معركة صفين

كانت أم حبيبة رضي الله عنها قد أرسلت النعمان بن بشير إلى معاوية رضي الله عنه في الشام، ومعه قميص عثمان الذي قتل فيه، ومعه أصابع نائلة امرأة عثمان، التي أصيبت حين دافعت عنه رضي الله عنها، فوضعها معاوية على المنبر، فجعل الناس يبكون حوله، وآلوا على أنفسهم ألا يناموا على الفرش حتى يقتلوا قتلة عثمان رضي الله عنه (1)، ولما تولى علي الخلافة عزل معاويةَ عن الشام، وأرسل سهل بن حنيف واليًا عليها، وما إن وصل سهلٌ مشارف الشام حتى تلقته خيل معاوية وردته، وامتنع معاوية وأهل الشام عن البيعة؛ حتى يقتص علي رضي الله عنه من قتلة عثمان، ورأوا أن البيعة لا تجب عليهم، وأنهم إن قوتلوا على ذلك كانوا مظلومين، ولقد عزم علي رضي الله عنه بادي الأمر أن يسير إليهم بجيشه؛ إلا أنه غيَّر وجهته إلى البصرة، لما علم بخروج طلحة والزبير إليها.

بعد معركة الجمل دخل علي رضي الله عنه الكوفة، وأُخذت له البيعة من همذان وأذربيجان، وغيرها من المدن، ثم أرسل جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه إلى معاوية بن أبي سفيان في الشام، يطلب منه البيعة، فاستشار معاوية أهل الشام، فأبوا أن يبايعوا حتى يُقتل قتلة عثمان رضي الله عنه ، فاستنفر علي الناس لغزو الشام، فاجتمع له جيش قدِّر بخمسين ألف مقاتل، ثم سار بهم إلى صفين، ولما علم معاوية بخروج جيش العراق لقتالهم؛ استنفر الناس لملاقاتهم؛ فاجتمع له جيش كبير، قُدِّر بستين ألف مقاتل، سار بهم إلى صفين، وهناك دارت المعركة بين الجيشين، بعد أن فشلت محاولات الصلح، استمرت المعركة ثلاثة أيام وثلاث ليال، سقط فيها عدد من القتلى، وكان أشدها آخر ليلة، وهي التي سميت بليلة الهرير، اقتتل فيها الناس بالرماح حتى تكسرت، ثم بالسهام، ثم صاروا إلى المسايفة، حتى صارت سيوفهم كالمناجل، ثم تضاربوا بعمد الحديد، ثم تراموا بالحجارة، وتحاثوا بالتراب، وتعاضوا بالأسنان، وتكادموا بالأفواه، حتى أنهك الجيش التعب، وكلت الأيدي، وجفت الحلوق؛ فتنادى بعدها الناس للصلح.

وكان قد قتل في هذه المعركة عمار بن ياسر رضي الله عنه ، وهو الذي قال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : «تقتلك الفئة الباغية»(2)، وكان عمار رضي الله عنه علَمًا لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتبعونه حيث سار، فلما رأى خزيمة بن ثابت رضي الله عنه قتل عمار، سلَّ سيفه وقاتل أهل الشام، وكان لقتله رضي الله عنه أثر في معسكر معاوية، فقد قال عمرو بن العاص رضي الله عنه لمعاوية: قد قتلنا الرجل، وقد قال فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما قال، فقال له معاوية رضي الله عنه : دحضت في بولك، أو نحن قتلناه؟ إنما قتله عليٌّ وأصحابه، جاؤوا به حتى ألقوه بين رماحنا، وانتشر تأويل معاوية هذا بين أهل الشام انتشار النار في الهشيم، وقد دفع مقتله عمرو بن العاص للسعي بين الفريقين بالصلح، فكانت قضية التحكيم، وانتهت المعركة عن عدد من القتلى، اختلفت الروايات في تقديره(3).

وقد ردَّ العلماء على معاوية رضي الله عنه تأويلَه قول النبي صلى الله عليه وسلم في عمار «تقتلك الفئة الباغية»، ومن ذلك ما قاله الشيخ القرضاوي بأنه "تأويل مرفوض بكل وجه، وإلا كان الرسول هو قاتل من استشهد معه في غزواته، كعمه حمزة، ومصعب بن عمير، وغيرهما"(4).

(1) ينظر: الطبري، تاريخ الطبري، مصدر سابق، 4/562.

(2) مسلم، صحيح مسلم، مصدر سابق، ص: 4/2236.

(3) ينظر: الطبري، تاريخ الطبري، مصدر سابق، 4/561 وما بعدها، وينظر: ابن الأثير، الكامل، مصدر سابق، 2/629 وما بعدها.

(4) القرضاوي، يوسف القرضاوي، كيف نتعامل مع السنة النبوية (القاهرة: دار الشروق، ط 2، 1423/2002) ص: 41.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين