محمد سعيد النعساني - تكريم بقلم الشيخ محمد الحامد


 
فضل العلم والعلماء
 
 
كلمة في تكريم مفتي حماة محمد سعيد النعساني للشيخ محمد الحامد رحمه الله
 
مجلة الشهاب العدد 5-6 السنة العاشرة 1389/1969
 
الحمد لله : والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله . وعلى آله وسحبه وتابعيهم بإحسان ، وبعد فالسلام عليكم أيها الأخوان ورحمة الله وبركاته .
 
نحتفي هنا بسيد كريم من أعلام العلماء وفاضل عظيم من أنبل النبلاء ، له في الفضل قدم راسخة ، وفي العلياء كعب عالٍ ، وهو في النفع للخلق فياض ، تعليماً وتسديداً ، وحناناً على الضعفاء ، وقضاءً لمصالحهم بيد مبسوطة ، وكيف ندية ، وعطاء في سخاء ، وتواضع شريف في حسن لقاء ، وبشاشة عذبة تمشي إلى الروح فتجعلها أسيرة هذا اللطف النادر ، يمتزج بجليسه متخلياً عن الأبهة والمنصب ورفعة القدر وعن أن يشعره أن فوقه علماً ومعرفة ، فيكون اختلاط روحاني تطيب به المجالسة وتحلو المؤانسة .
 
إن شيخنا الجليل له في علو الشأن أطراف يأتي المتكلمون عليها في هذا الحفل. وحسبنا جماعة العلماء أن نمسك بطرف منها ، وأن نسير متحدثين عن ناحية من نواحيه ، ومن الحق أن نعترف بأنه تقدمنا فيها حتى أعجزنا سبقاً :
 
حديثنا عن سماحة المحتفى به من حيث علمه ، وهو الخصوصية التي تقع المشاركة فيها بينه وبين العلماء . والعلم هو العلم ، ولولا العلماء ما كان هدى وكان رشاد ، وما كانت تقوى لله قوية الأسس ، سليمة الاتجاه ، صحيحة النتائج.
 
العلم هو النور الذي أشرقت به قلوب العارفين فساروا في سلام، وبلغوا المنزل في أمان ، ولم يرتطموا بالعقبات المعترضة والموانع النابتة ، ولم تزل بهم القدم فأفضوا إلى ما يحبون موفقين مرضيين .
 
جاء الإسلام العلماء ويطلب أن يعرف لهم فضلهم إجلالاً وتكريماً وسمعاً وطاعة، وهل أدل على التكريم البالغ من قول الله سبحانه : ( شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائماً بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم } فأضاف شهادتهم إلى شهادته وشهادة ملائكته ، وتلك منقبة لم يسم إليها غيرهم ، وعلياء لم يرقها سواهم. إنه سبحانه عليم يحب كل عليم وقد شاء أن لا تكون مساواة بين عالم وجاهل ، وأنزل في هذا قوله الكريم : { قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب } .
 
ومن حبه سبحانه لمن أخلص له في علمه ونصح للناس : أن يلهم الكائنات استغفاراً له ودعاء ، تنويهاً بشأنه ورفعاً إلى رتب علية لا يبلغها إلا المؤثرون لديه بالفضل والكرامة : فعن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه قال : ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان أحدهما عابد ، والآخر عالم ، فقال عليه الصلاة والسلام : ( فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم ) ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أن الله وملائكته وأهل السموات والأرض حتى النملة في حجرها وحتى الحوت ليصلون على معلم الناس الخير ) رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح .
 
ومعاذ الله أن يعذب الله العالم العامل وقد أراد وجه ربه بعلمه ودأب على بثه ونشر ناصحاً حتى مات على خير ، الله عز اسمه أكرم من هذا وأجل ، فقد روى الطبراني في جامعه الكبير عن أبي موسى رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( يبعث الله العباد يوم القيامة ثم يميز العلماء فيقول : : يا معشر العلماء ، إني لم أضع علمي فيكم لأعذبكم : اذهبوا فقد غفرت لكم ) .
 
ولا يقف التكريم الإلهي للعالم المخلص عند هذا دون أن يوقفه موقف الشافع المقبول الذي يسأل فيجاب ويشفع فيشفع بما قدم من تربية صالحة ، وأسلف من توجيه سديد.
 
روى البيهقي وغيره عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( يبعث العالم والعابد فيقال للعابد : ادخل الجنة ، ويقال للعالم : أثبت حتى تشفع للناس بما أحسنت أدبهم ) .
 
وقد بلغ الإسلام في إجلاله لحملة العلم أن هدد على إضاعتهم بما هو بعيد الأثر في النفس يصل إلى أغوارها فيرهبها من هذه الإضاعة المتوعد عليها بالتبرؤ من ذويها وأن تبرؤ النبي صلى الله عليه وسلم يؤذن بالنقمة المنصبة والمقت والطرد، فعن عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( ليس من أمتي من لم يجل كبيرنا ويرحم صغيرنا ويعرف لعالمنا حقه ) رواه الإمام أحمد بسند حسن والطبراني والحاكم إلا أنه رواه بلفظ ( ليس منا ) .
 
بل قد جعل الإسلام الاستخفاف بالعالم أمارة على أن في القلب نفاقاً مستكناً واعوجاجاً واضحاً بهذه الأثر الدال عليه .
 
روى الطبراني في جامعه الكبير عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( ثلاثة لا يستخف بهم إلا منافق، ذو الشيبة في الإسلام ، وذو العلم ، وإمام مقسط ) .
 
وبعد : فإن أستاذنا أطال الله أيامه في عافية ، جدير به الإكرام ، ولائق به الاحترام إذ هو في علمه الجم الغزير ليس مجرد جامع لشتات المسائل ومستقص لها ، وملم بها فحسب في غير ملكة استبصاراً ومتانة تحقيق وعقلية علية لا تكون في أخص الخاصة من أهل العلم دون عامتهم ، كلا : أنه آخذ من هذا كله بحظ وافر ونصيب كبير .
 
العقلية العلمية هي الأصل في النضوج العلمي وهي نتيجة عاملين بل ثلاثة عوامل : أولها : التكوين الإلهي . والله تعالى رفع بعض الناس فوق بعض درجات ، مالا وجمالاً وقوة في الأجسام وفي العقول .
 
ثانيها : الايغال في العلم والجد في تحصيله دأباً متواصلاً ، وعملاً دائماً ، وسعياً حثيثاً متلاحقاً كي تجتمع الثروة العلمية وتكون الملكة التحقيقية التي بها يقع التمييز بين المسائل قبولاً ورداً ، ومقاربة ومباعدة وموافقة ، ومفارقة ، وتركيزاً للأصول، وتمييزاً بين الفروع ، وإلحاقاً لها بأصولها التي تفرعت عنها ، ونظماً لكل في سلك أشباهه ونظائره .
 
ليس من الفضل الكبير أن يكون المرء وعاء علم غزير المعرفة ، ولكنه إلى جانب هذا ضيق الأفق مغلق الفكر تختلط الأمور في ذهنه الذي ليس له من الحصافة ما يقوى به على تنظيمها .
 
وثالث العوامل : تقوى الله التي تورث القلب نوراً هو الفرقان الذي تحدث عنه القرآن الكريم بقوله الله تبارك وتعالى : { يا أيها الذين آمنوا أن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً ويكفر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم والله ذوي الفضل العظيم } . ويرحم الله الإمام مالك بن أنس حيث يقول :
 
ليس العلم بكثرة المسائل ، العلم نور يقذفه الله في قلب من يشاء من عباده . وسماحة شيخنا المحتفى به قد اجتمعت فيه هذه العوامل الثلاثة فهو ذو ذكاء نادر، منحدر إليه من آبائه العلماء ذوي المحتد الكريم ، والمعدن الطيب العليم .
 
وهو جادٌ في العلم منذ بدايته إلى نهايته ، وقد أخبرني وأنا في مبدأ طلبي للعلم حاثاً ومرغباً أنه شغف في بدايته بالعلم فكان يدأب على المطالعة ليلاً فيفرط في السهر إلى أن تقوم أمه أو جدته إلى المصباح فتطفئه إشفاقاً عليه لينام فينال الراحة إجباراً . وأما تقواه لله ربه فأمر مشهود يبرهن عليه صيامه وقيامه وتلاوته وأذكاره، وقد تلقى الشأن عن أهله ، وسلك طريق المجاهدة والتصفية فهو روحاني عميق وعالم دقيق، ذاق لذة التحقيق، وعرف نشوة أهل الطريق ، وما لم يكن العالم كذلك فهو في جفاف وصلف، تفوح منه ريح الكبرياء والتعظم على الخلق ويكون النفع به جد ضئيل: وقد جاءت الأحاديث النبوية الشريفة تنهانا أن نكون من جبابر العلماء .
 
وسماحة أستاذنا على ما فيه من ملكة علمية ؛ متواضع لطيف وقد قال لي من زمن بعيد : أنا لا أترك مذاكرة أهل حرفتي من الفقهاء فيما أسأل عنه تحرياً للصواب في الإفتاء وليقل الناس في ما شاؤوا ، ويعني بالناس من لا بصر له بالمسائل الفقهية العويصة المتشابهة والمتفارقة، ولاسيما فقه السادة الحنفية المستبحر ، والذي شأن فقهائه أن يتشاوروا بينهم فيما يعرض من واقعات ويجد من نوازل، ومهما كان العالم عاقلاً وتقيا شاور زملاءه العلماء ومتى استكبر وأبي ، أبو الصواب أن يكون حليفة وارتطم في الخطأ مرة بعد أخرى غير معذور وغير موثوق بعلمه ولا بعلقه .
 
وكان جزاه الله تعالى عن الإسلام خيراً يحرص على أن ينمي في ملكة التحقيق ويقول لي : لا ينال لقب المحقق والمدقق مطلق محصل للعلم .
 
وكان أيضاً يحب لي من عهد بعيد أن أشاركه في البحث عن أجوبة الأسئلة التي تتجه إليه كمفت للديار الحموية، وأين مقامي من مقامه ؟؟ وشتان ما بين القليل والكثير، والصغير والكبير، لكنه الإخلاص وقد أملى عليه أن يمرنني على أن أكون في العلم عملياً لا نظرياً فحسب .
 
ومن شغفه بالتحقيق أن يختار لدرسه الخاص من الكتاب ما فيه مجال للبحث الذي تنال به العقول العلمية نهمتها وحظها ولذتها، أنه مثلا يدرس تفسير الإمام البيضاوي الذي لا يقوى على توضيحه بحق إلا أقوياء العلماء المشاركون في عدة فنون، والذين يسبرون غور العبارات العلمية فحصاً عن مخبآت معانيها غير قانعين بالسطحيات وما استتر وراء الألفاظ استتاراً قريباً ، لكنه أدام الله توفيقه لا يعتدي في بحثه الدقيق حدود الله علماً منه أن للعقل البشري مداه المحدود ، فهو فيما يقتضي التسليم والتفويض من النصوص الدينية كالمتشابهات مفوض حقائق معانيها إلى الله تعالى، منزه جناب الرب الكريم عن أن يشبه شيئاً أو يشبهه شيء ، ويعجبه جداً ما ذهب إليه سلف الأمة من صحابة وتابعين وتابعيهم إذ لم يقتحموا لجج التأويل مطلقاً، وكان يوجهني من مبدأ طلبي للعلم إلى هذا المذهب ويقول لي : إنما يسلك التأويل من يتلاعب به الشيطان ويخاف عليه سوء العقيدة، وقد عرفت أن هذا الذي قاله هو المعتبر عند العلماء أسلم وأحكم وأعلم، وشيخنا في هذا متأس بأمثال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى ورضي عنه ، وقد قال فيه ابن الجوزي البغدادي الحنبلي من أعيان المائة السادسة الهجرية .
 
ومذهبه أن لا يشبه ربه ويتبع في التسليم من قد مضى قبل وقد أنشدنا شيخنا المحتفى به غير مرة قول القائل ينزه الله تعالى عن أن تدركه العقول وينعي على الفلاسفة تعمقهم فيما اتلفوا به أنفسهم :
 
تاه الأنام بسكرهم=فلذاك صاح القوم عربد
تا الله لا موسى الكليم=ولا المسيح ولا محمد
كلا ولا النفس البسيطة=لا ولا العقل المجـرد
علموا ولا جبريل وهـو=إلى مكان القدس يصعد
من كنه ذاتك غير أنك=أو حدي الذات سرمد
فليخسأ الحكماء عن=حرم له الأملاك سجد
من أنت يا رسطو ومن=أفلاط قبلك يا مبلد
ومن ابن سينا حين=هذب ما اتيت به وشيد
ما انتموا إلا الفراش=رأى السراج وقد توقد
فدنا فأحرق نفسه=ولو اهتدى رشدا لأبعد
 
وبعد فإن أبرز صفة في سماحة أستاذنا الجليل حبه للتعليم الذي شغله عن التأليف ، وله فيه لذة خاصة وقد أنشأ مدارس عدة قبل أن تكون للدولة مدارسها الكثيرة إنه يعني بالأطفال عملاً كما يعني بهم علماً ، فتجديد العقيدة وتسليمها من الدخل، وتحسين السلوك، والتمرين على العبادة، والاهتمام بالنظافة، كل هذا مع العلم الصحيح موجود في مدارسه تمدها جمعية أعمال البر الإسلامية التي أنشأها منذ أكثر من أربعين عاماً على أساس محكم وحساب دقيق لا تستطيع التهم أن تنفذ سورة الأملس المتين ، يعاونه في ذلك رجال أمناء لهم في عمل البر رأي جميل .
 
ومن بعد نظر سماحته ومعرفته بزمانه أن سلك بها مسلك البعد عن السياسة فسلمت رغم ما تعاقب من دول وتوالي من حكم ، وما تزال حتى الآن حية مثمرة دارة بالنفع فائضة بالخير عاملة بالبر .
 
ومن حبه للتعليم : أنه رغم تقدمه في العمر لا يفتأ يجلس كل ليلة بعد الغروب في جامع نور الدين الشهيد رحمه الله وتبارك يعلم الناس القرآن الكريم تجويداً وحسن أداء، حتى أنه في السفر الشرعي الذي تتغير به بعض الأحكام من عزيمة إلى رخصة كقصر الصلاة الرباعية والإفطار في رمضان . إنه فيه دائب على التعليم ما وجد إليه سبيلاً .
 
وإليكم هذا المثال الطريف من حوادثه حفظه الله : كنت في دمشق من نحو عامين فدخلت جامع السنجقدار للصلاة ، وانصرفت إلى المتوضأ وانصرف ولدي محمود إلى المصلى الداخلي، وكان شيخنا هناك – فقال للطفل – ولا يعلم أنه ولدي – هات مصحفا واقرأ علي وأنا أسمع فجئت إليهما والمصحف الشريف في حجر الطفل يقرأ منه ، والشيخ يستمع ويصحح له قراءته ، فكان منظراً ساراً بحق ، وزاد من فرح سماحته علمه بعد أن الجالس إليه ولدي. وفي الحديث الشريف : ( أن لله ملائكة يسوقون الأهل إلى الأهل ) .
 
وأستاذنا وفي ودود ومن وفائه : أنه لا يزال يذكر بالخير والثناء خدمة خدمها أبي إياه رحمه الله تعالى في حجة حجاها منذ أكثر من خمسين عاماً .
 
وهو ذو تقشف في العيش ، وله ولع خاص بجمع الطلبة والفقراء في حجرته بالمسجد وتقديم الطعام لهم من صنع يده ، يطبخ ويغسل الآنية ويأكل معهم ، وأشهد أني رأيته مرة بعد أن صلى العشاء الآخرة وخلا المسجد من الناس غيره وغيري، فدفع فقير صدقة مستمنح كان ثالثنا في المسجد ، ثم اضطجع الشيخ يقول بلهجة الخاشع الباكي إلى ربه : ( لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ) . ويرددها في تضرع وابتهال كان هذا من نحو ثلاثين سنة . هذا التقشف في العيش أصل أصيل يعتمده الطلبة الشرعيون في مبادئ حياتهم العلمية كما يعتمده أهل السلوك في إرادتهم أوائل سلوكهم ، وشيخنا حفظه الله تعالى يأخذ الطالب بما يأخذ به الشيوخ مريديهم فيريده متقشفاً في عيشه ، وكان يقول لنا : متى كان الطالب منصرفاً إلى الرفاه في عيشه لا يجيء منه شيء .
 
ويحرص سماحته على أن يلحق الطالب الشرعي خصوصاً بقافلة الصالحين أهل السير إلى الله تعالى وكم مرة قال لي : لا تزول رعونات النفس إلا بالسلوك على يد مرشد مهذب ، لكنه حفظه الله تعالى وبارك عليه من السعة بحيث يتحمل نزق الطالب في بدايته قبل أن تأخذ الأمور مراكزها الصحيحة من ذهنه .
 
رآني مرة وقد اعترتني حيرة في بعض ما يختلف فيه الناظرون الشرعيون ولكل وجهته ومشربه ، بحسب ما يرى رآني أطلب الحق في غير هوى ولا تحيز، لكن موانع علمية قامت تصدني عن السير مع أهل السلوك بحسب تصوراتي الضيقة وقتئذ، فالتفت الأستاذ إلى شيخ قديم كان إلى جانبه قائلاً له : إن هذا سيصل إلى الحق إن شاء الله تعالى لأنه مخلص في تعرفه وطلبه ، فكان هذا القول تبشيراً من سماحته وصدق فراسته بما أوقفني الله عليه بعد من الحقائق على يد أهل الذوق والمعرفة بالله سبحانه فله جل وعلا شكري بما من به ومنح ، ولأستاذي أيضاً ثنائي الجميل بما نظر وبشر .
 
ومن شأن شيخنا رعاه الله أنه يريد من طالب العلم أن يكون علي الهمة ، وثاباً إلى المعالي، واحد الاتجاه، يريد الله بطلبه غير مائل في خبيئة نفسه إلى الدنيا وزخرفها. أذكر أنه دخل علينا حجرة الدرس بالمدرسة الشرعية منذ ثلاث وثلاثين سنة ونحن طلبة صغار ، فسأل طالب منا عم يقصد من العلم ؟ فقال : الوظيفة والمعيشة . تفنيد، ثم كانت منه بيانات دينية رفيعة ترفع الهمة ، وتوحد القصد ، وتعرف صحيح النية، لئلا يكون تلفت فيها ولا تفرق قلب ، بل امتلاء بحب الإسلام والحرص عليه .
 
ومن صفاته النادرة أنه عامل للخير العام ، وذو أمل واسع في تحصيله ، لا يقعده عن العمل له قلة مادة ولا كبر سن ، وقد تحقق على يده من هذا ما كان يظنه بعض الناس خيالاً من الأخيلة. مازال يلهج بإيواء العجزة في دار ينعمون بها ويهنئون ويخلصون من شدائد الحياة التي تلح عليهم في بؤسهم أقول مازال يلهج بها ويعمل لها حتى كانت كما نعلم كاملة مريحة وله فيها اليد الأولى .
 
وما فتئ يتحدث ببناء دار للافتاء تتفق وكرامة هذا المنصب في هذا العصر الذي تعقل فيه المظاهر ، وتحترم حتى بنيت ، وعما قريب تكمل وتتم إن شاء الله تعالى.
وقد قال لي من قريب : إنكم ستبقون بها من بعدي : وإننا معشر الشرعيين نسأل الله طول البقاء في عافية وخير وإصلاح .
 
فلسماحته على كثير من طلبة العلم يد بيضاء مشكورة ، ونحن ممتنون من لطفه وإحسانه ومعرفه الكبير الذي لا ينكره إلا المحجوبون بالمعاصرة عن شهود مناقب معاصريهم ونعوذ بالله سبحانه أن نكون منهم ، وأن الاعتراف بالجميل جميل ، والله تعالى يتولى حسن جزائه عنا .
 
هذا ولا يفوتني قبل أن أغادر هذا المكان أن أشكر للقائمين على هذا الحفل احتفاءهم بسماحة أستاذنا الكبير في علمه وسنه وعمله الصالح .
 
والذي هو دعوة جده العلامة البر التقي الشيخ نعسان الوردي فقد أخبرني أستاذي أنه دعا له بأن يجعله الله ممن طال عمره وحسن عمله .
أيها المحتفون بشيخنا : لقد كرمتم العلم بتكريمه ، ورفعتم من قدر الإسلام المتمثل في علمائه ، أن هذا التكريم عام في خصوصيته ، أصاب حظاً منه أصحاب العلاقة الدينية الإسلامية وما أكثرهم في الوجود ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.