حرب غزة يوميات ومشاهدات.. مجزرة مدرسة التابعين

استيقظت غزة صبيحة السبت الخامس من صفر 1446 (10/8/2024) على صباح دامٍ مروِّع أَنْسى الناسَ صباحاتِ الأشهر العشرةِ الماضية. أغْفَيت عند الإشراق إغفاءة سريعة أفزعتني منها رسالةٌ من أخ حبيب مختومةٌ بالدم، فقمت فزعا مُحَوقلا مُحَسبلا.

يا الله.. أي صباح هذا! وأي فجيعة، وأي نكبة، وأي مصيبة!

مسجد في قلب (مدرسة التابعين الشرعية) في حي الدرج قلبِ مدينة غزة، أَوى الناس إليه وإليها فرارا من الموت والقتل والنار، نعم.. فرارا من الموت، لكن الموت في غزة يلحق الناس في مخادعهم ومشافيهم ومساجدهم وكل مكان يأوون إليه.

ومدرسة التابعين من خيرة مدارس قطاع غزة، يدرِّس فيها خيرة الأساتذة، ويلتحق بها خيرة الطلاب، أُسست يوم أسست على التقوى والإيمان والقرآن، وتخرج منها آلاف الحفاظ والحافظات لكتاب الله تعالى.

لا يجتمع الناس للصلاة في المساجد في شمال غزة من أول أشهر الحرب. وهذا المسجد يَبيت الناس فيه ويُقيمون ويصلون الصلوات الخمس، وقد سكنت قلوبهم إلى أن إخوان القردة لا يمكن أن يبلغ إجرامُهم هذا المبلغ، لكن الإجرام هنا لا سقف له ولا حد ولا قاع.

أقيمت الصلاة وشرع الإمام في تكبيرة الإحرام وقراءة الفاتحة وما تيسر من القرآن، وخلْفه الراكعون الساجدون الأوَّابون، فأمطرتهم الطائرات بآلاف الأطنان من الحمم والنيران وهم صافُّون مسبحون بين يدي ربهم جل وعلا.

لو رأيتَ أشلاء المصلين ودماءهم وأحشاءهم لرأيت أمرا فظيعا مهولا يُنسيك أبشع ما رأته عيناك وتراه من قبلُ ومن بعدُ.

تكومت الدماء والأشلاء والحجارة والمصاحف، وركِب بعضها بعضا، ودخل بعضها في بعض في مشهد لم ير الناس مثله من قبل.

ولقد رأيتم كيف جُمعت الأشلاء في الأكياس كيفما اتَّفَق، ورُكِّبت فيها الجثث تركيبا، ولُفِّقت تلفيقا؛ رأس من هنا، ويد من هناك، ورِجل وبطن وأحشاء تُلملَم من ساحة الموت، وتُجمع من مسلخة الجحيم.

يا الله.. كنت أقول في نفسي: لا يمكن أن يمر بي أبشعُ من مجزرة المستشفى الأهلى، فجاءت مجزرة جباليا، ثم جاءت بعدها مجازر يرقِّق ويهوِّن بعضها بعضا، حتى نُكبنا في (الـمَواصي)، ثم كانت مجزرة مدرسة التابعين التي فاقت كلَّ وصف، وتجاوزت كل حد، وضاق عن التعبير عنها كلُّ لسان.

وكنت -ولا زلت- أقول في نفسي أيضا: متى يمكن أن ينتفض هذا العالم الظالم على هذه المجازر والمذابح والمسالخ التي تُرتكب على مرأى عينيه؟!

ما هو الحد الذي ينبغي أن يصل إليه إجرام يهود لتقوم هذه الأنظمة بشيء (بأي شيء) من واجب النصرة الذي توجبه -قبل أصول الإيمان- خلائق العُروبة، وسلائق الشهامة والمروءة؟! 

لقد استرسل هنا القلم وأفلت الزمام وكتبت كلاما ثم مسحته لعلمي بأن القوم لا ينفع معهم الكلام، ولو كان شيء يوقظهم لأيقظتهم الدماء من أول يوم، لكنْ إلى الله المشتكى، لا إلى سَلمى ولا إلى أَجا، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

قضى في هذه المجزرة خالي الحبيب الأستاذ العابد الزاهد أبو حمزة محمد بن عبد الله أبو راس تقبله الله في الشهداء، وهو مقيم في المسجد من أول الحرب، يقضي ساعات النهار مع أهله ثم يبيت في المسجد قائما داعيا تاليا للقرآن حتى لقي الله في أحب البقاع إليه، فالله يرحمه ويتولاه.

وقضى فيها أخي الحبيب الأديب الحييُّ أبو أنس محمد أبو سِعْدة (مدير أوقاف غزة)، كان شُعلة من نشاط، يَزينه الأدب، ويجلِّله الوقار، ولا تفارق البسمة محيَّاه، فالله يتقبله في الشهداء والصالحين.

 وأنتم يا أهل غزة ثبتكم الله، نصركم الله، آواكم الله، آجركم الله.

لئن هُنتم على الناس فلا والله ما هنتم على الله، ولئن خذلكم القريب والبعيد فإن لكم من الله نصرا وعونا وفرجا قريبا عاجلا.

ومن العقوبات المعجلة في الدنيا قبل الآخرة: عقوبة البغي والخِذلان، وقد بلغا منتهاهما في حرب غزة، وسنن الله لا تتخلف. وإنا لنرجو عقوبة البغاة الخاذلين كما نرجو النصر والفرج من رب العالمين، وإن ذلك لآت ولو بعد حين.

اللهم رضِّنا بقضائك، وبارك لنا في أقدارك، واملأ قلوبنا إيمانا ويقينا، وسكينة وتسليما، والحمد لله رب العالمين.

بسام بن خليل الصفدي

الأحد 6 صفر 1446

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين