من أحوال السلف في تدبّر القرآن

يقول الله تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُو الألبَابِ}[سورة ص:29].

تدبّر القرآن هو: عنوان الإيمان، والفيصل بينه وبين النفاق، وهو السرّ الأكبر وراء انتفاع المُؤمنين به وإصلاح حياتهم، وشفاء قلوبهم. {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ} [فُصِّلَت:44]، ويقول الله تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ القُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا}[الإسراء:82].

ومِنَ القُرْآنِ ابتدأ بناء الأمّة، وعليه قامت حضارتها، وحياة السلف في تدبّر القرآن لا تحيط بها مقالة، ولا يحصيها كتاب؛ ولكنّنا نعرض منها لمَحات وشذرات.

عَنْ عَبْدِ اللهِ بن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اقْرَأْ عَلَيَّ سُورَةَ النِّسَاءِ»، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَقْرَأُ عَلَيْكَ، وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ؟ قَالَ: «إِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي»، فَقَرَأْتُ عَلَيْهِ سُورَةَ النِّسَاءِ، فَلَمَّا بَلَغْتُ هَذِهِ الآيَةَ: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلُّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} [النساء: 41]، غَمَزَنِي غَامِزٌ فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا عَيْنَاهُ تَهْمِلَانِ. متفق عليه.

وعَن عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَلَا قَوْلَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي إِبْرَاهِيمَ: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ، فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي..} [إبراهيم: 36]، وَقَالَ: عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ..} [المائدة: 118]، الآيَةَ فَرَفَعَ يَدَيْهِ وَقَالَ: «اللّهُمَّ أُمَّتِي أُمَّتِي»، وَبَكَى قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: «يَا جِبْرِيلُ اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ، وَرَبُّكَ أَعْلَمُ، فَسَلْهُ مَا يُبْكِيكَ؟» فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَسَأَلَهُ، فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا قَالَ، وَهُوَ أَعْلَمُ، فَقَالَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: «يَا جِبْرِيلُ، اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ فَقُلْ إِنَّا سَنُرْضِيكَ فِي أُمَّتِكَ وَلَا نَسُوؤكَ». رواه البيهقيّ في شعب الإيمان.

لقد وقف القُرآن الكريم المُؤمنين عند محاسبة أنفسهم لإصلاحها، وحال بينهم وبين هلكتهم؛ والمُؤمن أسيرٌ في الدنيا يسعى في فكاك رقبته، لا يأمن شيئًا حتّى يلقى الله عزّ وجلّ بصالح عمله، وحسن ظنّه بربّه؛ إنّه يعلم أنّه مأخوذ عليه في سمعه وفي بصره، وفي لسانه، وفي جوارحه؛ مأخوذ عليه في ذلك كلّه.

وقال ابن مسعود رضي الله عنه: من أراد علم الأولين والآخرين فليُثوّر القرآن، ولا يتحقّق ذلك للمُؤمن إلاّ بتدبّر القُرآن، قَالَ علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَا خَيْرَ فِي عِبَادَةٍ لَا فِقْهَ فِيهَا، وَلَا فِي قِرَاءَةٍ لَا تَدَبُّرَ فِيهَا. قال الإمام الغزاليّ رحمه الله: وَإِذَا لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنَ التَّدَبُّرِ إِلَّا بِتَرْدِيدٍ فَلْيُرَدِّدْ.

وقال علي رضي الله عنه: لو شئت لأوقرت سبعين بعيراً من تفسير فاتحة الكتاب، ولن يكون مثل ذلك إلاّ بالتدبّر،ولكلّ مؤمن حظّه من ذلك، على حسب إيمانه وعلمه وصدقه وصفاء سرّه.

وكان مالك بن دينار يقول: ما زرع القرآن في قلوبكم يا أهل القرآن؟ إنّ القرآن ربيع المُؤمن كما أنّ الغيث ربيع الأرض.

وقال قتادة: لم يجالس أحد هذا القرآن إلاّ قام بزيادة أو نقصان، قال تعالى: {هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلاّ خساراً}.

وقال الحسن: والله ما أصبح اليوم عبد يتلو القرآن، يؤمن به إلاّ كثر حزنه، وقلّ فرحه، وكثر بكاؤه، وقلّ ضحكه، وكثر نصبه وشغله، وقلّت راحته وبطالته.

وقال وهيب بن الورد: نظرنا في هذه الأحاديث والمَواعظ فلم نجد شيئاً أرقّ للقلوب، ولا أشدّ استجلاباً للحزن من قراءة القرآن وتفهّمه وتدبّره.

وقال مطرّف بن عبد الله: "إنّي لأستلقي من الليل على فراشي فأتدبّر القرآن، وأعرض عملي على عمل أهل الجنة؛ فإذا أعمالهم شديدة: {كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ}، الذاريات:17. {يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً}، الفرقان: 64. {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً}، الزمر:9. فلا أراني فيهم؛ فأعرض نفسي على هذه الآية: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ}، المدثر:42؛ فأرى القومَ مُكذّبين، وأمرّ بهذه الآية: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً}، التوبة: 102؛ فأرجو أن أكونَ أنا وأنتم يا إخوتاه منهم".

وقد روي عن عامر بن عبد قيس أنّه قال: الوسواس يعتريني في الصلاة، فقيل في أمر الدنيا؟ فقال: لأن تختلف فيّ الأسنّة أحبّ إليّ من ذلك، ولكن يشتغل قلبي بموقفي بين يدي ربّي عزّ وجلّ، وأنّي كيف أنصرف؟ فعدّ ذلك وسواساً، وهو كذلك، فإنّه يشغله عن فهم ما هو فيه، والشيطان لا يقدر على مثله إلاّ بأن يشغله بمهمّ دينيّ، ولكن يمنعه به عن الأفضل، ولمّا ذكر ذلك للحسن قال: إن كنتم صادقين عنه فما اصطنع الله ذلك عندنا.

وعن أبي ذرّ رضي الله عنه قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بنا ليلة، فقام بآية يردّدها، وهي: {إن تعذّبهم فإنّهم عبادُكَ وإن تغفر لهم} الآية، وقام تميم الداريّ رضي الله عنه ليلة بهذه الآية: {أم حسب الذين اجترحوا السيّئات} الآية.

وقام سعيد بن جبير رضي الله عنه ليلة يردّد هذه الآية: {وامتازوا اليوم أيها المُجرمون}، وقال بعضهم: إنّي لأفتتح السورة، فيوقفني بعض ما أشهد فيها عن الفراغ منها، حتّى يطلع الفجر. وكان بعضهم يقول: آية لا أتفهّمها، ولا يكون قلبي فيها لا أعدّ لها ثواباً، وحكي عن أبي سليمان الداراني أنّه قال: إنّي لأتلو الآية فأقيم فيها أربع ليال أو خمس ليال، ولولا أنّي أقطع الفكر فيها ما جاوزتها إلى غيرها.. وعن بعض السلف أنّه بقي في سورة هود ستّة أشهر، يكرّرها، ولا يفرغ من التدبر فيها.

وقال بعض العارفين: لي في كلّ جمعة ختمة، وفي كلّ شهر ختمة، وفي كلّ سنة ختمة، ولي ختمة منذ ثلاثين سنة ما فرغت منها بعد. وذلك بحسب درجات تدبّره. وكان هذا أيضاً يقول: أقمت نفسي مقام الأجراء؛ فأنا أعمل مياومة، ومجامعة، ومشاهرة، ومسانهة.

وكان بعض السلف إذا قرأ آية لَمْ يَكُنْ قَلْبُهُ فِيهَا أَعَادَهَا ثَانِيَةً.

وختاماً: انظروا إلى هذه الصورة المُثلى، التي يعرضها حجّة الإسلام الإمام الغزاليّ، عمّا ينبغي أن يكون عليه تالي القرآن، يقول رحمه الله: «الترقّي، وأعني به أن يترقّى إلى أن يسمع الكلام من الله عزّ وجلّ، لا من نفسه، فدرجات القراءة ثلاث:

أدناها: أن يقدّر العبد كأنّه يقرؤه على الله عزّ وجلّ واقفاً بين يديه، وهو ناظر إليه ومستمع منه، فيكون حاله عند هذا التقدير: السؤال، والتملّق، والتضرع، والابتهال.

الثانية: أن يشهد بقلبه كأنّ الله عزّ وجلّ يراه ويخاطبه بألطافه، ويناجيه بإنعامه وإحسانه، فمقامه الحياء والتعظيم، والإصغاء، والفهم.

الثالثة: أن يرى في الكلام المُتكلّم، وفي الكلمات الصفات، فلا ينظر إلى نفسه، ولا إلى قراءته، ولا إلى تعلّق الإنعام به، من حيث إنّه مُنعَم عليه، بل يكون مَقصورَ الهمّ على المُتكلّم، مَوقوفَ الفكر عليه، كأنّه مُستغرَق بمشاهدة المُتكلّم عن غيره.

وهذه درجة المُقرّبين، وما قبله درجة أصحاب اليمين، وما خرج عن هذا فهو درجات الغافلين.

وعن الدرجة العليا أخبر جعفر بن محمد الصادق رضي الله عنه قال: والله لقد تجلّى الله عزّ وجلّ لخلقه في كلامه، ولكنّهم لا يبصرون.

وقال أيضاً، وقد سألوه عن حالة لحقته في الصلاة، حتّى خرّ مغشيّاً عليه، فلمّا سُرّي عنه قيل له في ذلك، فقال: ما زلت أردّد الآية على قلبي حتّى سمعتها من المُتكلّم بها، فلم يثبت جسمي لمُعاينة قدرته، ففي مثل هذه الدرجة تعظم الحلاوة، ولذّة المُناجاة.

ولذلك قال بعض الحكماء: كنت أقرأ القرآن فلا أجد له حلاوة، حتّى تلوته كأنّي أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، يتلوه على أصحابه، ثمّ رفعت إلى مقام فوقه، كنت أتلوه كأنّي أسمعه من جبريل عليه السلام، يُلقيه عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثمّ جاءه الله بمنزلة أخرى، فأنا الآن أسمعه من المُتكلّم به، فعندها وجدت له لذّة ونعيماً، لا أصبر عنه.

وقال عثمان وحذيفة رضي الله عنهما: لو طهّرت القلوب لم تشبع من قراءة القرآن، وإنّما قالوا ذلك لأنّها بالطهارة تترقّى إلى مشاهدة المُتكلّم في الكلام، ولذلك قال ثابت البناني: كابدت القرآن عشرين سنة، وتنعّمت به عشرين سنة.

وبمشاهدة المُتكلّم دون ما سواه يكون العبد ممتثلاً لقوله عزّ وجلّ: {فَفِرُّوا إِلَى اللهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ * وَلاَ تَجْعَلُوا مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِين} [الذاريات:50ــ51]، فمن لم يره في كلّ شيء فقد رأى غيره، وكلُّ ما التفت إليه العبد سوى الله تعالى تضمّن التفاته شيئاً من الشرك الخفيّ، بل التوحيد الخالص أن لا يرى في كلّ شيء إلاّ الله عزّ وجلّ». اللهم حقّقنا بذلك برحمتك يا أرحم الراحمين.

المصدر : موقع مجلة إشراقات

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين