مربي الأجيال الأستاذ الفيزيائي أحمد ذو الغنى

مربِّي الأجيال الأسـتاذ الفيزيائي

أحمـد ذو الغـنى

بقلم ولده: أيمـن بن أحمد ذو الغـنى

 

هو أحمد بن محمد علي، بن الحسن، بن محمود، أبو أيمـن، (1347- 1437هـ/ 1928- 2016م): من أعلام المربِّين ومشاهير مدرِّسي الفيزياء والكيمياء وعباقرتهم(1)، عصاميٌّ من الأذكياء(2)، جمع بين الدراسة والعمل.

انتسب إلى كلِّية العلوم بالجامعة السورية (جامعة دمشق حاليًّا) أولَ افتتاحها سنة 1946م، وتخرَّج الأوَّلَ على دفعته بتخصُّص الفيزياء والكيمياء والرياضيات سنة 1950م(3)، ولم يكتفِ في دراسته بالمقرَّرات الجامعية بل اعتمد على أُمَّات المصادر العلمية الأجنبية(4)، ونال شهادةَ الدبلوم في التربية والتعليم.

تولَّى التدريسَ في ثانويات دمشقَ ومعاهدها، منها: ثانوية الميدان (عبد الرحمن الكواكبي)، وثانوية أمية، والثانوية الأهلية، وثانوية الشرق، وثانوية ابن خَلدون، وثانوية جَودة الهاشمي، وثانوية بور سعيد، والمعهد العربي الإسلامي، ومعهد بيت الحكمة، ومعهد دار الألسُن. وحاضر في كلِّية العلوم قسم الفيزياء، ودرَّس الكيمياء في كلِّية الصيدلة بجامعة دمشق سنوات، وفي الجامعة الأميركية ببيروت فصلًا صيفيًّا.

كُلِّف رئاسةَ البعثة السورية إلى مصر للتهنئة بالوَحدة بين القطرين السوريِّ والمصريِّ سنة 1958م، وكان حينئذٍ ملازمًا أولَ في معامل الدفاع بالجيش السوري. وابتُعث سنة 1966م إلى الاتحاد السوفييتي لحضور دورة تدريبية في صُنع الوسائل التعليمية واستعمالها.

وفي أواخر السنة نفسها انتُدبَ إلى المعهد التربويِّ الوطنيِّ بالجزائر للمشاركة في حركة التعريب، فصنَّف عددًا من كتب الفيزياء والكيمياء للمرحلة الثانوية وترجم عددًا آخرَ عن الفرنسية، وكانت كتبه أوَّلَ كتب علمية تُدرَّس هناك بالعربية، وأُنيطَ به التدريسُ في الجامعة الجزائرية.

وعاد إلى دمشقَ سنة 1973م فشارك في وضع المناهج وتأليف الكتب المدرسية لمرحلتَي التعليم الإعداديِّ والثانويِّ وللمعاهد المتوسِّطة الصناعية والمدارس الفنية النِّسوية. وعُيِّن عضوًا في الهيئة العُليا لتطوير التعليم قبل الجامعي، وفي لجنة تقنيَّات التعليم بوِزارة التربية.

امتازت كتبُه بالدقَّة العلمية، واعتماد أوثق المصادر الأجنبية الحديثة، وسلامة اللغة ورصانة العبارة وإشراق الأسلوب. واختيرَ سنة 1974م خبيرًا في منظَّمة اليونسكو، وسافر إلى باريس لمباشرة عمله، ولكن حالت دون ذلك ظروفٌ خارجة عن إرادته!

وكان مَعنيًّا بتدريس الفيزياء والكيمياء تدريسًا عمليًّا، ومن ثَم سعى في تأسيس أكبر مختبَر علميٍّ في مدارس دمشق في ثانوية الميدان في وقت مبكِّر سنة 1953م(5)، ثم أعدَّ مثله في ثانوية أميَّة، وأقام مع طلَّابه معارضَ للأجهزة الفيزيائية من صُنعهم، أشاد بها كبارُ المتخصِّصين(6).

وهو أوَّلُ من افتتح دورات تعليمية خاصَّة بدمشقَ في الثانوية الأهلية، ثم في ثانوية الشرق، وقد نالت دوراتُه شهرةً واسعة.

تميَّز بعُلوِّ همَّته، ورفيع انضباطه، وإخلاصه الفريد في أداء رسالته، وتحرِّيه الصوابَ والدقَّة في عمله، وبشدَّته وصرامته على نفسه وعلى من حوله في طلب الإحكام والإتقان، وهذا ما حَدا بوِزارة التربية السورية إلى التعاقُد معه بصفة خبير حتى بلغ الخامسةَ والسبعين، ليمتدَّ عطاؤه أكثرَ من نصف قرن، من سنة 1950 حتى 2002م، لم يتغيَّب فيها عن عمله إلا مرَّات قليلة معدودة لظروفٍ قاهرة، ولم يتأخَّر عن درس أو اجتماع أو عمل دقيقةً واحدة!

وبقيَ إلى آخر عمُره يدقِّقُ في الكتب المدرسية، ويعِدُّ جداولَ بتناقضاتها وأخطائها العلمية واللغوية والتربوية والمطبعية، يقدِّمها للوِزارة متبرِّعًا محتسبًا، ولم يقتصر على المقرَّرات السورية بل تتبَّع جُلَّ مقرَّرات الفيزياء والكيمياء الثانوية في الدول العربية.

ومما اشتَهَر به جدًّا مضاءُ الذِّهن وسرعةُ البديهة وقوَّة الحافظة(7)، واستعمالُ كلتا يدَيه في الكتابة، فكان يكتب على السَّبُّورة بيده اليمنى من أوَّل السطر إلى منتصفه ثم يكمل بيده اليسرى إلى آخر السطر، بسرعة وعفوية من غير أن يختلفَ خطُّه أدنى اختلاف(8).

تخرَّج به أجيالٌ من الطلَّاب في الشام والجزائر، منهم أعيانُ الأطبَّاء والصيادلة والمهندسين والمحامين والوزراء والعلماء وأساتذة الجامعات والإعلاميين.

حضر في شبابه دروسَ الشيخ حسن حَبَنَّكة المَيداني، ودروسَ أخيه الشيخ صادق حَبَنَّكة وكان قويَّ الصِّلة به، ولازم زمنًا الشيخ زينَ العابدين التونُسي، واتصل بالشيخ المجاهد محمَّد الأشمر، وكان صفيًّا لأستاذه شاعر الشام محمَّد البِزِم، رحمهم الله جميعًا.

رشَّح نفسَه لعضوية البرلمان السوري زمنَ الوَحدة سنة 1959م، وأتقن اللغتين الفرنسية والإنكليزية، وتعلَّم الروسية. 

تزوَّج المربِّيةَ الحافظةَ ناديا بنت ياسين بن شكيب الدَّاودي سنة 1965م، وله منها ثلاثةُ أبناء وخمس بنات.

توفِّي عِشاءَ يوم الجمعة 23 من جُمادى الآخرة 1437هـ (الأوَّل من نَيسان 2016م)، في مستشفى سنَد بمدينة الرياض، وصُلِّيَ عليه في جامع الملك خالد، ودُفنَ بمقبرة أمِّ الحمام.

رحمه الله تعالى وغفر لنا وله، وبوَّأه مراتبَ الصدِّيقين في الفِردوس الأعلى.

 


 

هوامش:

(1) وَصَفَهُ بذلك أستاذاه في الجامعة د.مأمون الكناني، ود.أدهم السمَّان في شهادة خطيَّة محفوظة.

(2) نَعَتَهُ بهذا عددٌ من قُدامى أصحابه وأبناء حيِّه منهم السادةُ العلماء الأفاضل: د.مصطفى الخن، وزهير الشاويش، ومحمد كريِّم راجح، ود.محمد بن لطفي الصبَّاغ، وسعدي أبو جيب، ومحمد سعيد المولوي، وقد سمعتُ ذلك منهم مرَّات، وسمعتُه أيضًا من شيخنا صادق حبنَّكة رحمه الله.

(3) وقد ضمَّت دفعتُه أساطينَ الفيزيائيين فيما بعد، منهم: فاروق السَّلكا، وسيف الدين بغدادي، ومحمد سعيد الطنطاوي، ود.عبد الله واثق شهيد، وعدنان محاسب، وبديع السلاخ، ومحمد المصري، وأحمد رضا حتاحت، وزهير الفقير. وكان نظَمَ خليلُه الحميم الشيخ محمد سعيد الطنطاوي قصيدةً جمع فيها أسماءَ طلاب دفعتهم كافَّة، مطلعها:

أنا امرُؤٌ سعيدُ *** لأنَّني بعيدُ

عن معهدِ الآدابِ *** ومَرتَعِ الذِّئابِ

لأنَّ في صفِّي معي *** كلَّ هُمامٍ ألمعي

فرأسُ مَن في صفِّنا *** أحمد أفندي ذو الغـنى

 

(4) كان أستاذه في الجامعة د.مأمون الكناني - وهو أحدُ كبار الفيزيائيين في الشام - قد أولاه من عنايته واهتمامه وحَدَبه، وأتاح له العودةَ إلى مكتبته الغنيَّة بأهم المصادر العلميَّة الفرنسية وأحدثها متى شاء، بل أعطاه مفتاحَ مكتبته - وكانت مستقلَّة عن بيته - وأذن له بالانكباب على ما فيها في حُضوره وغيابه. 

(5) وقد جلبَ جميع أجهزته وأدواته من ألمانيا، وما كان ليتمَّ له ما أراد لولا دعمُ أهالي الحيِّ بحثٍّ وتشجيع من شيخهم المجاهد محمد الأشمر رحمه الله.

(6) وممَّن زار مَعرِضَه سنة 1961م عميدُ كلية العلوم بالجامعة الألمانية، وكتب له وثيقةَ إعجاب وتقريظ لهذا الإنجاز المتميِّز، وحبَّر له مثل ذلك كبارُ أساتذة الفيزياء في جامعة دمشق.

(7) وخطَّ في هذا صفيُّه وخِدنُ شبابه وزميلُه فيما بعد، الأستاذ المربِّي عاصم بن محمد بهجة البَيطار رحمه الله مقالةً بعنوان: (من الذكريات المشرقة).

(8) ولا أعرف من امتلك هذه القدرةَ سوى أستاذ الرياضيات الكبير درويش القصَّاص رحمه الله تعالى.