ماذا لو ضُيّعت الأمانة ووُسّد الأمر إلى غير أهله

عناصر المادة

1- مِن معاني الأمانة2- ماذا لو ضُيّعت الأمانة، ووُسّد الأمر إلى غير أهله؟!

مقدمة:

قال نافعٌ: "خرجت مع عبد الله بن عمر ب في بعض نواحي المدينة ومعه أصحابٌ له، فوضعوا سفرةً، فمرّ بهم راعٍ، فقال له عبد الله: هلمّ يا راعي؛ فأصبْ من هذه السفرة، فقال: إنّي صائمٌ، فقال له عبد الله: في مثل هذا اليوم الشّديد حرّه وأنت في هذه الشعاب في آثار هذه الغنم، وبين الجبال ترعى هذه الغنم، وأنت صائمٌ؟!

فقال الرّاعي: أبادر أيّامي الخالية، فعجب ابن عمر، وقال: هل لك أن تبيعنا شاةً من غنمك؛ نجتزرها ونطعمك من لحمها ما تفطر عليه، ونعطيك ثمنها؟

قال: إنّها ليست لي، إنّها لمولاي، قال: فما عسيت أن يقول لك مولاك إن قلت أكلها الذئب؟

فمضى الراعي وهو رافعٌ إصبعه إلى السّماء وهو يقول: فأين الله؟! قال: فلم يزل ابن عمر يقول: قال الرّاعي: فأين الله؟ فما عدا أن قدِم المدينة، فبعث إلى سيّده، فاشترى منه الرّاعي والغنم، فأعتق الرّاعي ووهب له الغنم، رحمه الله". [ 1 ]

إنّها الأمانة، ذلك الخُلُق العظيم؛ الّذي تُحفظ به الحقوق، وتُؤدّى الواجبات، وتُصان الدّماء والأموال والأعراض، وبه تُعمر الدّيار والأوطان، ويُقام الدِّين، ويُعبَد الله في أرضه، وبه ينال العبد رضا ربه، وثناء النّاس له من حوله، لا تستغني عنه الأفراد ولا الدّول ولا الشّعوب والمجتمعات.

1- مِن معاني الأمانة

الأمانة هي القيام بالواجبات، وأداء الحقوق، وإتقان الأعمال، وحفظ الودائع، وهي شاملةٌ لجميع مجالات حياة الفرد، تجاه نفسه ودينه وأسرته ووظيفته ومجتمعه ووطنه، لا فرق فيها بين حاكمٍ ومحكومٍ، أو صانعٍ وتاجرٍ، أو عاملٍ وزارعٍ، ولا بين غنيٍّ وفقير، أو رجلٍ وامرأةٍ.

وإن الأمانة خُلقٌ داخلٌ في كلّ مظاهر الحياة، فالشّعب أمانةٌ في أيدي الزّعماء والرّؤساء والملوك، ولا ينبغي خيانته وبيعه مهما كان الثّمن، والدِّين أمانةٌ في أيدي العلماء، والعدل أمانةٌ في أيدي القضاة، والصدق أمانةٌ في أيدي الشّهود، والمرضى أمانةٌ في أيدي الأطباء، والمصالِح أمانةٌ في أيدي المستخدمين، والتّلاميذ أمانةٌ في أيدي المعلّمين، والأولاد أمانةٌ في أيدي والديهم، والأوطان أمانةٌ في أعناق الجميع.

قال الله تعالى: {فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ} [البقرة: 283].

وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النّساء: 58].

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (أَدِّ الأَمَانَةَ إِلَى مَنْ ائْتَمَنَكَ، وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ). [ 2 ]

وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: مَا خَطَبَنَا نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَّا قَالَ: (لَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ، وَلَا دِينَ لِمَنْ لَا عَهْدَ لَهُ). [ 3 ]

لذلك حرص الإسلام على وجودها في كلّ عملٍ؛ في العبادات والمعاملات، وفي البيع والشّراء، وفي الوظائف والأعمال وتولّي المناصب، وفي التّعامل الأسريّ وتربية الأولاد، وحتّى في معاملة غير المسلم لا بدّ أن يتخلّق المسلم بالأمانة.

وقد وصف الله أهل الإيمان؛ فقال: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} [المؤمنون: 8].

قال الإمام القرطبيّ: "وَالْأَمَانَةُ: تَعُمُّ جَمِيعَ وَصَائِفِ الدِّينِ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْأَقْوَالِ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ". [ 4 ]

ولعظيم أمر الأمانة، كان ضياعها علامةً من علامات قيام السّاعة، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (إِذَا ضُيِّعَتِ الأَمَانَةُ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ). [ 5 ]

2- ماذا لو ضُيّعت الأمانة، ووُسّد الأمر إلى غير أهله؟!

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: بَيْنَمَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي مَجْلِسٍ يُحَدِّثُ القَوْمَ، جَاءَهُ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: مَتَى السَّاعَةُ؟ فَمَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُحَدِّثُ، فَقَالَ بَعْضُ القَوْمِ: سَمِعَ مَا قَالَ فَكَرِهَ مَا قَالَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ لَمْ يَسْمَعْ، حَتَّى إِذَا قَضَى حَدِيثَهُ قَالَ: (أَيْنَ -أُرَاهُ- السَّائِلُ عَنِ السَّاعَةِ) قَالَ: هَا أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: (فَإِذَا ضُيِّعَتِ الأَمَانَةُ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ)، قَالَ: كَيْفَ إِضَاعَتُهَا؟ قَالَ: (إِذَا وُسِّدَ الأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ). [ 6 ]

وإنما تزداد خيانة الأمانة قبحاً إذا كانت من أهل الحلّ والعقد، وأهل الإمارة والرّئاسة والزّعامة، بتمكين رقاب العباد لأشخاصٍ ليسوا أهل كفاءةٍ ولا خبرةٍ ولا درايةٍ ولا صلاحٍ، مع وجود الأكفاء الأتقياء المشفقين على عباد الله، وكلّنا يعلم أنّ البشر تتفاوت قدراتهم في سياسة الأمور وإدارتها، فلسنا على سويّةٍ واحدةٍ في الكفاءة والخبرة، وهذا ما عبر عنه النّبيّ صلى الله عليه وسلم بقوله: (إِنَّمَا النَّاسُ كَالإِبِلِ المِائَةِ، لاَ تَكَادُ تَجِدُ فِيهَا رَاحِلَةً). [ 7 ]

فإذا وُجد الشّخص صاحب القدرة والكفاءة؛ واختير غيره من الجهلة أو الخونة أو الضّعفاء، كان ذلك دليلاً على الخيانة في تارك الكفء إلى غيره، وكم مِن الشّرّ الذّي سيُلحقه بمجتمعه، إشباعاً لرغباتٍ شرّيرةٍ فيه، وأهواءٍ فاسدةٍ، وجلباً لمصالح شخصيّةٍ.

فأمانة المسؤول أمانةٌ عظيمةٌ، لاختيار الأصلح لكلّ عملٍ، دون مراعاةٍ لأحدٍ، ولا محاباةٍ لفردٍ من الأفراد، ودون تقديرٍ لشعور قريبٍ أو صديقٍ، فلن يجادل عن المفرّط أحدٌ يوم القيامة، بل سيقاسي ألوان العذاب بسبب تفريطه في الأمانة وتضييعه لها، وسيكون جلساؤه خصماءَه، وشهداء عليه.

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (مَنِ اسْتَعْمَلَ رَجُلًا مِنْ عِصَابَةٍ وَفِي تِلْكَ الْعِصَابَةِ مَنْ هُوَ أَرْضَى لِلَّهِ مِنْهُ فَقَدْ خَانَ اللَّهَ وخانَ رَسُولَهُ وخانَ الْمُؤْمِنِينَ). [ 8 ]

فلا ينبغي أن يوسد أمرٌ من أمور العامّة لغير الكفء، القادر، التّقيّ، صاحب الشّفقة.

خاتمةٌ:

عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه، قَالَ: "الْقَتْلُ فِي سَبِيلِ اللهِ يُكَفِّرُ الذُّنُوبَ كُلَّهَا إِلَّا الْأَمَانَةَ". [ 9 ]

مع عظيم أجر الشّهادة ورِفعة مقام الشّهيد عند الله تعالى، لكنّها لا تكفّر ذنب خيانة الأمانة، هذا إن كانت خيانةً لشخصٍ واحدٍ، فكيف إن كانت الخيانة لجماعةٍ أو أمّةٍ؛ بتولية الأشرار وترك الأخيار؟!

ما أحوج مجتمعاتنا إلى: التّاجر الأمين، والعامل الأمين، والطبيب صاحب الأمانة، والبائع الّذي يتعامل بالأمانة، والموظّف والمعلّم الأمين، والضّابط والصّيدليّ والمهندس الأمين...!

ولنحذر من إقحام أنفسنا في مسؤولياتٍ لسنا قادرين على أدائها بحقها.

ولنستحضر عند إقدامنا على أيّ مسؤوليةٍ ذلك الموقف الّذي وقفه أبو ذرٍّ رضي الله عنه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَلَا تَسْتَعْمِلُنِي؟ قَالَ: فَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى مَنْكِبِي، ثُمَّ قَالَ: (يَا أَبَا ذَرٍّ، إِنَّكَ ضَعِيفٌ، وَإِنَّهَا أَمَانَةُ، وَإِنَّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِزْيٌ وَنَدَامَةٌ، إِلَّا مَنْ أَخَذَهَا بِحَقِّهَا، وَأَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ فِيهَا). [ 10 ]

فولاية وتولية أمور النّاس أمانةٌ، يجب أن تؤدّى حقّها، وتُوسد لأهلها، ويُراقب الله فيها.

1 - صفة الصّفوة، 2/188

2 - سنن التّرمذيّ: 1264

3 - مسند الإمام أحمد: 12383

4 - فتح القدير للشّوكانيّ، 4/308

5 - صحيح البخاريّ: 6496

6 - صحيح البخاريّ: 49

7 - صحيح البخاريّ: 6498

8 - المستدرك على الصّحيحين للحاكم: 7023

9 - شعب الإيمان للبيهقيّ: 4885

10 - صحيح مسلم: 1825

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين