيهات أن يشق طريقه إلى غاية قريبة أو بعيدة.

وقد أدرك الكثيرون هذه الحقيقة، وإن اختلفت مواقفهم منها بعد ادراكها، فالمتشائمون العابثون يمدون أبصارهم إلى مباهج الحياة، وهي مولية فانية أو إلى مشكلاته، وهي مقبلة هاجمة ثم يقول قائلهم:

تعب كلها الحياة...فما أعـ=ـجب إلا من راغب في ازدياد!

والمكافحون الدائبون، يرمقون ما في هذه الدنيا من صراع متعاقب الأدوار متصل الحلقات، ويقدرون نصيب كل فرد من عراك هذه المعركة الثائرة ثم يقول قائلهم:

بصرت بالراحة الكبرى فلم أرها=تنال إلا على جسر من التعب

وتكون الخلاصة أن هذه المتاعب هي ـ وحدها سبيل التفاوت والتفاضل ومحك المبادئ والفضائل وهي ـ كذلك ـ الأحجار التي يتعثر فيها الضعاف فيسقطون، وينتهي عندها الأدعياء فيقفون...

لولا المشقة ساد الناس كلهم=الجود يفقر والإقدام قتال

والقرآن الكريم يعرِّف أبناءه صورة هذه الحياة على حقيقتها، ويبصرهم بمتاعبها، ولا يهون من قيمتها، ويذكرهم بأن هذه المتاعب مفروضة ـ بقدر مشترك ـ على الكافرين وعلى المؤمنين، ولابد لكلا الفريقين من أن يتعب ويكافح ويتحمل:

[الَّذِينَ آَمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ] {النساء:76}. فلا ناصر الكفر مراحاً من أعبائه، ولا ناصر الإيمان مراحاً من هذه الأعباء... فمن الحمق الفرار من متاعب الحياة، لأنها ستلاحق من لا يواجهها، وتفرض نفسها عليه طوعاً أو كرهاً.

قال لي صديقي: إن الاختيار الإلهي يصل إلى أن يوضع العنق تحت السكين في انتظار الذبح.

قلت له: اذن ينبغي ألا يزيغ اليقين ولو تحت حد السكين...

قال: وفي ثباته... يكون الفرج العاجل...

إن الله عزَّ وجل يحب أن يخذل الباطل بقوة أنصار الحق وتضحياتهم، وأن ينصر الحق بما يسوقه أهله بين يديه من مغارم الدم والمال، وعلى هذا القانون دارت المعركة بين الحق والباطل، فالجهد البشري المبذول من كلا الفريقين هو الذي يقرر المصير، ويحدد النهاية، ولا يحب القدر أن يتدخل في أدوار المعركة لمصلحة أحد الخصمين، قبل أن يطبق عليهما قانونه العتيد، وقبل أن يستنفذ الكفاح المر من طرفيه المتصارعين أخر ما في طاقتهما من جهد، وآخر ما في جعبتهما من صبر، والمعجزات التي أيدت الأنبياء في دعوتهم ووضعت بذرة البقاء في رسالتهم خضعت ـ هي نفسها ـ لهذا القانون، فالعصمة لا تنافي المحنة، وضمان السماء، لا يمنع ابتلاء الأرض.

وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يواجه أخطار الهجرة وينزل على قوانين الأسباب والمسببات، عندما كان يتوارى نهاراً، ويسير ليلاً، وعندما كان يمحو من خلفه الآثار التي تدل على وجهته، وذلك كله في الوقت الذي أيده الله بجنود لم يروها، وبث في طريقه من الخوارق ما نعرف وما لا نعرف.

ومن غفلة المؤمنين أن يتناسوا هذه الحقيقة، وأن ينتظروا من قوانين الوجود أن تحابيهم في كفاح، أو أن تتملقهم لأنهم أصحاب صلاة وصيام.

فإذا احتدمت المعركة بين الحق والباطل، حتى بلغت ذروتها، وقذف كل فريق بآخر ما لديه ليكسبها، فهناك ساعة حرجة، يبلغ الباطل فيها آخر قوته، ويبلغ الحق فيها أقصى محنته، والثبات في هذه الساعة الشديدة هو نقطة التحول، والامتحان الحاسم لإيمان المؤمنين يبدأ... فإذا ثبت تحول كل شيء عندها لمصلحته، وهنا يبدأ الحق طريقه صاعداً، ويبدأ الكفر طريقه نازلاً، وتقرر ـ باسم الله ـ النهاية المرتقبة.

وانظر كيف كان المهاجران قاب قوسين أو أدنى من الموت في الغار، وكيف كان إسماعيل قاب قوسين أو أدنى من الذبح، وكيف وصل الابتلاء بموسى لما طارده فرعون وجنده:[فَلَمَّا تَرَاءَى الجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ البَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ العَظِيمِ وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآَخَرِينَ وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ] {الشعراء:61-65}.

ألا... فليؤد المسلمون واجبهم... ثم لينظروا نصر الله...

ألا...فليواجهوا الأخطار والمخاوف ثم ليرتقبوا الفوز...

أما قبل ذلك فليس في الدنيا مكان للاهين واللاعبين...

أعجبتني هذه الكلمات في حفز الهمم واحتمال الصعاب: (جدير بالإنسان ـ وقد سخر الله له ما في هذا العالم، ومكن له في الأرض وجعله سيد مخلوقاته، وفطره على أفضل صورة، وأحسن تقويم، ومنحه عقلاً مرشداً، ونفساً تواقة، أن يفسح لنفسه مجال الأمل، ويوسع سبيل العمل، وأن يعلو بهمته إلى حيث يراجع النجوم، ويطاول الغيوم، فإن سمو الهمة أبعد منهما مرتقى، وارفع أفقا...

أجل...حقيق به أن يطلب المجد، وأن يجري مع همته إلى أبعد مدى، وأسمى غاية، وألا تثنيه عقبة تعترضه، أو مشقة تلحقه عن درك أمنيته، ونيل بغيته...

ومن تكن العلياء همة نفسه=فكل الذي يلقاه فيها محبب

إن العظيم لا تزيده المشقات إلا مضاء في سبيله، وإقداماً في طريقه، يتخطاها بعزيمة صادقة، وهمة فائقة، لا يركن إلى الراحة، ولا يأنس بالدعة.

ذلك طريق المجد، ومجال العظمة لمن يشاء أن يكون عظيماً...

قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (لا تصغرن همتك... فإني لم أر أقعد بالرجل من سقوط همته).

جادل جسيمات الأمور ولا تقل=إن المحامد والعلا أرزاق

وارغب بنفسك أن تكون مقصراً=عن غاية فيها الطلاب سباق

ويقول المتنبي:

ولم أر في عيوب الناس عيباً=كنقص القادرين على التمام

فمن أراد أن ينال مراتب الكمال، ويبلغ ما بلغه أولئك العظماء ذوو النفوس العالية من العلماء الأجلاء، والصناع الحاذقين، فليدفع بنفسه إلى مواطن الجد، ومسالك العمل، وليصبر على ما يمسه من عناء، أو يناله من تعب، فما أدرك نعيم إلا ببؤس، ولا نيل عظيم إلا بجسيم، والمكارم موصولة بالمكاره...

فقل لمرجي معالي الأمور=بغير اجتهاد: رجوت المحالا

قال يزيد بن المهلب: (ما يسرني أني كفيت أمر الدنيا...لئلا أتعود العجز).

وقال الأحنف بن قيس: (إياك والكسل والضجر، فإنك إن كسلت لم تؤد حقاً، وإن ضجرت لم تصبر على حق).

لا تضجرن ولا تدخلك معجزة=فالنجح يهلك بين العجز والضجر

وإذاً نحن نظرنا إلى العظماء الذين سجل التاريخ أسماءهم، وابقى ذكرهم مخلداً، وجدنا أنهم قد أضنوا أجسامهم، وأفنوا أعمارهم في طلب المجد، وجابوا الأقطار، ورافق حظهم جدهم، وأضاءت لهم هممهم مناهجهم، فبلغو الغاية وأدركوا المنى.

فمن اقتفى أثرهم، أوشك أن يلحقهم، وكل من سار على الدرك وصل...

أخلق بذي الصبر أن يحظى بحاجته=ومدمن القرع للأبواب أن يلجا.

وأما من خاف المتاعب، وتهيبها، وزينت له نفسه الرضا بما هو فيه، فليس خليقاً بالمجد، ولا جديراً بالشرف... يعيش خامل الذكر ساقط المنزلة.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم

المصدر: مجلة لواء الإسلام العدد السابع من  السنة الثامنة والعشرين، ربيع الأول 1394=أبريل 1974

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين