يأخذني
العجب حين أجد شخصاً يمسك بحديث في صحيح البخاري مثلاً ويصرخ بأعلى صوته: (لقد
وجدتها.. البخاري لم ينتبه لهذه المشكلة في الحديث.. هو بشر غير معصوم).
ويتكلم
بفوقية كأن البخاري كان رجلاً بسيطاً تفوته هذه الأشياء..
أنظر
فأجد حديثاً معتاداً.. أي قارئ له من المسلمين ينتبه لما انتبه له صاحبنا، وأجد أن
علماء الحديث انتبهوا له من مئات السنين ونقدوه نقداً أشد وأعمق من نقده..
بل
نقده البخاري نفسه ووضع نتيجة نقده في صحيحه وفي نفس المكان الذي كان يقرأ فيه
صاحبنا.
يعلم
دارسوا الحديث النبوي أنه من الطبيعي أن يأتي حديث صحيح يتعارض معناه الظاهر مع
قواعد الشريعة العامة، أو يتعارض مع نص شرعي آخر..
وأنه
من الطبيعي أيضاً أن تجد أئمة النقد من المحدثين يُخضعون الحديث للنقد ويعالجونه
بمنطق العلم.. لا بالآراء العامة والانطباعات والثقافة السائدة..
لأن
الحديث لا تكتمل شروط صحته إلا بانتفاء "الشذوذ"، والشذوذ أن يأتي حديث
بسند صحيح لكنه يعارض ما هو أرجح منه.. فهم بحاجة للتمحيص أنه لا يخالف نصوصاً
شرعية أقوى..
خصص
علماء الحديث حقلاً علمياً مستقلاً لهذا الموضوع سموه: "علم مشكل
الحديث" أو "علم مختلف الحديث"، أي أن هناك مشكلة في معنى الحديث
المتبادر..
وضع
المحدثون قواعد منهجية صارمة لنقد الأحاديث، وألفوا مئات المجلدات الضخمة يتتبعون
الأحاديث المشكلة ويعالجونها..
يشرح
العلامة الدكتور نور الدين عتر -رحمه الله رحمة واسعة- كيف اعتنى "أئمة
الحديث وجهابذة نقده بهذا الفن، فدرسوا ما وقع من الإشكال في الأحاديث
الصحيحة".
أي
أن الموضوع طبيعي ومألوف وشائع جداً في أوساط علماء الحديث.. وكانوا يمارسونه
بمهنية ومنهجية علمية واضحة..
دعونا
نأخذ المثال التقليدي، وهو الحديث المشهور: (أمرت أن
أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويقيموا الصلاة
ويؤتوا الزكاة، فإن فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم، إلا بحق الإسلام،
وحسابهم على الله).
أي
مسلم بسيط يقرأ الحديث يدرك مباشرة أن معناه المتبادر هكذا يتعارض مع قواعد
الشريعة العامة، ويتعارض مع أحكام ثابتة بنصوص القرآن والسنة..
لأن
المعنى الظاهر أنه علينا أن نقاتل كل مخلوق غير مسلم حتى نقتله أو ندخله في
الإسلام عنوة..
لكن
كلنا لدينا أدلة كثيرة جداً أن هذا المعنى يرتطم مع بدهيات الإسلام..
مثلاً
كلنا يعلم أنه يجوز الزواج من اليهودية والمسيحية وأنه ينبغي البر معها، فكيف يجب
علينا قتالها حتى تسلم؟!
وكلنا
يعلم أن أهل الكتاب والمجوس الذين يعيشون بيننا لهم ذمة الله ورسوله يجب الإحسان
لهم والبر في التعامل معهم ويحرم إيذاؤهم، فكيف يجب أن نقاتلهم حتى يسلموا؟
وأن
النبي حين توفي كانت درعه مرهونة عند يهودي يعيش معهم في المدينة المنورة.. كيف
يعيش معه ولا يقتله!! (بالمناسبة البخاري أورد هذا الحديث أيضاً)
وأن
النبي استقبل نصارى نجران في مسجده وصلوا صلاتهم المسيحية عنده وعاهدهم وأحسن
ضيافتهم.. لماذا لم يقتلهم!!
وغير
ذلك كثير جداً..
لذلك
سنجد هذا الحديث في كتب "مشكل الحديث" يضعونه تحت النقد، مثلاً في كتاب
"مشكل الآثار" للطحاوي، و"كشف المشكل من حديث الصحيحين" لابن
الجوزي. إضافة للمدونات العظيمة في شروح الحديث مثل "فتح الباري" لابن
حجر.
حين
نفتح هذه الكتب نجدهم ينقدون هذا الحديث نقداً طويلاً من كل زواياه، نبدأ مع
البخاري الذي أورد هذا الحديث في صحيحه، ماذا فعل؟
لاحظ
تلك الملاحظة، فحص الحديث فوجده استوفى كل معايير الصحة من حيث السند والثبوت عدا
معيار عدم الشذوذ (لأن الحديث يعارض أحاديثاً أقوى منه)، يحتاج البخاري حتى يدخل
الحديث في صحيحه أن يجد حلاً لهذه المشكلة..
حتى
يحل المشكلة يجب أن يبحث في "جميع الدين" ونصوص القرآن والأحاديث
الثابتة.. خلال بحثه وجد أن هناك بنية لغوية مشتركة بين الحديث وبعض الآيات..
في
سورة التوبة جاءت الآيات: ((فَاقْتُلُوا
الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا
لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ۚ فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا
الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ))، ثم بعد آيات قليلة جاءت آية تؤكد مرة
أخرى: ((فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ
وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ)).
ألا
نسمع صدى الحديث بنفس الخطاب اللغوي:
(أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويقيموا
الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإن فعلوا لك عصموا مني دماءهم وأموالهم).
- (أمرت أن أقاتل الناس) تعادل
في المعنى آية: ((فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم))
- (حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله
ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة) تعادل في المعنى آية: ((فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة))
- (عصموا مني دماءهم وأموالهم) تعادل
في المعنى آية: ((فخلوا سبيلهم)) و((فإخوانكم في
الدين)).
شرح
البخاري كل ذلك بطريقته المرهفة، فأشار إليه في ترجمة الباب الذي أورد فيه الحديث،
ترجمة الباب هي عنوان يضعه البخاري قبل أن يورد الحديث، تفتح صحيح البخاري فتجد
هكذا:
بَابٌ:
{فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا
الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ}
حدثنا
عبد الله بن محمد المسندي، قال: حدثنا أبو روح الحرمي بن عمارة، قال: حدثنا شعبة،
عن واقد بن محمد، قال: سمعت أبي يحدث، عن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال: "أمرت أن أقاتل الناس..".
ينبه
البخاري قارئه أنه قد لاحظ تلك المشكلة في ظاهر الحديث، وأنه وجد حلاً لها بأن
يفسرها بنفس الطريقة التي نفسر بها الآية، وأن هذا المعنى الظاهر لا يؤثر على ثبوت
الحديث لأنه قد جاء في القرآن ولم يؤثر على ثبوته.. والمقصود بالحديث والآيات سياق
خاص محدد، ولا تفيد العموم المتبادر لأول وهلة.
وينبهنا
على قضية منهجية أخطر، وهي أننا إذا تساهلنا ورددنا الأحاديث لمجرد أن معناها
المتبادر لأول وهلة يعارض قواعد الشريعة العامة أو يعارض نصوصاً أخرى واضحة، فإننا
سنرد بعد قليل آيات القرآن ونعتبرها غير ثابتة.. بنفس المنهجية..
وهذا
ما وقع فيه كثير من المتعجلين، بدؤوا برد الأحاديث وتساهلوا ولم يدققوا النظر ولم
يوسعوا نطاق الرؤية فوجدوا أنفسهم انزلقوا إلى رد آيات القرآن نفسها..
بعضهم
المعاصرين وضع معيار "روعة الحديث" فإذا كان الحديث رائعاً فهو صحيح،
وإذا لم يكن رائعاً فهو مردود..
ظل خلال السنوات الماضية
يكرر هذا المعيار العجيب، لكن هذا يعني منهجياً أن ترد بعض الآيات لأنها لا تبدو
"رائعة"، فإذا رددت حديثاً معيناً لأنه غير رائع فإنك ملزم أن ترد الآية
المشابهة له لأنها غير رائعة أيضاً.. هكذا وجد نفسه لا يأخذ آيات من القرآن لأنه
يراها لم تعد رائعة في العقل الراهن مثل وجوب الحجاب..
يشرح
العلامة الدكتور نور الدين عتر منهجية الأئمة النقاد في مشكل الحديث، فإما أن
يتمكنوا من تفسير معنى الحديث والجمع بينه وبين القواعد والنصوص الشرعية دون
تكلف.. أو يتعذر الجمع والتوفيق.. حينها إما يتبين أن الحديث منسوخ أو مرجوح لا
يؤخذ به.. ويشرح كيف وضع العلماء قواعد وآليات للترجيح وصلت إلى مائة (100).
التعليقات
يرجى تسجيل الدخول