مؤتمر كليرمونت وانطلاق الحملة الصليبية الأولى

مؤتمر كليرمونت وانطلاق الحملة الصليبية الأولى

عبد المعين الطلفاح

 

قام بابا الفاتيكان بعقد مؤتمر في فرنسا، عرف بمؤتمر «كليرمونت» سنة (1095م) دعا فيه أوروبا إلى إنقاذ قبر المسيح، والأرض المقدسة من ذلكم الجنس اللعين الذي طغى فيها، وصور لهم بشاعة ما يلقاه النصارى على أيدي السلاجقة المسلمين؛ فألهبت كلماتُه تلك حماسةَ أوربا، وأثارت حِنقها على المسلمين، وتعالت لذلك أوروبا على كل خلافاتها، ونزاعاتها، وأحقادها، واجتمعت على حرب المسلمين، فجهزت الحملة الصليبيَّة الأولى على بلاد المسلمين، وهي أول عمل تعاوني لأوروبا الغربية، الخارجة من عصور الظلام!

ولقد كان القساوسة والرهبان والمتطوعون -على رأسهم: بطرس الناسك- يطوفون القُرى والبلدات، يحضُّون النصارى على الجهاد؛ لتخليص قبر المسيح في القدس، واستخدموا في سبيل ذلك كلَّ أساليب الترغيب والترهيب، ومنها توزيع صكوك الغفران على المشاركين في الحملة، تلك الصكوك التي أصبحت فيما بعد سُبَّةً وعارًا على الكنيسة، وأخذوا يبثون روح الطمأنينة في نفوس المقاتلين، قائلين لهم: مَن كان له مالٌ، أو عقارٌ؛ فليتركه للكنيسة تحفظه له، ثم ترَدُّه إليه بعد رجوعه من الحرب المقدسة، كما استخدموا كلَّ أساليب التهديد ضد كلِّ من يرفض الذهاب للحرب المقدسة، فهدَّدوه باللعنة، والطرد من الكنيسة.

العجيب في كل ذلك غيابُ المسلمين عمَّا كان يُدبَّرُ لهم في أوروبا، فلم يكن أحدٌ من المسلمين يعلم بما كان يجري في أوروبا، ولم تذكر كتب التاريخ أن أحدًا من المسلمين تنبه لذلك، فالسلاجقة كانوا غارقين في حروبهم الداخلية على الملك، والخليفة العباسي كان أضعف من أن ينتبه لذلك، فلم يكن لديه جهاز استخبارات يكشف له تحركات أعداء أمته، كما هو حال الدول، لذا وصلت الحملة الصليبيَّة الأولى إلى شواطئ القسطنطينية، دون أن يعلم بها أحدٌ!

تحرَّكت الأساطيل الأوروبية من البرتغال، وإيطاليا، وفرنسا، وإنجلترا، وألمانيا، وغيرها من دول أوربا، وكانت القسطنطينية مكان اجتماعهم، ثم وصلتْ الحملة الصليبيَّة إلى شواطئ آسيا الصغرى (تركيا)، وكان البيزنطيون قد اشترطوا على الصليبيين –لتقديم الدعم لهم- ألا يدخلوا القسطنطينية، ووصل عدد الصليبيين-مع مَن انضمَّ إليهم من نصارى بيزنطة ونصارى الشرق- إلى نحو مليون مقاتل، وقد قيل في عددهم: "كانت الجيوش الصليبية عبارة عن شعب كامل يسير"(1)، وسواء كانت الروايات التي بالغت في ذكر أعداد الصليبيين صحيحة أم لا؛ فإن بعض المؤرخين يؤكدون أن جيوش المسلمين كانت أقوى من جيش الصليبيين؛ لأن أكثرهم كان من العبيد والأقنان، الذين لا يحسنون فنون القتال والحرب، ومع ذلك غلب ذلك الجيش جيوش المسلمين، يقول ابن تغري (ت: 874 هـ): "والعجب أنّ الفرنج لـمَّا خرجوا إلى المسلمين كانوا في غاية الضعف من الجوع، وعدم القوت؛ حتّى إنهم أكلوا الميتة، وكانت عساكر الإسلام في غاية القوّة والكثرة، فكسروا المسلمين وفرّقوا جموعهم"(2).

بعد وصول الصليبيون تنبَّه لهم السلاجقة، لكنَّ السلاجقة –كما ذكرت- كانوا قد أُصيبوا بمرض المسلمين، مرض التنازع والاختلاف، والانقسام على السلطة، ومن ثم السقوط؛ لذا انهزموا أمام الصليبيين في أول حرب دارت بينهم، وسقطت فيها عاصمتهم نيقية عام: (490 هـ).

اجتاحت الحملة الصليبيَّة بلادَ الشام متوجِّهة إلى القدس، وارتكب الصليبيون في طريقهم إلى القدس أبشع المجازر والخيانات، ولم يجدوا في طريقهم مقاومةً تذكر؛ نظرًا للتمزق السياسي، والخراب الاقتصادي الذي عمَّ البلاد، فكانوا يُعطون أهل المدينة الأمان؛ ليدخلوها سِلْمًا، وبعد أن يدخلوها؛ ما يلبثون يغدرون بأهلها، وينزلون بهم أبشع المجازر، وقد قتلوا في مَعرَّة النُّعمان(3) وما حولها -كما قدَّر ابن العديم- أكثر من عشرين ألفًا، بين رجل وامرأة وصبي، في حين أن ابن الأثير قدر عدد القتلى بمائة ألف مسلم، وقع ذلك بعد أن أعطى الصليبيون أهل المعرة الأمان.

كانت كُلُّ بلدة من بلدات الشام، وكُلُّ مدينة من مدنه إذا ما غشيها الصليبيون؛ تستنصر بجارتها المسلمة، فلا تجيبها جارتُها، كانت كلُّ مدينة تقول: نحن دولة لنا سيادتنا، ولنا حدودنا، ولا دخل لنا بهذه الحرب، وكان كُلُّ أمير يُؤمِّل من اعتزله هذه الحرب؛ أن يبقيه الصليبيون على عرشه، ولا يتعرضون له، بل إن بعضهم كان يُراسل الصليبيين يهادنهم، ويمدهم بالمؤن، ويرسل إليهم الهدايا، ويسمح لهم بدخول أسواق مدينته، يشترون منها ما يحتاجون إليه من سلاح ومتاع، وكل ذلك بثمن بخس؛ طمعًا في أن يُبقيه الصليبيون على عرشه، ولكن ذلك لم ينفعهم في شيء.

ولقد كان المسلمون من أهل تلك البلاد يرسلون إلى الخليفة العباسي لينجدهم، ويعلن النفير العام في الأُمَّة، ولكن هيهات، لقد تقطعت بين المسلمين روابط الإسلام والأخوة، فلم يستجب لهم الخليفة، ولا غيره من المسلمين، ولقد كان الباطنيون من الإسماعيلية والنُّصيْرية عونًا للصليبيين في حملتهم تلك، كان هؤلاء -والحملة في طريقها إلى القدس- يطلعون الصليبيين على أماكن المجاهدين؛ ليقتلوهم، وعلى أماكن الآبار، والينابيع التي كان يطمرها المسلمون إذا ما حُوصروا، مع أن هؤلاء الباطنيون كانون يعيشون آمنين في بلاد الإسلام، وتحت رايته!

 

هوامش:

(1) المطوي، تاريخ الحروب الصليبية في المشرق والمغرب، مصدر سابق، ص: 49.

(2) ابن تغري، يوسف بن تغري، النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة

الناشر: وزارة الثقافة والإرشاد القومي، دار الكتب، مصر  (5/ 148)

(3) مدينة بين حلب وإدلب في شمال سوريا.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين