ملامح سور القرآن: سورة النحل

 

ختمت سورة الحجر بقوله: (واعبد ربك حتى يأتيك اليقين)، وافتتحت سورة النحل بقوله: (أتى أمر الله)، وأمر الله هو الساعة، المذكورة قريبًا في قوله: (وإن الساعة لآتية)، وفي سورة النحل من بعد: (وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب)، وساعة كل إنسان مماته. أو يأتي أمر الله قبل الساعة بعقوبة الظالمين: (هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي أمر ربك)، كما أتى بنيان قوم من القواعد، وأذاق القرية التي كفرت لباس الجوع والخوف، فعذابه غير مأمون، ولا يأمنه إلا الكافرون، ولو يؤاخِذ بالظلم ما ترك على الأرض من دابَّة.

فسُوق الدنيا المنشور اليوم سيُطوى بالساعة، وهو مشحون بالنعم المشكورة والمكفورة، فسورة النحل هي سورة النِّعم، عدَّدت منها أصولها وأمهاتها (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها)، (وما بكم من نعمة فمن الله)، ومنها: تثبيت المؤمنين بالقول الثابت: (وقيل للذين اتقوا: ما أنزل ربكم؟ قالوا خيرًا)، ومنها: بعثة الرسل: (ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت)، ومنها: مكافأة المظلومين بحسنة الدنيا قبل الآخرة: (والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة)، ومنها: نعمة القرآن والبيان النبوي: (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم)، ومنها: نعمة اللسان العربي: (وهذا لسان عربي مبين)، ومنها: نعمة الأزواج والولد، ومن الولد البنات، وهم يكفرونها بالوأد والتكرُّه، ومنها: نعمة الإسلام، يكفرها من يرتد عنه، ويستحب الكفر على الإيمان، إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان.

وقد خصَّت السورة نعمة القرآن بآيات ابتدأت بالأمر بالاستعاذة من الشيطان الرجيم عند قراءته، فذلك أحرى أن يُنتفع به، فإنه يصد عنه ويلقي الشبهات، حتى يجعل قومًا يكفرون هذه النعمة، فيتَّبعون ما تشابَه منه، فيزيدهم خسارًا، ويكون عليهم عمىً، حتى يبلغوا أن يصفوه بالافتراء وبأنه تعليم بشر، ولذلك جاءت آيات الردة هنا بعد الحديث عن شبهاتهم في القرآن.

وشكر هذه النعم في (العدل والإحسان وإيتاء ذي القربى)، وكفرانها في (الفحشاء والمنكر والبغي)، ومن الشكر: الأكل من الحلال الطيب وألا تتعدوه إلى ما حرم، وألا يفتروا الكذب بالتَّحليل والتحريم من عند أنفسهم.

وهو لم يجعل عليكم حرجًا كما عاقب الذين هادوا فحرم عليهم بظلمهم أشياء مقصوصة في سور أخرى، ومن ذلك ما فرض عليهم في السبت فاحتالوا لمخالفة أمر الله، ولكن حرم عليكم ما فيه ضرر لكم في دينكم أو دنياكم.

فملَّتكم ملة إبراهيم، وهي الإسلام، وإبراهيم -عليه السلام- كان أمَّة جامعًا لخصال الخير، وإمامًا في اتِّباع الحنيفيَّة السمحة، وهو مثال الإنسان الشاكر، كما مر ذكره في ختام سورة إبراهيم سورة الشكر، وهو يذكر في ختام سورة النحل سورة النعم.

وختمت السورة بوصايا جامعة لمنهج العمل في شأن المخالفين المتنكبين عن سبيل هذه الملة، وذلك الدعوة لمن لا معارضة عنده، والجدل لأهل الكتاب وأصحاب الشبهات، والمعاقبة لأهل العدوان، والصبر حين لا يكون لكم قدرة، ونفي الحزن والضيق من مكرهم، والحرص على معيَّة الله بالتقوى والإحسان.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين