ما أقبح الظلمة بعد النور

ما أقبح الظُّلمة بعد النُّور

رابطة خطباء الشام

 

مقدمة:

ها هو شهر رمضان قد مضى وانقضى، وها هو شهر الإحسان والتّقى قد ذهب و ارتحل إلى ربّه، تاركًا أحبابه الّذين استقبلوه بفارغ الصّبر والشّوق، فلقد كان أعزّ صاحبٍ، وأغلى حبيبٍ، وإنّ ما يصبّر أهل الإيمان على فقد رمضان، رجاء تجدّد اللّقاء المؤمّل به، وقبول ما قدّموا مِن أفعالٍ وأقوالٍ، وعِلْمَهم أنّ الله جعل لكلّ أجلٍ كتابًا، ولكلّ بدايةٍ نهايةً، وعلى الإنسان أن يعتبر بمرور الأيّام، وانقضاء الشّهور والأعوام، فما ذلك إلّا مِن الأعمار، ولن يجد العبد بعد موته إلّا ما سعى وقدّم في دنياه، والنّاس في هذا أصنافٌ وأنواعٌ، حيث أحسن في رمضان أناسٌ، وأساء فيه آخرون {فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة: 200-201].

ولقد مضت -في رمضان- الصّلاة والصّيام، والزّكاة والقيام، والصّدقة وقراءة القرآن، وأنواع البرّ والطّاعات، ومَن قبِل الله منه كان ذا حظٍّ عظيمٍ {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27].

ولقد انفضّ سوق رمضان، وربح فيه مَن ربح، وخسر فيه مَن خسر، فمن كان محسنًا فليحمد الله أن وفّقه لذلك، وكلّ ما قام به العبد مِن طاعاتٍ إنّما كان بتوفيق الله ورحمته {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 7].

{وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} [فاطر: 32].

وليسأل ربّه القبول والثّبات، ومَن كان مسيئًا فليتب إلى الله، فالعذر قبل الموت مقبولٌ، وإنّ المؤمن إذ يودّع رمضان لن يودّع الطّاعة والعبادة، بل يوثّق العهد مع ربّه، ويقوّي الصّلة مع خالقه، ليبقى نبع الخير متدفّقًا، وأمّا أولئك الّذين ينقضون العهد والميثاق، وينكصون على أعقابهم؛ فبئس القوم، فلا قيمة لطاعةٍ تُؤدَّى دون أن يكون لها أثرٌ مِن تقوىً أو خشية.

قال ابن القيّم: "فبين العمل والقلب مسافةٌ، في تلك المسافة قطّاعٌ تمنع وصول العمل إلى القلب، فيكون الرّجل كثير العمل، وما وصل منه إلى قلبه محبّةٌ، ولا خوفٌ ولا رجاءٌ، ولا نورٌ يفرّق به بين أولياء الله وأعدائه، فلو وصل أثر الأعمال إلى قلبه لاستنار وأشرق، ورأى الحقّ والباطل". [ 1 ]

فكان مِن الواجب على العبد تحصيل الثّمرة مِن كل عبادةٍ وطاعةٍ، والثّبات عليها حتّى يأتيه اليقين.

 

1- الثَّبات حتَّى الممات

إنّ المؤمن مأمورٌ بطاعة ربّه وامتثال أمره، بصورةٍ دائمةٍ غير منقطعةٍ، وإنّ الصّلاح والتّقوى، والاستقامة على البرّ والهدى، يجب أن يتحلّى به المسلم في كلّ زمانٍ ومكانٍ، لا فرق في ذلك بين رمضان وغيره {وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102].

وقد أمر الله رسوله ومَن آمن معه بالاستقامة على الطّاعات، وعدم الانحراف عن الحقّ إلى الضّلال {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا} [هود: 112].

وإنّ دِين الإسلام ليمتاز عن غيره بأنّه دينٌ دائم الاتّصال بالعبد، لا ينفكّ عنه بمجرّد ذهاب شعيرةٍ أدّاها، بل يظلّ ملازمًا للمسلم في كلّ الأوقات، فالاستمرار في العمل الصّالح لا يقف عند حدّ الفرائض، بل يتعدّى ذلك إلى النّوافل أيضًا، حيث استُحِبَّ للعبد أن يستمرّ فيها ولا يقطعها، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهَا قَالَتْ: "كَانَ أَحَبُّ الأعمال إِلَى نبي اللَّهِ: الَّذِي يَدُومُ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ". [ 2 ]

بل حثّ على قضاء النّافلة عند فواتها، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (مَنْ نَامَ عَنْ حِزْبِهِ -أَوْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ- فَقَرَأَهُ مَا بَيْنَ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَصَلَاةِ الظُّهْرِ كُتِبَ لَهُ كَأَنَّمَا قَرَأَهُ مِنَ اللَّيْلِ). [ 3 ]

وإنّ الاستمرار على الطّاعة سببٌ لتهذيب النّفس، وحجزها عن المنكرات {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45].

والصّلاة دائمةٌ مستمرّةٌ، فمَن حافظ عليها وما يجب لها نهته عن كلّ منكرٍ، وإنّ لزوم الاستغفار أكبر معينٍ للعبد على الثّبات، حيث يعطيه القوّة والنّشاط، والعبد يحتاج -للاستمرار في العمل- إلى قوّةٍ قلبيّةٍ إيمانيّةٍ وإلى قوّةٍ جسديّةٍ، وفي الاستغفار تحصيل ذلك، فقد قال الله حكايةً عن هودٍ أنّه قال لقومه: {وَ يَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ} [هود: 52].

والواجب للعبد اختيار المناسب مِن الأعمال الصّالحة، والإكثار ممّا يرى أنّه أكثر استمرارًا له، حتّى لا يؤدّي ذلك إلى قطع العمل بالكليّة، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسًولُ الله وَعِنْدِي امْرَأةٌ، فَقال: (مَنْ هَذِهِ؟) فَقُلْتُ: امْرأةٌ، لا تَنَامُ، تُصَلِّي، قال: (عَلَيْكُمْ مِنْ الْعَمَلِ مَا تًطِيقُونَ، فَوَالله لا يَمَلُّ اللهُ حَتَّى تَمَلُّوا، وَكَانَ أحَبَّ الدِّينِ إلَيْهِ مَا دَاوَمَ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ). [ 4 ]

وكانت عائشة رضي الله عنها تصلّي الضّحى ثماني ركعات، وتقول: "لو نُشر لي أبواي ما تركتها". [ 5 ]

وأخبار السّلف في أهمّيّة الاستمرار على العمل الصّالح وأسبابه وآثاره كثيرةٌ، وفي ذلك عبرةٌ لمَن أراد أن يذّكّر، وإيقاظٌ لمَن غفل، وتنبيهٌ لمَن سها. 

 

2- ما أقبح الإعراض بعد الإقبال!

إنّ المؤمن حقًّا دائم الاقبال على مولاه، ملازمًا ذِكره ونجواه، مستحضرًا وقوفه بين يديه يوم أن يلقاه، فتراه محافظًا على الفرائض والقُربات، ومتجنّبًا للمعاصي والمحرّمات، فلا يعرض بعد إقبالٍ، ولا يعصي بعد طاعةٍ، ولا ينقض بعد العهد والميثاق، فهو يعلم أنّ العبادة يجب أن تكون مستمرّةً حتّى الممات {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 99].

ولقد أقبلنا -ولله الحمد والمنّة- على الله في رمضان بقلوبنا، واجتهدنا في أعمالنا، ولازمْنَا مساجدنا، ولم تفارقْنا مصاحفنا، ورأينا صلاحًا في سلوكنا، ووجدنا لذّةً عظيمةً لم نجد مثلها في مُتَع الدّنيا كلّها، أترانا بعد رمضان نفارق ذلك ونبتعد عنه، ونحن نعلم أنّ ربّنا يحبّ منّا أن نتقرّب إليه؟! ونحرمُ أنفسنا لذّة عبادته وطاعته والانكسار بين يديه، ونحن الفقراء إليه، وهو الغنيّ عنّا!

قال إبراهيم بن أدهم لأبي يوسفٍ الغسوليّ: "يا أبا يوسف! لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه مِن النّعيم والسّرور، لجالَدونا بالسّيوف أيّام الحياة على ما نحن فيه، مِن لذيذ العيش وقلّة التّعب، فقلت له: يا أبا إسحاق! طلبَ القوم الرّاحة والنّعيم فأخطؤوا الطّريق المستقيم". [ 6 ]

وإنّ المتأمّل لِحَالِ بعض النّاس اليوم، لَيأخذه العَجَبُ إن قارَنَ الحال بحال السّلف قبلنا، حيث إنّ بعضنا ليُعْجَب بقليل العمل، وتزهو نفسه، ولا يخاف مِن الرّدّ وعدم القبول! بينما كان سلفنا -مع كثرة عملهم وشدّة اجتهادهم- يخافون مِن عدم القبول، فحَقَّ فيهم وفي أمثالهم وصف الله لهم {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون: 60-61].

وإنّ رضا العبد بطاعته واغتراره بها دليلٌ على حُسن ظنّه بنفسه، وجهله بحقوق العبوديّة، وعدم علمه بما يستحقّه الربّ، وبما يليق أن يعامَل به.

قال ابن القيّم: "الرّضا بالطّاعة مِن رعونات الّنفس وحماقتها، وأرباب العزائم والبصائر أشدّ ما يكونون استغفارًا عُقيب الطّاعات، لشهودهم تقصيرهم فيها، وترك القيام لله بها كما يليق بجلاله وكبريائه". [ 7 ]

فليحذر العبد الاغترار بما قدّم في رمضان مِن أعمالٍ، ولا يترك العمل بعده، ولْيعلم أنّ الطّاعة المتَقبّلَة تقود إلى طاعةٍ أخرى وتحجز عن معصيةٍ، ولقد حذّرنا الله -في كتابه- مِن الانتكاس على الأعقاب، وهدْمِ بناء الأعمال الصّالحة بعد تشييدها، وضرب لنا مثلًا في امرأةٍ حمقاء كانت تغزل في مكّة يومها كلّه، فإذا ما أمست نقضت ما غزلته، وذهب تعبها سدىً {وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا} [النّحل: 92].

فهل بعد هذا الجهل والحُمق مِن شيءٍ؟! وهل يمكن أن يصدر هذا مِن عاقلٍ؟! 

 

خاتِمةٌ:

جعل الله للدّنيا بدايةً ونهايةً، وإنّ الإنسان مفارقها لا محالةً، مهما طال عمره فيها، والمغبوط -حقًّا- مَن طال عمره وحسن عمله، والمغبون مَن طال عمره وساء عمله، فحريٌّ بنا أن نستقلّ ما قدّمنا، وندعو بقبول عملنا، ونستغفر على ما فرّطنا، ونواظب على طاعاتنا، فرضها وسننها، فإنّ مِن تمام العهد مع الله: المحافظة على فرائضه بعد رمضان، وعدم التّفريط فيها، وإتباعها بالنّوافل الّتي تكمّل نقصها، وتُرقّع خُروقها، وذلك مِن علامات القبول، وما صام المؤمن وقام لله إلّا وهو يرجو القبول، فليأخذ بأسبابه، ولا ينكص على عقبيه، وإنّ ممّا حثّنا عليه نبيّنا صلى الله عليه وسلم: صيام ستّة أيّام مِن شوّال بعد رمضان، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه أَنَّهُ حَدَّثَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (مَنْ صَامَ رَمَضَانَ، ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ، كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ). [ 8 ]

وعَنْ ثَوْبَانَ -مَوْلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (جَعَلَ اللهُ الْحَسَنَةَ بِعَشْرٍ، فَشَهْرٌ بِعَشَرَةِ أَشْهُرٍ، وَسِتَّةُ أَيَّامٍ بَعْدَ الْفِطْرِ تَمَامُ السَّنَةِ). [ 9 ]

فلنحرص على صيامها مجتمعةً أو متفرّقةً، في أوّل الشّهر أو وسطه أو آخره، فأيًّا ما فعل المسلم مِن ذلك أجزأه، واستحقّ الأجر المرتّب عليها إن قبل الله منه، ومَن كان عليه قضاء أيّامٍ مِن رمضان فليبادر بقضائها، ويبرئ ذمّته مِن فريضة الله، والفرائض مقدّمةٌ على النّوافل، ولنحسن ظنّنا بربّنا في قبول عملنا، ولنكن بين الخوف والرّجاء، نرجو ربّنا، ونخاف تقصيرنا.

 

هوامش:

1 - مدارج السّالكين: 1/349

2 - موطّأ مالك: 577

3 - سنن أبي داود: 1313

4 - مسند أحمد: 16309

5 - زاد المعاد: 1/343

6 - حلية الأولياء: 7/371

7 - مدارج السّالكين: 1/175

8 - صحيح مسلم: 1164

9 - سنن النّسائيّ: 2874

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين