مآثر الأيام

1- لماذا دف نعليك في الجنة يسير؟:

أخرج البخاري في صحيحه من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِبِلاَلٍ عِنْدَ صَلاَةِ الْفَجْرِ: "يَا بِلاَلُ حَدِّثْنِي بِأَرْجَى عَمَلٍ عَمِلْتَهُ فِي الإِسْلاَمِ؛ فَإِنِّي سَمِعْتُ دَفَّ نَعْلَيْكَ بَيْنَ يَدَيَّ فِي الْجَنَّةِ؟ قَالَ: مَا عَمِلْتُ عَمَلًا أَرْجَى عِنْدِي أَنِّي لَمْ أَتَطَهَّرْ طَهُورًا فِي سَاعَةِ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ إِلاَّ صَلَّيْتُ بِذَلِكَ الطُّهُورِ مَا كُتِبَ لِي أَنْ أُصَلِّيَ"[ صحيح البخاري، رقم الحديث: (1149)، (1/252).]

رسالة الحديث:

عرفتْ ثنايا الخلوات بلالًا رضي الله عنه، فكان له سهمٌ وافرٌ في عبادة السر، فكلما حلَّ عليه الطُّهُور صلى ما شاء الله أن يصلي، ولمَّا قَضَت قواعدُ سُنَّتِنَا بأنَّ السر لابد وأن ينقل، رأى النبيُّ صلى الله عليه وسلم بلالًا رضي الله عنه في منامه في الجنة، وسمع صوت مشيه بنعليه فيها، فسأله ليُكشَف السر، وفي هذا عِظَمُ المجازاة على ما يُسِرُّهُ العبد من عمله، خاصة وأن الصلاة أجلُّ عملٍ، ومأثرة السرائر تفوق العلانية فضلًا، فتراكمت الفضائل لذوي المكارم والفضل، والله ذو الفضل العظيم.

2- كَرِهَ الظهور فأكرمه الله بإمامة مذهب:

سَعَى الإمام أحمد في إخفاء نفسه سعيًا حثيثًا، ومنع كُلَّ تلميذ أن يكتب عنه شيئًا، فأضحى إمام أهل السنة والجماعة لإخلاصه العَطِر، وقَيَّضَ الله له بعد موته من يحفظ علمه، فجمع تلميذه الخلاَّل تَرِكَتَهُ العلميَّة خلال ستين عامًا، وأمَّ الحلقاتِ الفقهيةَ بدمشق يُدَرِّسُهَا، حتى غدا مذهبًا فقهيًا رابعًا!

إنها السريرة الصادقة يا إخواني، عَبَّقَتْهَا نفحةُ إخلاصٍ، وَصَلَ عبر مئاتِ السنين شَذَاهَا، وهتف ابن القيم بروائع ذهبيةٍ باديةٍ على مُحَيَّاهَا، فقال:

" إنه إمام أهل السنة على الإطلاق أحمد بن حنبل، الذي ملأ الأرض علمًا وحديثًا وسنةً، حتى إن أئمة الحديث والسنة بعده هم أتباعه إلى يوم القيامة، وكان رضي الله عنه شديدَ الكراهةِ لتصنيف الكتب، ويحب تجريد الحديث، ويكرهُ أن يُكتَبَ كلامه، ويشتد عليه جدًا، فعلم الله حسن نيته وقصده، فكتب من كلامه وفتواه أكثر من ثلاثين سِفْرًا، ومنَّ الله سبحانه علينا بأكثرها، فلم يَفُتْنا منها إلا القليل، وجمع الخَلاَّلُ نصوصه في الجامع الكبير، فبلغت نحو عشرين سِفْرًًا أو أكثر، وَرُوِيَت فتاواه ومسائله، وَحُدِّثَ بها قرنًا بعد قرنٍ " ابن القيم / إعلام الموقعين (1/28).

3- يا قوم أصلحوا سرائركم:

موعدنا الآن مع مؤمنٍ فريد، صاحب نهجٍ رشيد، أَقْسَمَ بِاللهِ أَنَّهُ لو قَدِرَ أن يصلي تطوعًا ولا يراه ملكاه لَفَعَل، قال أخوه عبد الله: إني لم أره يتطوع عشرين سنة، إلا ساعة الجمعة، فمن يكون ذلك الإمام؟

إنه محمد بن أسلم الطوسي.. الوليُّ العابد.. الراكع الساجد..

خرج ولده يبكي يومًا، فقالوا له: ما سِرُّ البكاء؟ قال: رأيت أبي يبكى صباح مساء.. فلما خرج أبوه وجدوه قد اكتحل، وغسل وجهه؛ ليخفي دمعاتِ النهار والسحَر، ولكن يا إخواني كيف يُخْفِي الليل بدراً ساطعاً وكوكبًا منيراً؟!

لمَّا توفاه الله تعالى هرع جماعةٌ من أصحاب الحديث إلى الإمام أحمد بن نصر، وقالوا: ينبغي أن نقيم اجتماعًا لنعزي بعضنا بموت هذا الرجل الذي لم نَعرف من عهد عمر بن عبد العزيز رجلًا مثلَه! يا أبا عبد الله لقد صلى عليه مليون ومائة ألف من الناس، يقول صالحهم وطالحهم: لم نعرف لهذا الرجل في البشرية اليوم نظيرًا، فعندها أشعل الإمام أحمد بن نصر بنار وعظه القلوبَ الفاترة، وقال:

" يا قوم أصلحوا سرائركم بينكم وبين الله.. ألا ترون رجلاً دخل بيته بمدينة طوس، فأصلح سِرَّهُ بينه وبين الله، ثم نقله الله إلينا، فأصلح الله على يديه ألفَ ألفٍ ومائةَ ألفٍ من الناس! أبو نعيم الأصبهاني / حلية الأولياء (9/240).

حالة استثنائية

من الناس فئةٌ يَدْعُون ربهم ألَّا يعرفهم أحدٌ، فتصل إلينا أخبارهم دون أسمائهم؛ لأن الله يحبهم، وقد استجاب دعاءهم، والمثال يوضح المقال:

قال عبد الله بن المبارك: قدمتُ مكة؛ فإذا الناس قد قَحَطُوا من المطر، وهم يستسقون ربهم في المسجد الحرام، وبينما أنا في الناس إِذْ أقبل غلام أسود، وصار إلى موضع خفي، فسمعته يقول: " إلهي منعتنا غيث السماء؛ لتؤدب الخليقة؛ لكثرة الذنوب، ومساوي الأعمال، فأسألك يا حليمًا ذا أناة، يا من لا يعرف عبادُه منه إلا الجميل، اسقِهِم الساعةَ الساعة "!

وإذا بالسماء تستوي بالغمام، ويقبل المطر من كل مكان، وجلس مكانه يُسَبِّحُ وأنا أبكي، فلما قام تَبِعْتُه حتى عرفت موضع سكنه، فلما كان الغد صليت الفجر، وخرجت أريد شراءه، فعرض سَيِّدُهُ غلمانه عليَّ، فلما بَصُرَتْ عيناي الغلامَ المراد قلت: هذا من أريد، فقال الرجل: هذا ليس إلى بيعه سبيل، هو بركة الدار، وقد أحبه قلبي، فكيف لو علمتَ أنه لا ينام من الليل الطويل إلا القدر القليل، فكلمته بكلام فقال: إن ممشاك عندي كبير.. خذه بما شئت!

قال ابن المبارك: فاشتريته، وفي الطريق قال لي: يا مولاي أنا ضعيف البدن، ولا أطيق الخدمة، وفي غيري لك سعة، فقلت له: سأشتري لك منزلًا، وأزوجك وأخدمك بنفسي، فبكى، ثم استحلفني بالله لأخبرنه بِسِرِّ الشراء، فقلت له: بإجابة دعوتك عشية أمسِ، وإني أحسبك صالحًا..

فتوقف مباشرة، وقال: بقيت عليه ركعات من البارحة، وأرى أن أصليها الآن، فقال ابن المبارك: هذا منزل الفضيل.. صبرك حتى نأتيه، فقال: ههنا أحبُّ إلي، وأَمْرُ الله لا يُؤَخَّر، فصلى، ثم الْتَفَتَ إليَّ وقال: يا أبا عبد الرحمن: هل من حاجة؟! فقلت: وَلِمَ؟ قال: إني أريد الانصراف إلى الآخرة، فقلت لا تفعل! دعني أفرحْ بك، فقال لي:

إنما طابت الدنيا لي لما كانت المعاملة بيني وبين الله، فلما اطلعت عليها أنت، فسيعرفها غيرك، فلا حاجة لي في ذلك، ثم خَرَّ ساجدًا، وجعل يقول: إلهي.. اقبضني إليك هذه الساعة، فدنوت منه، فإذا هو قد مات، وانحشر عليه أهل مكة، ووالله ما ذكرتُه قطُّ إلا طال حزني، وصغرت الدنيا في عيني! ابن الجوزي / صفة الصفوة (2/269).

يا اللهُ.. يا الله.. إن لله عبادًا سِرُّهُم أجود من جهرهم، والله يهدي بِنُورِهم، ذِكْرُهم دائم، ومجدهم قائم، أخلصوا لله السريرة، فنقل الله إلينا فِعَالَهم الجليلة، أحوالهم تُعرَفُ، وما ضَرَّهم أن أسماءهم مغمورة، فاحفظْ أُخَيَّ أخبارهم، وَسِرْ على نهجهم، {أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِه} [الأنعام 90]!

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين