مصطفى صبري المفكر الإسلامي والعالم العالمي وشيخ الإسلام في الدولة العثمانية

التقديم للبحث:

كان العالم الإسلامي في بداية العصر الحديث يعيش - بوجه عام حالةً مزرية من البعدِ عن الإسلام؛ ومن التخلّف والركود والتقصير في الأخذ بأسباب التقدّم والرقيّ الماديّ وفي الأخذ بأسباب القوّة والمنعة.

 

 وقد أسهم في ترسيخ هذا الوضع المؤامرات التي كانت تُحاك ضدّ الإسلام والعالم الإسلامي من قَبَلٍ الأعداء وما أنتجته تلك المؤامرات من القضاء على الدولة العثمانية قضاءً مبرماً وإلغاء الخلافة الإسلامية تماما وإقامة جمهورية علمانية لا دينية على طراز الدول الأوروبية الحديثة مقامها.

 

 وقد أدى ذلك إلى انهيار الكثير من المثقفين والمفكرين المسلمين الذين فقدوا الاعتزاز بدينهم. وتخلّوا عن شرف التمسك بشريعته وأحكامه - تحت تأثير ضربات الغزو الفكري، وضغوط الحضارة الغربية الحديثة الفائضة بالروح الجديدة والطاقات المادية؛ والثورة الصناعية حيث وقفوا موقف المستسلم للحضارة الغربية المقلّد لها المؤمن بكل فلسفاتها المادية ونظمها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والمقتفي أثرَ مناهجها الفكرية الدخيلة.

 

 بل إن بعضهم استمدّ تصوراته للكون والإنسان والحياة من التصوّرات الغربية المحضة وعمل على إخضاع الإسلام للمفاهيم الغربية الوافدة التي تجافيه نصاً وروحاً وحاول تطبيق النظم الغربية برمتها على المجتمعات الإسلامية مع أنَّ تلك النظم نشأت واختمرت في بيئة تختلف كلّ الاختلاف عن بيئتها .

 

 ولكن من سنن الله في الكون أن جعلّ الغلبة للحقّ على الباطل وأنْ جعل الحقّ لا يظهرُ بنفسه بل لابدَّ أن يقوم به ويختضنه رجالٌ يتميّزون بمعرفته والاعتصام به والثبوت عليه وبذل كل ما في الوسع والطاقة للذود عنه فقد قيَّض الله سبحانه وتعالى لهذا الدين من يقوم به ويذود عنه، وقيَّض لهذه الأمة من يدفع عنها كيد الكائدين، وأمدّهم بتوفيقه وعنايته وإرشاده.

 

 حيث قام العديد من حملة العلم والفكر في هذا العصر بالدفاع عن حمى العقيدة والذب عن حياض الدين والتصدي بكل قوة للتيارات الفكرية الغازية والثقافات الدخيلة ورفضوا أن يتنازلوا عن شيء من دينهم مهما كانت النتائج التي سيتحمّلونها من جرّاء مقاومتهم وصمودهم.

 

وأحسب أن الشيخ مصطفى صبري منهم في موضوع هذه الدراسة بالذات ولا أزكي على الله أحداً.

أما الدافع إلى البحث فهو إضافة إلى ما تقدم ما كان لدي من رغبة أكيدة في دراسة الفكر الإسلامي المعاصر - ولو في جانب من جوانبه عن طريق دراسة شخصيةٍ من شخصياته البارزة التي تتستحقّ أن تنال من الباحثين من العناية بها والاهتمام بدراسة حياتها وتراثها مثلما قدّمت للأمة الإسلامية من تضحيات وخدمات جليلة، فأعملتُ الفكر وأجلتُ النظر ألتمسُ مفكراً إسلامياً مُعاصراً لم يسبق أن تناوله أحدٌ بالدراسة، كي أجعله موضوعاً لأطروحتي في الماجستير، فهداني الله عزّ وجل إلى هذا المفكر المسلم الشيخ: مصطفى صبري الذي خلت المكتبة الإسلامية من الدراسات الجادة عنه؛ وقد جعلته مادة لدراستي لأسباب؛ أبرزها:

1- تعدُّد جوانب شخصيته فهو أحد الدعاة إلى العودة إلى كتاب الله وسنة رسوله وإلى نبذ التقليد في العقلية الدينية وهو مفكّرٌ إسلامي بارز له جهودٌ رائدة في مواجهة التيارات الفكرية الغازية، وله العديد من الآثار الفكرية القيّمة باللغتين العربية والتركية، وهو أيضاً سياسيٌ بارع له خبرة طويلةٌ في النواحي السياسية، وهو أيضاً صحفي إسلامي متمرّس له باع طويل ونشاطٌ كبير في المجال الصحفي .

2- أنه من أبرز العلماء المجاهدين؛ والدعاة المخلصين، الذين سخروا أقلامهم وأفكارهم لخدمة الإسلام عقيدة وشريعة دون هوادة متحملاً في ذلك الأذى والهجرة عن الوطن .

3- أنَّه اهتمَّ بالمشكلات والقضايا الرئيسة المثارة في العالم الإسلامي في عصره. وناقشها بفهمٍ عميق. وتناولها بعنايةٍ فائقةٍ، وقدّم لها الحلول الناجعة، ووضع يده على مكامن الداء بفكر ومنطق قويين، استعصيا على كثيرين من معاصريه كُتّاباً ومفكرين.

4- أنَّه أسهم بشكل كبير في تصحيح الوقائع والحقائق التاريخية المتعلِّقة بالدولة العثمانية، ولاسيما في أواخر عهدها ثم سقوطها وما تلى ذلك من أحداثٍ. تلك الوقائع والحقائق التي أصابها الكثير من التشويش والتزوير.

5- عدم العناية بالشيخ من قبل الباحثين، حيث لم تظهر _فيما أعلم_ أي دراسة متكاملة عن شخصيته؛ أو عن أي جانب من جوانب فكره؛ عدا ما قام به الدكتور محمد محمد حسين - رحمه الله في كتابه (الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر)؛ حيث قدَّم تعريفاً موجزا بالشيخ وبكتبه العربية المطبوعة فقط، وعدا الدراسة التي قام بها مؤخراً الدكتور مصطفى حلمي لأحد كتب الشيخ، وهو كتاب: (النكير على منكري النعمة من الدين والخلافة والأمة) حيث عرّف بالكتاب وأهميته في التاريخ الإسلامي المعاصر كما عرّف بالشيخ تعريفاً موجزاً - نقلاً عن الدكتور محمد محمد حسين في كتابه المذكور آنفاً- وببعض مواقفه العلمية وآرائه السياسية .

 

تحميل الملف