ملامح سور القرآن: سورة الكهف

تستعمل العرب لفظ الكهف مجازًا في الملجأ، فيقال: فلان كهف، وقال الشاعر:

وكنتَ لهم كهفًا حصينًا وجُنَّة يئول إليها كهلها ووليدها

ففي هذه السورة قصة أصحاب الكهف، وهي في نفسها كهف، أي: ملجأ، وجاء في الحديث أن أوائلها يعصم من فتنة الدجال، أو يُقرأ على الدجال، وجاء في الصحيحين أن رجلا قرأها فظللته سحابة.

فمحور هذه السورة تصرف الأقدار والعصمة من الفتن، لا جرم جاء الترغيب في قراءتها كل جمعة. وهي كما ترى في وسط القرآن، وقيل: إن نصف حروف القرآن عند الفاء من (وليتلطف)، ويا لها من مناسبة في لطف تدبير الأقدار، وما يُطلب من الإنسان من التلطف في مواجهتها!

مفتتح السورة في ذكر القرآن ووصفه بأنَّه لا عوج له، وقد مرَّ في سورة الإسراء أنه يهدي للتي هي أقوم، فهو قيِّم في نفسه، مُقوِّم لغيره، ولا يمكن أن يكون مقوِّمًا إلا أن يكون قيِّمًا، أي: مستقيمًا لا عوج له. فمهما اختلفت عليك الأحداث والشئون فردها إلى مسطرة القرآن للقياس والتقويم.

في السورة من القصص ما لا يتكرر في القرآن، وقد أشرت إلى ذلك في سورة يوسف، وأن في هذا القسم، وهو مبتدأ عشر سور، قصصًا فريدًا.

القصة الأولى في السورة: قصة أصحاب الكهف، وهم فتية قليلون آمنوا في مجتمع مشرك، لم تفتنهم الكثرة المشركة، ولم يخفهم توعّد قومهم إن هم خالفوهم في دينهم ومعتقدهم، وتعاهدوا على أنهم لن يتبعوا هذه الملة: (ربُّنا رب السموات والأرض لن ندعو من دونه إلهًا)، ولم يكن هذا هوى أو طلبًا للمخالفة، ولكنهم أناس أحرار العقول والنفوس يطلبون الدليل: (هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة لولا يأتون عليهم بسلطان بيِّن)، وهذا هو المنهج، الاستقلالية وطلب الدليل عندما تموج الفتن، ويعلو صوت الباطل.

هؤلاء الفتية كانوا في زمن رقدتهم مطلوبين ملاحقين، ثم صاروا في زمن بعثتهم أولياء صدِّيقين، وفي ذلك إشارة إلى التَّحرُّر من ضغط العصر، فكن على الحق ولو خالفك أهل الأرض، ما داموا على غير هدى ولا لهم سلطان مبين، ولتكن لك نظرة واسعة في الزمن الممتد ماضيًا ومستقبلًا، فالزمن كفيل بتبدل الأحوال، بل انقلابها.

وعدد هؤلاء الفتية ليس هو محط العبرة، فهم على كل حال بين ثلاثة وسبعة، أي أقل من عشرة، وهنا العبرة، أنهم قلة في مواجهة الكثرة، وضعفاء في مواجهة القوة. ولذلك جاء في التعقيب على القصة: (واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه) الآية، ثم قوله: (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)، فافعل المطلوب منك، والحساب على الله، وأكثره مؤجل إلى الآخرة.

القصة الأخيرة في السورة هي قصة ذي القرنين، وهي قصة ملك صالح له قوَّة، وأُعطي أسبابًا، وفتح الأرض شرقًا وغربًا، وحكم أقوامًا مختلطة أمورهم بين فساد وصلاح، وآخرين لا بنيان لهم ولا شجر ولا شيء يستترون به، وآخرين لا يكادون يفقهون قولًا، فقصَّته على عكس قصَّة أهل الكهف، أولئك صالحون في مجتمع يحكمه الفساد، وهذا صالح يحكم أقوامًا ليسوا على قدره في الصلاح أو العقل أو اتخاذ الأسباب، وكذلك تتصرف بالناس الأقدار، وهما نموذجان في العصمة من فتنة الضعف، وفتنة القوة، بانتهاج سبيل الحق في الحالتين.

فالفتنة في القصتين فتنة السلطان، امتلاكًا له أو خلوًّا منه، وفي القصتين الأخريين بينهما الفتنة فيما دون ذلك، وذلك المال والعلم، أعني قصة صاحب الجنتين، وقصة موسى والخضر، ففي الأولى بطِر صاحب الجنتين لمَّا رأى ما أنعم الله به عليه، وافتخر على صاحبه، ونسي أنه لم يكن شيئًا مذكورًا، وأنَّ الله قادر على أن يأخذ جنَّته، ويزيل نعمته، وقد كان، فندم وتحسَّر بعد فوات الأوان. وكذلك زينة الدنيا، تزهر وتتزخرف، ثم تكون هشيمًا تذروه الرياح.

وأما فتنة العلم ففي قصة موسى، فقد عتب الله عليه أن ظن أنه أعلم أهل الأرض، فعلَّمه درس (وفوق كل ذي علم عليم)، ودروس العلم في هذه القصة متداولة لا تخفى، من الرحلة والاتباع والتواضع والجهد والصبر، ولكن انطوى فيها درس آخر، في تصرف الأقدار، فإننا لا نرى منها إلا الظاهر، وربما ساءنا وأنكرناه، ولكن حكمة الله لها غور لا ندركه (والله يعلم وأنتم لا تعلمون).

أكتفي بهذا القدر مع هذه السورة، وفيها وفي غيرها من سور القرآن عطاء لا ينفد.

ولكني لا أغادر بمناسبة أن هذه السورة توسطت القرآن أن أشير إلى قوله تعالى في ختامها: (قل لو كان البحر مدادًا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددًا) والآية التالية لها، فإذا قُضيت كلمات القرآن فعِلْم الله الذي تدل عليه كلماته لا نفاد له، وهو معنى لا يتصوَّره عقل الإنسان، وقد قربته الآية بأن يكون البحر ومعه بحور أخرى مدادًا، ثم لا تنفد الكلمات، وجاء به في سورة السجدة بزيادة أن يكون شجر الأرض أقلامًا، وذلك مَثَل للتقريب ثم التسبيح والحمد والتسليم.

وأيضًا إذا قُضيت كلمات القرآن فإن لها عطاء دائمًا لا ينفد، فهي تنقضي لفظًا وحسًّا، ولكنها لا تنقضي معنى وعطاءً، ولا تموت زمنًا وبقاءً، وفي هذا عَوْد إلى مفتتح السورة الذي فيه ذكر حمد لله بتنزيل القرآن القيم، وهذا وصف للمضمون استقامةً وبشارةً ونذارةً، وفي ختام السورة وصف للمقدار في العدد وفي العطاء وفي البقاء، وكل ذلك يجاوز التصور البشري، ثم ختام الختام بالوصاة بالعمل المقرون بالثبات على التوحيد الذي هو عدَّة لقاء الله في الآخرة، مهما تصرفت الأقدار.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين