مشكلة الصوم في بلدان الشمال القَصِيّة

هذه مسألة ما تزال تتكرر الحاجةُ إلى بحثها منذ بضع سنين، وسوف تستمر ضرورةُ بحثها سنينَ أُخَر، فالذين يعيشون في شمال أوربا وكندا يُضطرون إلى الصيام أكثر من عشرين ساعة في أيام الصيف، وربما صاموا اثنتين وعشرين، فيطول عليهم اليوم ويشق الصوم، ولا يبقى لهم للفطر والصلاة إلا ساعتان أو ثلاث بالكاد تكفي فطوراً دون سحور ومغرباً وعشاء مع تروايح خفيفة قصيرة. وهذا عنت لم يُرِده الله بعباده حينما قال في الآية التي فرض عليهم الصيام بها: {يريد الله بكم اليُسرَ ولا يريد بكم العسر}، وهو حرج رفعه الله عن عباده بعموم قوله تبارك وتعالى: {وما جعل عليكم في الدين من حَرَج}.

لأنها مُشكِلة كبيرة تؤثر في حياة ملايين المسلمين وتسبب لهم المعاناة الكبيرة ولا يجوز تركها بلا حل فقد نهض لمعالجتها علماء أجلاء وقُدِّمت لحلها مقترحات وطُرحت آراء، وما زال الناس بانتظار فتوى جامعة تتوافق عليها المجالس والمجامع الفقهية الإسلامية المعتبَرة وتقدم الحل اليسير الذي يحتاج إليه ملايين المسلمين في شمال الأرض المعمورة.

(1)

الاجتهادات السابقة لحل المشكلة

ناقش ابن عابدين في حاشيته صلاة العشاء في البلاد التي يطلع الفجر فيها قبل غياب شفق المغرب، وهل تسقط العشاء بسقوط علامتها أم تجب بتقديرها؟ وهل تصلَّى أداء أم قضاء؟ ثم قال: "بقي الكلام في معنى التقدير، والذي يظهر أنه يجب قضاء العشاء بتقدير أن الوقت (أي سبب الوجوب) قد وُجد كما يقدَّر وجوده في أيام الدجال. ويُحتمَل أنّ المراد بالتقدير هو ما قاله الشافعية من أنه يكون وقت العشاء في حقهم بقدر ما يغيب فيه الشفق في أقرب البلاد إليهم، والمعنى الأول أظهر".

ثم قال: "لم أرَ مَن تعرّض عندنا لحكم صومهم فيما إذا كان يطلع الفجر عندهم كما تغيب الشمس أو بعده بزمان لا يَقدِر فيه الصائم على أكل ما يقيم بنيته، ولا يمكن أن يقال بوجوب موالاة الصوم عليهم لأنه يؤدي إلى الهلاك. فإن قلنا بوجوب الصوم لزم القول بالتقدير، وهل يُقدَّر ليلهم بأقرب البلاد إليهم كما قال الشافعية هنا أيضاً، أم يقدَّر لهم بما يسع الأكل والشرب، أم يجب عليهم القضاء فقط دون الأداء؟ هذا كله محتمَل".

وفي الحاوي للسيوطي (في "تعريف الفئة بأجوبة الأسئلة المئة") أنه سئل عن "مَن عندهم لم تغب شمس النهار سوى قدر الصلاة ويبدو الفجر في الحينِ"، فقال: "جوابه أن البرهان الفزاري أفتى بوجوب صلاة العشاء والحالة هذه. وقال الزركشي في "الخادم": وعلى هذا يُحكم لهم في رمضان بأنهم يأكلون بالليل إلى وقت طلوع الفجر في أقرب البلاد إليهم ثم يمسكون، ويفطرون بالنهار كذلك قبل غروب الشمس إذا غربت عند غيرهم، كما يأكل المسلمون ويصومون في أيام الدجال".

وقال صاحب "المنار": "بيّنَ الرسول صلى الله عليه وسلم أوقات الصلاة بما يناسب حال البلاد المعتدلة التي هي القسم الأعظم من الأرض، حتى إذا ما وصل الإسلام إلى أهل البلاد التي يطول فيها النهار والليل عن المعتاد في البلاد المعتدلة يمكن لهم أن يقدِّروا للصلوات باجتهادهم وبالقياس على ما بيّنه النبي عليه الصلاة والسلام، وكذلك الصيام. وقد ذكر الفقهاء مسألة التقدير بعدما عرفوا بعض البلاد التي يطول ليلها ويقصر نهارها والبلاد التي يطول نهارها ويقصر ليلها، واختلفوا في التقدير على أي البلاد يكون، فقيل: على البلاد المعتدلة التي وقع فيها التشريع، كمكة والمدينة، وقيل: على أقرب بلاد معتدلة إليهم، وكل منهم جائز، فإنه اجتهاديّ لا نَصّ فيه".

وجاء في "الموسوعة الفقهية الكويتية": "من كان يقيم في بلاد لا تغيب الشمس عنها صيفاً ولا تطلع فيها الشمس شتاء فعليهم أن يصلوا الصلوات الخمس في كل أربع وعشرين ساعة، ويقدّرون أوقاتها على أقرب بلد إليهم تتميز فيه أوقات الصلوات المفروضة بعضها عن بعض".

وقد جنح بعض أكابر علماء العصر إلى التيسير وبحثوا عن حلول ومخارج تتوافق مع الأصل الشرعي وترفع الحرج عن الناس، فقال الإمام محمود شلتوت في فتاواه: "لا ريب أن الجري في هذه الجهات على بيان الأوقات التي عُرفت للصلاة والصوم يُؤدي إلى أن يكلَّف المسلم في تلك الجهات صوم رمضان ولا رمضانَ عنده، وفي بعضها يُؤدي إلى صوم ثلاث وعشرين ساعة من أربع وعشرين ساعة. وكل هذا تكليف تأباه الحكمة من أحكم الحاكمين والرحمة من أرحم الرحماء، وإذن يجب استبعاد هذا الفرض".

واقترح العلامة المجتهد الشيخ مصطفى الزرقا اتباع إحدى قاعدتين للبلاد النائية شمالاً وجنوباً: "إما أن تُعتمد لها جميعاً (سواء أكانت مما يتميز فيها ليل ونهار أم لا) أوقاتُ مهد الإسلام الذي جاء فيه ووردت على أساسه الأحاديث النبوية، وهو الحجاز، فيؤخَذ أطول ما يصل إليه ليلُ الحجاز ونهاره شتاء أو صيفاً فيطبق على أهل تلك البلاد النائية في الصوم والإفطار وتوزيع الصلوات. وإما أن نأخذ أقصى ما وصل إليه سلطان الإسلام في العصور اللاحقة شمالاً وجنوباً فنعتبره حداً أعلى لليل والنهار للبلاد النائية التي يتجاوز فيها الليل والنهار ذلك الحد الأعلى، ففي تجاوز النهار يفطرون بعد ذلك، وتوزع الصلوات بفواصل تتناسب مع فواصل ذلك الحد الأعلى. وخلاف ذلك فيه منتهى الحرج الذي صرح القرآن برفعه كما هو واضح".

(2)

منهج البحث

ما سبق ليس استقصاء للفتاوى والآراء التي ناقشت مواقيت الصلاة والصيام في المناطق المرتفعة، فليس غرض هذا البحث المتواضع الإحاطة بكل ما سبقه من أبحاث ودراسات في الباب، وإنما هي عيّنات تُظهر مبلغ اهتمام علمائنا بهذه المشكلة وتوضح منهجهم في حلها، وهي نقطة البداية الطبيعية التي ينبغي أن يبدأ منها أي باحث جديد في المسألة، لأن العلم بناء تراكمي يشيد اللاحقون فيه طبقات جديدة فوق الطبقات التي شادها السابقون، وكم ترك الأوّلون للآخِرين!

انطلقتُ في بحث المشكلة من الفتاوى والأبحاث السابقة واستعنت فيه بثلاث قواعد فقهية؛ اثنتان منها قاعدتان معروفتان معتبَرتان عند الفقهاء والأصوليين وقد أخذتهما الأبحاثُ السابقة بعين الاعتبار، فلا حاجة للتوسع في بيانهما وإنما تكفي الإشارة إليهما بشيء من الاختصار، أما القاعدة الثالثة فسوف أتوسع في عرضها في موضعها من هذا البحث لأنها قاعدة غير شائعة، وهي الإضافة الجوهرية التي ستساعدني على استنباط حل مقترح قياسي لعلاج المشكلة بعون الله.

القاعدة الأولى: مشروعية التقدير. وهو في أصله مشروع إذا انعدمت العلامات، قال في "مغني المحتاج": "العشاء يدخل وقتُها بمغيب الشفق الأحمر، ومَن لا عشاء لهم (بأن يكونوا في نَواحٍ لا يغيب فيها شفقهم) يقدرون قدر ما يغيب فيه الشفق بأقرب البلاد إليهم".

قلت: والأصل في الباب حديث الدجال الذي أخرجه مسلم وغيره عن النواس بن سمعان، فإنه صلى الله عليه وسلم ذكر الدجال، فسأله أصحابه: ما لُبثُه في الأرض؟ قال: أربعون يوماً، يومٌ كسَنَة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة، وسائر أيامه (أي باقيها) كأيامكم". قالوا: فذلك اليوم الذي كسنة، أتكفينا فيه صلاة يوم؟ قال: "لا، اقدروا له قدره".

فثبتت بهذا الحديث مشروعيةُ التقدير في حالة اختفاء العلامات، ثم ألحق بها العلماء الحالةَ التي تختلّ فيها العلامات ولو لم تَختفِ بالكلّية، إلا أنهم اختلفوا في التقدير: كيف يكون؟ وهنا جوهر المشكلة التي تحتاج إلى بحث وتحرير.

القاعدة الثانية: المشقة تجلب التيسير. وهي قاعدة كلية مشهورة يعرفها كل طالب علم، وقد بلغ من شهرتها وعمومها أن قال السيوطي: "هذه القاعدة يرجع إليها غالبُ أبواب الفقه". وهي من أُمّات القواعد الفقهية ومن كلياتها الكبرى التي تتفرع عنها قواعد كثيرة كقولهم "إذا ضاق الأمر اتسع"، وأصلها قوله تبارك وتعالى {وما جعل عليكم في الدين من حَرَج} وقوله {يريد الله بكم اليُسْرَ ولا يريد بكم العُسْر}. فثبت بالنص القرآني المعصوم أن العُسر مرفوع والحرج مدفوع برحمة الشارع بعباده وأن هذه الصفة من ألزم صفات الدين بالدين.

(3)

قرار المجمع الفقهي الإسلامي

مَن تتبع الفتاوى والقرارات والأبحاث المعاصرة التي عالجت مشكلة الصيام في بلدان الشمال العالية سيلاحظ إدراك أهل العلم لحقيقة المشكلة وأهميتها وحرصهم على بحثها ومعالجتها، إلا أن معالجتهم انحصرت دائماً (تقريباً) في حل إشكالية غياب العلامات ووقفت عند ظاهر النص فأوجبت الصيام على الذين تمايَزَ في أرضهم ليلٌ ونهار، مهما طال الصيام ودون مراعاة حقيقية لعامل المشقة، باستثناء بعض الفتاوى الفردية لثلّة من علماء العصر كما رأينا آنفاً.

لعل العمدة في هذا الباب هو قرار المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي، وهو القرار الثالث من قرارات الدورة الخامسة التي عقدها المجمع في شهر ربيع الثاني 1402 (شباط 1982) وكان بعنوان "أوقات الصلوات والصيام في البلاد ذات خطوط العرض العالية الدرجات"، وهو يوجب الصيام على المكلفين في البلدان التي يتمايز فيها الليل عن النهار مهما بلغ طول نهارها ما داموا في أرض فيها ليل ونهار يتعاقبان خلال أربع وعشرين ساعة. ولأهمية هذا القرار وتأثيره في أكثر الفتاوى التي صدرت بعده في الموضوع سأنسخ القسم الرئيسي منه هنا ثم أعقب عليه، وهذا نصّه:

تنقسم الجهات التي تقع على خطوط العرض ذات الدرجات العالية إلى ثلاث. الأولى: تلك التي يستمر فيها الليل أو النهار أربعاً وعشرين ساعة فأكثر بحسب اختلاف فصول السنة، ففي هذه الحال تقدَّر مواقيت الصلاة والصيام في تلك الجهات على حسب أقرب الجهات إليها مما يكون فيها ليل ونهار متمايزان في ظرف أربع وعشرين ساعة. الثانية: البلاد التي لا يغيب فيها شفق الغروب حتى يطلع الفجر، بحيث لا يتميز شفق الشروق من شفق الغروب. ففي هذه الجهات يقدَّر وقت العشاء الآخرة والإمساك في الصوم ووقت صلاة الفجر بحسب آخر فترة يتمايز فيها الشفقان. الثالثة: تلك التي يظهر فيها الليل والنهار خلال أربع وعشرين ساعة وتتمايز فيها الأوقات إلا أن الليل يطول فيها في فترة من السنة طولاً مفرطاً ويطول النهار في فترة أخرى طولاً مفرطاً.

فمن كان يقيم في بلاد يتمايز فيها الليل من النهار بطلوع فجر وغروب شمس إلا أن نهارها يطول جداً في الصيف ويقصر في الشتاء: وجب عليه أن يصلي الصلوات الخمس في أوقاتها المعروفة شرعاً لعموم قوله تعالى: {أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر، إن قرآن الفجر كان مشهوداً} وقوله تعالى: {إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً}... إلى غير ذلك من الأحاديث التي وردت في تحديد أوقات الصلوات الخمس قولاً وفعلاً ولم تفرق بين طول النهار وقِصَره وطول الليل وقصره ما دامت أوقات الصلوات متمايزة بالعلامات التي بيّنها رسول الله صلى الله عليه وسلم.

هذا بالنسبة لتحديد أوقات صلاتهم، أما بالنسبة لتحديد أوقات صيامهم شهر رمضان فعلى المكلفين أن يمسكوا كل يوم منه عن الطعام والشراب وسائر المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس في بلادهم ما دام النهار يتمايز في بلادهم من الليل وكان مجموع زمانهما أربعاً وعشرين ساعة، ويحل لهم الطعام والشراب والجماع ونحوها في ليلهم فقط وإن كان قصيراً، فإن شريعة الإسلام عامة للناس في جميع البلاد، وقد قال الله تعالى: {وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، ثم أتمّوا الصيام إلى الليل}. انتهى.

(4)

قراءة في قرار المجمع الفقهي

الذي يقفز إلى الذهن بَداهةً أن الفتوى الشرعية التي تتعامل مع ليل ونهار ينبغي أن تقصد حتماً الليل الشرعي والنهار الشرعي، وليس الليلَ والنهار الفلكيين.

لنعرّف أولاً النهار الفلكي والنهار الشرعي. النهار عند الفلكيين هو الذي يمتد بين شروق الشمس وغروبها، وما سواه من الغروب إلى الشروق ليل. أما بالاعتبار الشرعي فإن النهار يبدأ من طلوع الفجر وينتهي بالغروب، ويبدأ الليل بغروب الشمس وينتهي بطلوع الفجر، لذلك عدّ جمهور الفقهاء صلاة الفجر من صلوات النهار. وهذا هو النهار الذي قُصد في الآية الكريمة: {أقمِ الصلاة طرفَي النهار وزُلَفاً من الليل}. قال النووي في المجموع: "الأحكام كلها متعلقة بالفجر الثاني، فيه يدخل وقت الصبح ويخرج وقت العشاء ويدخل الصوم، وبه ينقضي الليل ويدخل النهار".

(ملاحظة مهمة على الهامش: إذا أُطلق لفظ النهار في الشرع أُريدَ به هذا، وإذا ذُكر نصفه فهو نصف النهار الفلكي، من طلوع الشمس إلى غروبها، ومنه قول الفقهاء أن وقت صلاة الظهر هو نصف النهار، يريدون اللحظة التي تعبر فيها الشمس خط الزوال عندما تقطع نصف رحلتها بين مشرقها ومغربها وليس نصف الوقت بين الفجر والغروب).

والآن لنتأمل قرار المجمع الفقهي الإسلامي: أيَّ النهارين يقصد، الفلكي أم الشرعي؟ يبدو واضحاً أن في صياغة القرار اضطراباً بين الاثنين، فقد جاء فيه أن بلاد الشمال ثلاثة أنواع، أولها نوع يستمر ليله أو نهاره أربعاً وعشرين ساعة فأكثر، وحَلُّه تقدير مواقيت الصلاة والصيام باتّباع أقرب الجهات التي يتمايز فيها ليلٌ ونهار في أربع وعشرين ساعة. وثانيها لا يغيب شفق الغروب فيه قبل طلوع فجره بحيث لا يتميز شفق الشروق من شفق الغروب، وحلُّه تقدير وقت صلاتَي العشاء والفجر والإمساك في الصوم بحسب آخر فترة يتمايز فيها الشفقان.

أي أن مشكلة النوع الأول أن الشمس لا تغيب فيه (أو لا تشرق) في أربع وعشرين ساعة، وهذا وصف النهار والليل الفلكيين. أما الثاني فمشكلته أن شمسه تشرق وتغيب ولكن شفقها لا يغيب بعد غيابها ولا يطلع قبل طلوعها، وهذا وصف النهار والليل الشرعيين! أي أن القرار خلط بين مفهومين مهمَّين وفرّق بين صورتين مختلفتين لنوع شرعي واحد من الليالي والنهارات، فيومٌ طولُه أربع وعشرون ساعة لا تغرب شمسه تحت الأفق ويومٌ تغرب شمسه ثم تطلع قبل غياب شفق غروبها لا فرقَ بينهما بالاعتبار الشرعي.

بإعادة تعريف النهار والليل اللذين وردا في قرار المجمع وتوحيدهما في هيئة النهار والليل الشرعيين لا الفلكيين نخلص إلى أن أقاليم الأرض تنقسم إلى نوعين وليس إلى ثلاثة: نوع يتمايز نهارُه الشرعي عن ليله الشرعي ونوع لا يتمايز أحدهما عن الآخر وحَسْب، فلا نوعَ ثالثاً فيما يخص أوقات العبادة المرتبطة بحركة الشمس من صلاة وصيام. وعندئذ سنجد أن الحكم المنشود يتراوح بين اثنين، حكم للبلاد التي يتعاقب فيها ليلٌ ونهار متمايزان في أربع وعشرين ساعة، وحكم للبلاد التي تختفي فيها علامات الليل والنهار أو تتداخل فيها أوقات الفجر والعشاء.

(5)

ضرورة التقدير في بعض الأماكن والأزمان

من المعلوم أن الانخفاض الزاوِيّ الأدنى للشمس الذي يسمح بغياب شفق الغروب وطلوع الفجر الجديد يتراوح بين تسع عشرة درجة وثماني عشرة درجة قوسية، وهو الرأي المعتمَد في معظم دول العالم الإسلامي (وقد تعرضتُ لهذه المسألة بتوسع وتفصيل في مقالة "تعليق فلكي شرعي على الخلاف في تحديد وقت الفجر" التي نشرتها قبل عدة سنوات). لنعتمد الدرجة الأقل لأنها قيمة قطعية لا يُعترف بغياب شفق وولادة فجر فيما دونها، ثم لنتعرّفْ على رحلة الشمس (الظاهرية) حول الأرض لنفهم المسألة بوضوح.

الذي يحصل عادة هو أن الشمس التي نراها فوقنا في السماء نهاراً تستمر بالانخفاض والاقتراب من الأفق حتى تلامسه، ثم تنخفض أكثر فيغيب جرمها كله، وفي تلك اللحظة يموت النهار ويولد الليل فلكياً وشرعياً، فيفطر الصائمون ويصلي الناس صلاة المغرب. ولكنهم لا يصلّون العشاء حتى يغيب الشفق، وهو يغيب عندما تستمر الشمس بالانخفاض ويبدأ ضوؤها (الذي خلّفته وراءها) بالانحسار قليلاً بعد قليل حتى يصل انخفاضُها تحت الأفق إلى ثماني عشرة درجة، وفي اللحظة التالية يختفي آخر خيط من خيوط شفق الغروب ويدخل وقت صلاة العشاء.

وتستمر الشمس بالانخفاض حتى تصبح على الجهة الأخرى من الأرض (وهذا الوصف كله هو الوصف الظاهري بطبيعة الحال) وعندئذ تبلغ النقطةَ الدنيا بالنسبة لنا وتعبر خطاً وهمياً يصل بين الشمال والجنوب مروراً بنقطة يسميها الفلكيون "النظير"، وهي تناظر وتقابل نقطة "السمت" التي تعلو رؤوسنا ويمر بها خط الزوال الواصل بين الشمال والجنوب وتعبره الشمس عندما تكون في أعلى مستوى لها خلال النهار.

عندما تعبر الشمس تلك النقطة في الطرف المقابل من الأرض (ظاهرياً) تنتقل من الجهة الغربية التي غربت فيها إلى الجهة الشرقية التي ستشرق منها، ثم تبدأ بالارتفاع رويداً رويداً مقتربة من الأفق الشرقي، فتتناقص درجة انخفاضها من خمسين درجة (مثلاً) إلى أربعين ثم إلى ثلاثين فما دونها، فإذا بلغت ثماني عشرة درجة تسرب الخيط الأول من شعاعها مستعرضاً فوق الأفق ورآه الناظرون. في تلك اللحظة يموت "الليل الشرعي" ويولد "نهار شرعي" جديد، فيمسك الصائمون ويدخل وقت صلاة الفجر. وتستمر الشمس بالارتفاع درجة بعد درجة فيزداد ضياؤها انتشاراً فوق الأفق حتى تلامسه أخيراً، ثم تشرق فينقضي وقت الفجر، وفي تلك اللحظة يولد النهار الفلكي الجديد.الفق الشرقالأفق الشرقي، فغذ

ماذا يعني الشرح السابق كله؟ إنه يوضح لنا حقيقة مهمة جداً: ما لم يصل انخفاض الشمس تحت الأفق إلى هذه الدرجة بعد غروبها ويتجاوَزْها فلن يختفي شفق الغروب، أي أنه لن يموت، وما لم يَمُت فلن يولد من جديد. أي أن شفق الفجر لن يولد لأن شفق العشاء لم يَختفِ أصلاً، فيتداخل الشفقان وتتداخل علامتا العشاء والفجر ولا يمكن تحديد بداية ونهاية النهار الشرعي الواجب الصيام.

هذه الحالة تتحقق في أيام الصيف الطويلة التي يميل فيها محور دوران الأرض باتجاه الشمس، ولكنها لا يمكن أن تحصل إلا شمال خط العرض 48، وذلك بسبب مَيَلان محور دوران الأرض على مدارها حول الشمس بدرجة شهيرة يعرفها أكثر قراء هذه المقالة: ثلاث وعشرون درجة ونصف درجة. فالشمس تبلغ أعلى ارتفاع لها في السماء في أي موضع في الأرض يوم الانقلاب الصيفي، وتكون درجة ارتفاعها نهارَ ذلك اليوم هي "90 - خط عرض المكان + 23.5"، وفي اليوم نفسه تبلغ أقل انخفاض لها تحت الأفق، وتبلغ درجة انخفاضها "90 - خط عرض المكان - 23.5".

والآن لنستخدم هذه المعادلة البسيطة لحساب انخفاض الشمس في خط العرض 48، وسوف نجد أنها تبلغ ثماني عشرة درجة ونصفاً، وهو انخفاض بالكاد يكفي لكي يتبدد آخر شفق الغروب الزائل ويتسرب خيط الفجر الوليد، أي أنها تقع على تخوم نهايات الأراضي التي يتمايز فيها ليل ونهار شرعيان، فإذا ارتقينا درجة واحدة أخرى إلى الشمال خرجنا من تلك الأراضي ودخلنا إلى المناطق التي لا تنخفض فيها الشمس تحت الأفق عن ثماني عشرة درجة، فلا يتمايز في لياليها الشفقان وتتداخل فيها علامات الليل الشرعي والنهار الشرعي.

في تلك المنطقة يصبح التقدير حتمياً وليس اختيارياً لأن العلامة الدالة على الوقت اختفت ولم يعد تمييزها ممكناً. وكما أمسك الصائمون وصلّوا الفجر دون أن يتبينوا "الخيط الأبيض من الخيط الأسود" فإنهم يُنهون صيامهم ويصلّون المغرب قبل الليل، فيفطرون والشمس في السماء لأنها يمكن أن تتأخر في الغروب تأخراً فاحشاً، بل يمكن أن تبقى فوق الأفق اليومَ كله فلا تغيب.

(6)

متى يبدأ التقدير؟

انتهينا الآن من التفريق بين النهارين الشرعي والفلكي وخلصنا إلى حتمية التقدير بعد انعدام علامتي العشاء والفجر في أيام الصيف على مستوى خط العرض 49 وما بعده إلى الشمال، وبقي سؤال على درجة كبيرة من الأهمية يتعلق به حل مشكلة أوقات الصلاة والصيام في هاتيك النواحي: هل يُعتبر مجرد تمايز الليل والنهار (الشرعيين) كافياً لتثبيت الأحكام؟ معظم الفتاوى العامة التي صدرت عن مجامع وهيئات شرعية اعتبرت التمايز بحد ذاته كافياً، والذي أراه (والله أعلم) أنه لا يمكن أن يكون كذلك، لأن المسافة الفاصلة بين علامتَي العشاء والفجر تتضاءل تدريجاً مع مضيّ الأيام قليلاً بعد قليل حتى لا يبقى منها غيرُ قدر يسير، وبعده تنعدم وتتداخل العلامات في يوم من الأيام، ولأضرب مثالاً يوضح المقصود:

في خط عرض 49 الذي يمر بباريس تقريباً تستمر علامتا الفجر والعشاء بالتداخل أيام الانقلاب الصيفي بين الثالث عشر والثلاثين من حزيران، ولكن هذا التداخل لا يحصل بغتة، فلا يكون الفرق بين خروج العشاء ودخول الفجر عدة ساعات ثم يهبط فجأة إلى العدم، بل هو ينتقل متدرجاً مع اقترابنا من اليوم المذكور، فقبل تداخل العلامات بيوم واحد (12/6) يغيب شفق الغروب في الساعة الواحدة وأربعين دقيقة ويطلع الفجر في الواحدة وتسع وخمسين. أي أن الشرط الشرعي لأداء المغرب والعشاء في وقتَيهما وصيام المكلَّف تحقق نظرياً بتمايز الوقتين، ولكن الزمن الذي يفصل بين العشاء والفجر يبلغ تسع عشرة دقيقة فحسب، فهل يقول عاقل إنه وقت كاف لأداء حقوق الدنيا والدين من صلوات وطعام وشراب؟

محال! إذن لا بد من الاعتراف بأمر تجنبت معظم الفتاوى الصادرة عن المجامع الفقهية الإشارة إليه: إن مجرد تمايز الليل عن النهار في يوم طوله أربعٌ وعشرون ساعة لا يُعتبر وحده سبباً موجباً لصيام النهار وأداء الصلوات في أوقاتها، وإن التقدير لازم حتى في بعض الحالات التي يحصل فيها هذا التمايز.

(7)

ضبط التقدير بقاعدة الربع

لما كان التقدير جائزاً، بل ضرورياً، حتى مع تحقق علامتَي العشاء والفجر في بعض الأماكن والأوقات، فقد بقي علينا ضبطه بضابط كمّي وليس بضابط تقريبي يحتمل الزيادة والنقصان. وقد اجتهدت في استنباط الضابط من قاعدة شرعية دعوتُها باسم "قاعدة الربع". وهي ليست قاعدة على التحقيق، أو أنني لم أرَ من يسميها كذلك في أي بحث فقهي مَرَّ بين يدَي إلى اليوم، غير أنها تصلح أن تكون مادة تُبنى عليها رسالة بحثية في الدراسات العليا في الفقه والأصول. وقد استخرجتها من الفقه الحنفي، فمَن أدمن النظر في كتب الأحناف سيلاحظ اطّراداً في اعتماد "الربع ممثلاً للكل" يُخرجه من الاستثناء إلى القاعدة أو إلى ما في حكمها. ولأهمية هذه القاعدة في حل مشكلة الصيام في بلدان الشمال ولأنها غير معرَّفة سابقاً فسوف أعرضها بشيء من التفصيل.

من المعروف أن أصحاب المذاهب اختلفوا في مسح الرأس في الوضوء، فذهب المالكية والحنابلة إلى وجوب استيعاب الرأس كله بالمسح، ورأى الحنفية والشافعية أنه يكفي مسح بعضه لأنهم فهموا أن الباء في قوله تعالى {وامسحوا برؤوسكم} للتبعيض، والمذهب عند جمهور الأحناف أن مسح "ربع" الرأس واجب واستيعابه كله بالمسح مستحب. واختلفوا في أقلّ ما يجزئ من الحلق في الحج والعمرة،‏ فذهب المالكية والحنابلة إلى أن حلق بعض الرأس لا يجزئ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حلق جميع رأسه، ورأى الحنفية أن حلق أقل من "ربع" الرأس لا يجزئ وحلق الربع يجزئ مع الكراهة‏. وذهب أكثر فقهاء الحنفية إلى عدم بطلان صلاة المصلّي إذا انكشف من عورته بلا قصد أقلُّ من "ربع" عضو، وذهبوا إلى العفو عن النجاسة التي تصيب الثوبَ أو البدن إذا كانت دون "ربع" أحدهما (على تفصيل عندهم في تفريق الأعضاء وجمعها في الحالتين وشروط أخرى مبسوطة في مواضعها). وهذه طائفة من النصوص المنتخَبة التي تؤيد "قاعدة الربع" المقترَحة:

1- في "بدائع الصنائع" (في كتاب الحج، فصل الحلق أو التقصير): "الحلق أو التقصير واجب عندنا (أي أنه من واجبات الحج عند الأحناف، خلافاً للشافعية)... والحلق المطلق يقع على حلق جميع الرأس، ولو حلق بعض الرأس فإنْ حلقَ أقل من الربع لم يُجزئه، وإن حلق ربع الرأس أجزأه ويُكرَه. أما الجواز فلأن ربع الرأس يقوم مقام كله في القُرَب المتعلقة بالرأس، كمسح ربع الرأس في الوضوء. وأما الكراهة فلأن المسنون هو حلق جميع الرأس، وترك المسنون مكروه".

2- في "الجوهرة النيّرة" (في كتاب الحج، باب تطيّب المحرم): "لو غطى بعض رأسه فالمَرويّ عن أبي حنيفة أنه اعتبر الربع، اعتباراً بالحلق. وعن أبي يوسف أنه يعتبر أكثر الرأس. قال في الوجيز: وإن غطى ربع وجهه عامداً أو ناسياً أو نائماً فعليه دم". وفي "الجوهرة" أيضاً (في كتاب الحج، باب تطيّب المحرم): "إذا تطيب المُحرم فعليه الكفارة. وإن طيّب عضواً كاملا فما زاد فعليه دم وإن طيّب أقل من عضو فعليه صدقة. وفي "المنتقى": إذا طيّب ربع عضو فعليه دم اعتباراً بالحلق، وكذا إذا غطى ربع رأسه يجب الدم، وإن كان أقل فصدقة".

3- في "شرح معاني الآثار" (في كتاب الصيد والذبائح والأضاحي): "كل عضو قُطع من شاة، مثل ضرعها أو إليتها، فذلك يمنع أن يُضحَّى بها إذا قُطع بكماله، أما إذا قُطع بعضه فإن أصحابنا يختلفون في ذلك. فأما أبو حنيفة فرُوي عنه أن المقطوع من ذلك إذا كان ربع ذلك العضو فصاعداً لم يصح بما قُطع ذلك منه (أي لا تصح التضحية به بسبب القطع الذي فيه)، وإن كان أقل من الربع ضُحّي به".

4- وقال صاحب "مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر" في كتاب الصلاة: "وكشف ربع عضو هو عورة (أي من الأعضاء التي يجب سترها في الصلاة للرجل والمرأة) يمنع صحة الصلاة، لأن للربع حكم الكل. واعلم أن انكشاف ما دون الربع عَفوٌ إذا كان في عضو واحد". وفيه: "ولو وجد ثوباً ربعه طاهر وصلى عارياً لا يجزيه، لأن ربع الشيء يقوم مقام كله، فيُجعل كأن كله طاهر في موضع الضرورة وتُفرض عليه الصلاة فيه".

5- وفي "بدائع الصنائع" في كتاب الصلاة: "قليل الانكشاف لا يمنع جواز الصلاة لما فيه من الضرورة، لأن الثياب لا تخلو عن قليل خرق عادة. والكثير يَمنع لعدم الضرورة. واختُلف في الحد الفاصل بين القليل والكثير، فقدّر أبو حنيفة ومحمد الكثير بالربع فقالا: الربع وما فوقه من العضو كثير، وما دون الربع قليل. وأبو يوسف جعل الأكثر من النصف كثيراً وما دون النصف قليلاً". ثم بيّن المؤلف أن أبا يوسف يفسر القليل والكثير بالمقابلة (أي بالمقارنة كما نقول اليوم) فما كان مقابله أقل منه فهو كثير وما كان مقابله أكثر منه فهو قليل. ثم يقول: "ولهما (أي لأبي حنيفة ومحمد) أن الشرع أقام الربع مقام الكل في كثير من المواضع، كما في حلق الرأس في حق المُحْرم ومسح ربع الرأس". ثم يرد على أبي يوسف ويردّ تعليله للكثير والقليل بالمقابلة فيقول: "إن الشرع قد جعل الربع كثيراً في نفسه من غير مقابلة في بعض المواضع على ما بيَّنّا، فلزم الأخذ به في موضع الاحتياط... لأن الربع فما فوقه في حكم الكمال كما في مسح الرأس وحلق المحرم ربع الرأس، وكما يقال رأيت فلاناً وإن عاينه من إحدى جهاته الأربع".

6- وفي "فتح القدير" في كتاب الطهارات: "وإن كانت مخففة -كبَوْل ما يؤكَل لحمه- جازت الصلاة معه حتى يبلغ ربع الثوب. يُروى ذلك عن أبي حنيفة رحمه الله لأن التقدير فيه بالكثير الفاحش، والربع ملحق بالكل في حق بعض الأحكام". وفي "الجوهرة النيرة" في كتاب الصلاة: من لم يجد ما يُزيل به النجاسة صلى معها ولم يُعِدْ. هذا على وجهين، إن كان ربع الثوب فصاعداً طاهراً يصلّي فيه، ولو صلى عرياناً لا تجوز صلاته، لأن ربع الشيء يقوم مقام كله".

7- وفي الفتاوى التتارخانية (في كتاب الطهارة) في مقدار النجاسة الذي يمنع جواز الصلاة: "يجب أن يُعلَم بأن القليل من النجاسة عفو عندنا. وعن أبي يوسف قال: سألت أبا حنيفة عن الكثير الفاحش فكَرِهَ أن يحدّ فيه حداً وقال: الكثير الفاحش ما يستفحشه الناس. وعن محمد أنه قال: الكثير الفاحش هو ربع الثوب. وذكر أبو علي الدقاق في كتاب الحيض أن الكثير الفاحش عند أبي حنيفة ومحمد ربع الثوب". واختلفت الروايات عن أبي يوسف..." ثم قال: "قال مشايخنا: التقدير بالربع أصح لأن الربع أقيم مقام الكل في كثير من الأحكام، كمسح ربع الرأس أقيم مقام الكل، وفي الإحرام حلق ربع الرأس أقيم مقام حلق الكل، وككشف ربع العورة أقيم مقام كشف الكل".

النصوص السابقة تؤسس للقاعدة المقترَحة، ولا سيما قول العلاء الكاساني في البدائع: "الربع فما فوقه في حكم الكمال" وقول الزبيدي في الجوهرة: "ربع الشيء يقوم مقام كله". وقد انتخبت عدداً محدوداً من النصوص التي تؤسس للقاعدة دون تزيّد حتى لا أزيد البحث طولاً على طول، ومن أراد الاستقصاء فعليه بمطوَّلات المذهب.

(8)

تطبيق قاعدة الربع لضبط التقدير

أجمعت الفتاوى المعاصرة على أن العمل بالمواقيت ينبغي أن يستمر في أي منطقة على ظهر الأرض حتى تختفي العلامات، وعندها يُنتقَل إلى التقدير. وقد رأينا أن هذا الإطلاق يعني أن يُفرض العمل بالمواقيت عندما يتقلص الزمن الفاصل بين وقتَي العشاء والفجر إلى بضع دقائق فحسب، وهو يعني أيضاً أن ملايين المسلمين في أقصى الشمال سيصومون عشرين ساعة وإحدى وعشرين واثنتين وعشرين، وهو تعسير يتناقض مع قاعدة التيسير ومبدأ رفع الحرج.

والذي أراه أن يعدَّل هذا الرأي بحيث يراعي الزمن الفاصل بين الشفقين، لأن الشريعة تراعي مصالح العباد، ولأن الوقت الممتد بين اختفاء شفق الغروب وولادة شفق الشروق هو الوعاء الافتراضي لصلاة العشاء والتراويح والتهجد والوتر وطعام السحور، وهي أنشطة دينية ودنيوية من حق المكلَّف التمتع بها على الأصل العام لا على الاستثناء الخاص، بمعنى أن يستغرق الانتفاعُ بها عمومَ المكلَّفين في كل الحالات وليس بعضَهم باستثناء المرض أو لغيره من العلل الطارئة، وأي إنسان يدرك أن هذه الصلوات والوجبات لا تتحقق في أقل من ساعتين.

هنا تأتي أهمية قاعدة الربع في هذا البحث، فنقرر أنه "لا يكون الليل ليلاً إذا قَلَّ عن ربعه الأصلي، ولا يُعتبَر في الزمن الفاصل بين شفقَي الغروب والشروق أقل من ربع طوله النموذجي المعياري".

لكي نستعمل القاعدة الضابطة علينا أن نعثر على ليل معياري نعتمده في القياس، ولعل أول ما يخطر بالبال هو المناطق المعتدلة على خط الاستواء التي يستوي فيها الليل والنهار الفلكيان على مدار العام، ولكن مكة أَولى بأن تكون هي الموقع المرجعي لأنها القبلة التي تجتمع فيها شعاعات المصلين من أنحاء الدنيا، ولأن خط الاستواء يقسم كرة الأرض لنصفين متناظرين ولكنه لا يقسم كتلة الأرض المعمورة بالتساوي، بل يكاد خط عرض مكة (21 شمال) هو الذي يفعل، ومَن نظر إلى خريطة الأرض أدرك ذلك بداهة (ولن أخوض في مسألة مركزية مكة بالنسبة لليابسة التي ادّعاها جماعة منذ بضع عشرة سنة، فإنها دعوى عريضة تحتاج إلى برهان ولا أرى لها أهمية في هذا البحث).

ومن المعلوم أن أطول ليل شرعي بين غروب شمس مكة وطلوع فجرها يتحقق في الثالث والعشرين من كانون الأول، وطوله إحدى عشرة ساعة وإحدى وخمسون دقيقة، وفي تلك الليلة يتحقق أيضاً أطولُ فاصل بين الشفقين، شفق الغروب وشفق الشروق، وطوله عشر ساعات ونصف، ويبلغ طول ربعه ساعتين وأربعين دقيقة تقريباً. هذا هو "الربع المعياري" الذي أخذت به واعتبرته حداً أدنى لطول الليل الفاصل بين العشاء والفجر، فإذا نقص طوله في أي زمان ومكان انتقلنا إلى التقدير.

(9)

نتيجة البحث: كيفية التقدير

بقي علينا أخيراً أن نعرف كيف يكون التقدير، وبذلك نصل إلى حل مشكلة الصلاة والصيام في البلدان الشمالية العالية. عندما نستعرض الفتاوى السابقة التي اهتمت بحل معضلة الصيام الطويل في بلاد الشمال نجد أن أكثرها بحث عن الحل في مكان مختلف عن المكان الذي وقعت فيه المشكلة ولكن في الزمان نفسه، فاقتُرحت متابعة مواقيت مكة أو اتباع مواقيت البلد الأقرب الذي تظهر فيه العلامات. الذي يقترحه هذا البحث هو أن نبحث عن الحل في المكان نفسه، ولكن في غير الزمان الذي وقعت فيه مشكلة اختفاء العلامات أو تداخُلها أو تقاربها تقارباً فاحشاً، وذلك بالحل السهل الآتي:

يَعتمد كل مكان في الدنيا العلامات الظاهرةَ طالما بقيت في حدودها الطبيعية طولاً وقِصَراً، فتبقى العلامات الخمس (طلوع الفجر وشروق الشمس وزوالها وغروبها وغياب الشفق الأحمر) هي العلامات التي تُستخرج منها مواقيت الصلوات الخمس والإمساك والإفطار على الوجه الشرعي المعروف خلال الأيام المعتدلة في الربيع، وتستمر كذلك مع الدخول في الصيف حتى يبلغ النقصان درجة لا يبقى معها من فترة ما بين الشفقين إلا ربعها المعياري (ساعتان وأربعون دقيقة تقريباً). عندها يتوقف اتباع العلامات وتُثبَّت أوقات الصلوات على حالتها التي بلغتها في ذلك اليوم، ويستمر التثبيت حتى يبلغ النهار أوجَه يوم الانقلاب الصيفي ثم يبدأ بالتراجع مع خروج الصيف ودخول الخريف، حيث يعود الليل إلى التمدد ببطء ليلة بعد ليلة، فإذا بلغ طول ما بين الشفقين ساعتين وأربعين دقيقة وتجاوزها عاد العمل بالعلامات.

لزيادة التوضيح سأضرب أمثلة ببعض مدن وسط أوروبا وشمالها: في لندن (وهي على ارتفاع 51 درجة شمالاً) يصل الفاصل بين الشفقين إلى هذا الحد في الثاني عشر من أيار كل عام، ثم يبدأ بالتناقص عنه حتى يتداخل الوقتان بعد عشرة أيام، وتستمر علامتا العشاء والفجر متداخلتَين لمدة ستين يوماً، ثم تظهران من جديد في الثاني والعشرين من تموز، ويستمر الشفقان بالتباعد يوماً بعد يوم حتى يصل الفاصل بينهما إلى ساعتين وثلاث وأربعين دقيقة في الحادي والثلاثين من تموز. هذا يعني أن مواقيت الصلوات والإمساك والإفطار في لندن ستثبَّت لمدة شهرين وأسبوعين تقريباً، بين الثاني عشر من أيار والحادي والثلاثين من تموز، وتبقى خلال هذه الأيام هي ذاتها مواقيت الثاني عشر من أيار: الفجر والإمساك 2:22، الشروق 5:13، الزوال 12:56، الغروب والإفطار 20:40، العشاء 23:35، وطول مدة الصيام 18 ساعة و18 دقيقة.

بالطريقة نفسها حسبت مواقيت الصلاة والصيام في ستوكهولم (59 درجة شمالاً): آخر يوم يَفصل فيه بين شفق الغروب والفجر ربعٌ معياري هو الثامن عشر من نيسان، وفي اليوم التالي يصبح الفاصل دون الربع، ثم يستمر بالتناقص حتى يختفي تماماً بعد ستة أيام وتختفي علامتا العشاء والفجر، ويبقى الأمر كذلك حتى تعود العلامات في العشرين من آب، وبعدها بخمسة أيام يتجاوز الفاصل بين الشفقين الربع المعياري، وعندها يعود العمل بالعلامات. وبذلك تبقى مواقيت 18 نيسان ثابتة في ستوكهولم خلال الفترة من 18/4-25/8 من كل عام، وهي على النحو التالي: الفجر والإمساك 2:11، الشروق 5:25، الزوال 12:47، الغروب والإفطار 20:10، العشاء 23:29، وطول مدة الصيام 17 ساعة و59 دقيقة.

أما في برلين (52 درجة شمالاً) فآخر يوم يفصل فيه بين الشفقين ربعٌ معياري هو التاسع من أيار، وبعده ينقص الفاصل ثم تختفي العلامات حتى يعود الأمر إلى ما كان عليه في الثالث من آب، وعليه فإن مواقيت الصلاة والصيام تثبَّت في المدينة من 9/5-3/8 وتكون هي مواقيت 9 أيار: الفجر والإمساك 2:25، الشروق 5:21، الزوال 13:02، الغروب والإفطار 20:45، العشاء 23:44، وطول مدة الصيام 18 ساعة و20 دقيقة.

قد تختلف هذه الأوقات ببضع دقائق لو لم تكن الجداول الفلكية التي اعتمدت عليها دقيقة تماماً، ولكنها ستبقى قريبة جداً من هذه النتائج على أية حال، وهي نتائج واقعية وفيها قدر كبير من التيسير مقارنة بالمواقيت الحالية، مع ضبطها بمعايير وقواعد شرعية مقبولة بإذن الله.

(10)

خلاصة البحث

لقد بات تحديد أوقات الصلاة والصيام في بلاد الشمال العالية من المسائل المهمة في هذا العصر بعدما انتشر المسلمون في أصقاع الأرض وعاش ملايين منهم في بلاد بعيدة عن المناطق المعتدلة، في كندا وبلدان أوربا الشمالية. هؤلاء يتجاوز طول نهارهم في الصيف عشرين ساعة فيضطرون إلى الصيام لساعات طويلة مرهقة، وتأتي عليهم أيام يفقدون فيها علامات الأوقات، فلا يتميز وقت العشاء من وقت الفجر، وإذا تداخل الوقتان وجب التقدير، وهو قول قديم في المسألة أكدته المجامع العلمية والهيئات الشرعية المعتبَرة في العصر الأخير.

إلا أن أكثر الفتاوى العامة التي عالجت المشكلة باعتماد التقدير اقتصرت على حل إشكالية غياب العلامات ووقفت عند ظاهر النص فأوجبت الصيام على الذين تمايَزَ في أرضهم ليلٌ ونهار في أربع وعشرين ساعة، مهما طال الصيام ودون مراعاة حقيقية لعامل المشقة، باستثناء بعض الفتاوى الفردية لثلّة من علماء العصر. وتسبب هذا الحكم العام في إلزام الناس بالصيام حين تقارب عشاؤهم مع فجرهم تقارباً فاحشاً فلم يبقَ بين غياب شفق الغروب وطلوع الفجر سوى بضع عشرة دقيقة في بعض الأحيان، وبهذا الحكم أُلزم ملايين المسلمين في أقصى الشمال بالصوم عشرين ساعة وإحدى وعشرين واثنتين وعشرين في بعض أيام العام، وهو تعسير يتناقض مع قاعدة التيسير ومبدأ رفع الحرج.

لذلك اقترح هذا البحث أن يعدَّل العمل بالتقدير بحيث يؤخَذ الزمنُ الفاصل بين الشفقين بالاعتبار، لأن الشريعة تراعي مصالح العباد، ولأن الوقت الممتد بين اختفاء شفق الغروب وولادة شفق الشروق هو الوعاء الافتراضي لأنشطة دينية ودنيوية من حق المكلَّف التمتع بها على الأصل العام لا على الاستثناء الخاص. ثم حدد البحث النقطة التي يبدأ العمل فيها بالتقدير مستفيداً من قاعدة استنبطها من كتب السادة الأحناف، وهي (بألفاظهم): "الربع فما فوقه في حكم الكمال"، و"ربع الشيء يقوم مقام كله"، و"الربع أقيم مقام الكل في كثير من الأحكام".

اعتماداً على هذه القاعدة قررت أنه "لا يكون الليل ليلاً إذا قَلَّ عن ربعه الأصلي، ولا يُعتبَر في الزمن الفاصل بين اختفاء شفق المغرب وطلوع الفجر أقلُّ من ربع طوله النموذجي المعياري". ثم اخترت "ليلاً معيارياً" للقياس عليه، وهو ليل مكة في أطول ليالي العام لاعتبارات فصّلتها في متن المقالة، ووجدت أن هذا الربع يبلغ طولُه ساعتين وأربعين دقيقة تقريباً. وقد اعتبرته حداً أدنى لطول الليل الفاصل بين العشاء والفجر، فإذا نقص في أي زمان ومكان عن هذا القدر انتقلنا إلى التقدير.

أي أن أي بلد في الدنيا يعتمد في تحديد أوقات صلاته وصيامه على العلامات الظاهرة طالما بقيت في حدودها الطبيعية طولاً وقِصَراً، فإذا نقصت فترة ما بين الشفقين عن ربعها المعياري المذكور (وهو ساعتان وأربعون دقيقة) مع التقدم باتجاه الصيف يتوقف اتباع العلامات وتُثبَّت أوقات الصلوات على حالتها التي بلغتها في ذلك اليوم، ويستمر التثبيت حتى يعود الليل إلى طوله مع الخروج من الصيف ويبلغ طول ما بين الشفقين ساعتين وأربعين دقيقة ويتجاوزها، وعندئذ يعود العمل بالعلامات.

عندما طبقت هذا الحل على عدد من مدن الشمال التي يقيم فيها مسلمون، في بريطانيا وألمانيا والسويد، وجدت أن أقصى صيام لهم في أي وقت من أوقات العام سيكون بحدود ثماني عشرة ساعة أو أكثر بقليل. وهذا القدر من الصيام يدخل في الوسع، والمشقة التي فيه يمكن احتمالها ويطيقها عامة الناس، فمن أرهقه الجهد أفطر برخصة المشقة الخاصة وبقي الحكم على أصله، وهو الحل الأمثل الذي وجدته لعلاج مشكلة الصيام الطويل في بلدان الشمال. والحمد لله رب العالمين.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين