مع سعيد بن المسيب رحمه الله تعالى

بقلم أ.د محمد أديب الصالح

 

سيد التابعين في زمانه ومقدّمهم أمانة في نقل السنة عن الصحابة، وفقهاً في دين الله عز وجل وزهداً في الدنيا، وصدعاً بالحق واستعلاءً بالإيمان والعلم على حطام الدنيا، ورهبة السلطان. قال الزهري: جالسته سبع حجج وأنا لا أظن عند أحد علماً غيره، وقال محمد بن إسحق عن مكحول قال: طفت الأرض كلها في طلب العلم، فما لقيت أعلم من سعيد بن المسيب، أما الإمام احمد فيقول: سعيد بن المسيب أفضل التابعين، وقال علي بن المديني: إذا قال سعيد: مضت السنة فحسبك منه، وهو عندي أجل التابعين.
والذي ينبغي التنبيه إليه ما كان عند هؤلاء الرجال من التكامل بين العلم والعمل، فالعلم وسيلة للتقرب إلى الله عز وجل في أنفسهم وذويهم، وفيما وراء ذلك من أبناء الأمة، فترى بجانب العلم الجم، العمل بهذا العلم، والعبادة الخالصة المخلصة، والحرص على أن تكون التصرفات كلها موزونة بميزان الشريعة والمخافة الحقة من رب العالمين، حتى صدق في سعيد وأمثاله، قول الله تباركت أسماؤه: "إنما يخشى الله من عباده العلماء" قال الأوزاعي رحمه الله: كانت لسعيد بن المسيب فضيلة لا نعلمها كانت لأحد من التابعين، لم تفته صلاة في جماعة أربعين سنة. وقال هو عن نفسه: "ما أذن المؤذن ثلاثين سنة إلا وأنا في المسجد" وقيل له وقد اشتكى عينيه: يا أبا محمد لو خرجت إلى العقيق فنظرت إلى الخضرة فوجدت ريح البرية لنفع ذلك بصرك، فقال سعيد: فكيف أصنع بشهود العتمة والصبح" قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: (كان سعيد بن المسيب من أورع الناس فيما يدخل بيته وبطنه، وكان من أزهد الناس في فضول الدنيا، والكلام فيما لا يعني). ومما يؤيد ذلك أنه كان له مال يتجر فيه ويقول: "اللهم إنك تعلم أني لم أمسكه بخلاً ولا حرصاً عليه، ولا محبة للدنيا ونيل شهواتها، وإنما أريد أن أصون به وجهي عن بني مروان حتى ألقى الله فيحكم فيَّ وفيهم، وأصل منه رحمي، وأؤدي منه الحقوق التي فيه، وأعود على الأرملة والفقير والمسكين والجار".
أما وقوفه عند الحق وثباته عليه مهما كانت الظروف، فأمر مشهور وذائع، وقصة إبائه البيعة لبني مروان، وعدم تزويج ابنته لهشام بن عبد الملك، وتعرضه للابتلاء –فيما بعد من أجل ذلك- ثم تزويجها على درهمين لكثير بن أبي وداعة- مما زان تاريخ العلماء العاملين الذين لا يخافون في الله لومة لائم، ويؤدون حق الله والأمة، فيما أوتوا من العلم وأمانة الأسوة.
وحدث عبد الله بن طلحة قال: دعي سعيد بن المسيب إلى نيف وثلاثين ألفاً ليأخذها فقال: لا حاجة لي فيها ولا ببني مروان، حتى ألقى الله فيحكم بيني وبينهم.
أما عن حسن سمته وأدبه في الحديث وتذوقه حلاوة الإيمان، فحدث ولا حرج. جاءه رجل وهو مريض فقال: أقعدوني فأقعدوه، فجلس فحدثه ثم اضطجع، فقال الرجل: وددت أنك لم تتعن، فقال: إني كرهت أن أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا مضطجع.
ومن مواعظه التي تعمل عملها في تكوين شخصية المؤمن قوله رحمه الله: "لا تملؤوا أعينكم من أعوان الظلمة إلا بالإنكار من قلوبكم، لكيلا تحبط أعمالكم الصالحة" وهي نظرة بعيدة الغور تصدر عن إيمان عميق وتجارب اصطلى بنارها، ومعاناةٍ عملية لأخلاق أهل الإيمان التي لم يكن يدع أن يذكر بها رحمه الله ويريد للمسلم أن تكون برقع سلوكه في الحياة. أما وقد أكرمه الله بما أكرمه من العلم والعمل. فلا بدع أن تتفجر ينابيع الحكمة على لسانه. فيبين للناس أن الطاعة سبيل الكرامة والإعزاز، وأن المعصية سبيل المهانة والذل فيقول: "ما أكرمت العباد أنفسها بمثل طاعة الله، ولا أهانت نفسها إلا بمعصية الله تعالى".
وفي جانب من جوانب هذه الساحة يقول: "كفى بالمرء نصرة من الله له أن يرى عدوه يعمل بمعصية الله".
وفي لمسة رقيقة تدل على عظيم مراقبته لمولاه، وتحققه بمقام العبودية الخالصة الذي كثيراً ما يكون العلم نفسه عائقاً عن الوصول إليه، عندما يقع العالم في حمأة الغفلة فيشرع يطوف حول ذاته وعلمه وكفى، قال: "يد الله فوق عباده، فمن رفع نفسه وضعه الله، ومن وضعها رفعه الله، الناس تحت كنفه يعملون أعمالهم، فإذا أراد الله فضيحة عبد أخرجه من تحت كنفه فبدت للناس عورته". وما ربك بظلام للعبيد.
رحم الله عالم المدينة الذي اجتمع له –بفضل الله عز وجل- العلم والعمل، وأداء حق العلم في التعليم والبيان والصدع بالحق، والخشية الصادقة لرب العالمين، ثم اليقظة التي يمدها إيمانه وعقله، فلم يقع –وهو المنصرف إلى العلم والعبادة- في شيء من الخداع والأحابيل، وكان –وهو التقي الورع- لكل صغيرة أو كبيرة بالمرصاد.
                    
(*) هو سعيد بن المسيب أبو محمد القرشي المخزومي عالم المدينة وسيد التابعين في زمانه، ولد لسنتين مضتا من خلافة عمر رضي الله عنه وقيل لأربع مضين منها بالمدينة. رأى عدداً من الصحابة، وروى عن كثير وروى عنه خلق. روى سفيان الثوري عن عثمان بن حكيم سمعت سعيد بن المسيب يقول: ما أذّن المؤذن منذ ثلاثين سنة إلا وأنا في المسجد، أخرج ذلك صاحب الحلية وقال الزهري في السير: إسناده ثابت. توفي رحمه الله سنة أربع وتسعين للهجرة.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين