مُعضلة الثقافة في مجتمعاتنا

 

ليس من المبالغة القول : إنه لا يوجد دين أو فلسفة أو سياسةُ دولة تداني الإسلام فضلاً عن أن تُنافِسَه في اهتمامه بالعلم وحضّه على تحصيله والاستكثار منه.. ولا في تشكيله منظومة ثقافية هادفة ومترابطة تحدّد غايةَ الإنسان وتربطه بالكون من حوله تسخيراً وانسجاماً وتعرُّفاً على قوانينه وحضّاً على العلم به !

ذلك أن هذا الدين يتفرَّد في اعتباره طلبَ العلم عبادةً تقرِّب إلى الله وتعرِّف بعظمته سبحانه وبديع صُنْعه، وأنه الطريق إلى الجنة، ومفتاح قيادة الحضارة... 

وتاريخ الحضارة الإسلامية وسِيَر علماء الإسلام أعظم شاهد على ذلك، ولا يصحّ تفسير السرعة المذهلة لتشكُّل الحضارة الإسلامية وتحقيق منجزات علمية بمدّة قياسية فريدة في التاريخ إلا أنها *بقوة الدفع الهائلة* التي أطمعت المسلمين بالاهتمام بالعلم والابتكار فيه؛ فظهر أمثال العباقرة البَِيْروني وابن النَّفيس والإدريسي والقرافي وابن ماجد ومئاتٍ غيرهم في العلوم الكونية، وأمثال الأئمة المجتهدين الأفذاذ والعلماء المدهشين في سعة علمهم كابن عبد البر والنووي والقاضي عياض والغزالي وابن تيمية وابن خلدون وابن القيم وابن حجر والسيوطي والمرتضى الزبيدي والنورسي والندوي والزرقا في آخرين كثر يعدون بالآلاف في شتى المعارف والعلوم الشرعية.

والأمّة التي لا تعرف تاريخها يستحيل أن تنجح في التعرّف على نقاط قوّتها وأسباب انحدارها وضعفها، ولا أن تنجح في وضع الخطة الاستراتيجية لمسار نهضتها من جديد. لذا جدير بكلٍّ منا معرفة أهمية الإيمان بالله وفهم أحكام ومقاصد خاتمة رسالاته (الإسلام) فهماً عميقاً صادقاً لإدراك مرتبة (*قوة الدفع هذه*) المتقدّمة في مشروع *نهضة الأمّة*، كما أنه جدير أيضاً الاطلاعُ على المجلد الذي خصَّصَه العالِم البلجيكي -المنعوت بأعلم أهل الأرض في تاريخ العلم الكوني - د. جورج سارطون  (ت 1956) - من كتابه الموسوعة *المدخل لتاريخ العلم* عن العلم في الحضارة الإسلامية – وقد كان لشيخنا العلاّمة الأستاذ عبد الرحمن الباني رحمه الله فضل الاهتمام بترجمة هذا المجلد فقط من موسوعته إلى اللغة العربية – لإدراك سرّ قوة المسلمين في التاريخ ومنجزاتهم العلمية الكونيّة، وكذلك الاطلاع على ما كتبه المستشرق اليهودي النمساوي المفكر العميق *ليوبلد فايس* – محمد أسد بعد الإسلام – الذي أسلم وأثرى بكتبه العميقة الفكرَ الإسلامي، وخاصة الفصل الرائع من كتابه *الإسلام على مفترق الطرق* الذي عنونه : الكتاب والسنّة، لاشتماله على تحليل عميق لدور (*السنّة*) في تشكيل ثقافة قوية وعزيزة للمسلمين كونَها: *هَدْي النبوة* .

إنّ مجتمعاتنا اليوم تعاني من مُعضلة الضحالة والسطحية والإمّعيّة - الثالوث المُضِعف للنهضات - ولا زالت الأمّية تتفشَّى في عدد من بلاد المسلمين ينِسَب فظيعة مع أننا قاربنا الانتهاء من العقد الثاني من القرن 21، وبالتأكيد فإن (*السياسات التعليمية*) التي تتّبعها الحكومات و(*طرق التدريس*) السائدة تتحمَّل أكبر المسؤولية !!

وكذلك فإن إعادة الربط بين الإيمان وبين العلم، وثواب الله على طلبه، وأخذ القرار بالخلاص من *الانمياع* في موجات موضة الثقافات الوافدة التي تكرِّس ضياع الشخصية وانمحاق الهوية والانبتات عن الجذور الأصلية وانطماس العزّة الإيمانية: كل ذلك هو المدخل الوحيد لاستعادة هذه الأمّة دورها ومكانتها بين شعوب الأرض.

وها إنّا وإنْ كنّا غفَوْنا/ فإنّا بعد صَحْوتنا نـقولُ :

هو الإسلامُ دينُ الله يبقى/ ويحمِلُ صَرْحَه جيلٌ فجيلُ

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين