22) أسس النبي صلى الله عليه وآله وسلم فَنِّيَّة القابلية للتعلُّم، فكان يُحَدِّث الناس عن أمر الآخرة، فإذا رآهم قد فَتَروا أخذ بهم في بعض أحاديث الدنيا، حتى إذا نشطوا أخذ بهم في حديث الآخرة، فلاءم صلى الله عليه وآله وسلم بين النفس والعقل، وقَصَدَ إلى تبديد الكف عن التعلُّم في النفوس، وحفظ الدرس من أن يضيع، ونَوَّع مادة الحفظ لمن يريد، وأعان العقول على التذكُّر، وثَبَّت المُراد في العقل والقلب، فحقق فيهم منهجية التربية مع التعليم وحسن الاتِّباع (1)
23) أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه بالاجتهاد فاجتهدوا بين يديه، وانتدب علي بن أبي طالب، ومصعب بن عُمَيْر، وعمرو بن العاص للنظر في نزاعات، وأرسل علي بن أبي طالب قاضياً في اليمن، وعَيَّن معاذ ابن جبل معلماً ووالياً على اليمن (2)
24) تتابع التنبيه النبوي في ذُرْوَة التأسيس والبناء ليُخَوِّف الأمة من السقوط الحضاري إنْ هي استبدلت بسنن الله، أو عرَّضت نفسها لقساوة القلوب، أو اتِّباع الضَّوال، أو المُغالاة والانتحال، أو التأويل البارد الناقل عن فهم الوحي بشروطه التي خطها بذاته.
فرسم صلى الله عليه وآله وسلم مناهج العافية باتِّباع معارف الوحي ومقاصده وهداياته، ومواعظ القصص القرآني ورقائقه، ودلالات أحاديث الفتن وأشراط الساعة ودواعي الزوال.
وأوْجَد في العقل المسلم استبصاراً بالسنن الإلهية العاملة في صيانة الحياة، وصنع وعياً بالنَّسَق الصالح لطبيعة الإنسان، حتى إذا تعرضت الأمة لإصابةٍ ما بسبب تَرْكها واجباً، أو إتيانها منهياً عنه، أو تغافُلها عن شروط العافية، كان عليها أنْ تصحح موقعها بالإقلاع عن المعاصي، وإتيان الواجب، وتسخير السُّنَن المقابلة للترك، والأخذ بما تَخَلَّت عن شرط.
ولا يزال النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعلم الأمة أفضل الأعمال؛ فينهى صلى الله عليه وآله وسلم عن سَرْد الصوم، والوِصال فيه، وعن قيام أكثر الليل إلا في العشر الأواخر من رمضان، وعن العَزَبَة (ترك الزواج) للقادر، وعن تَرْك أكل اللحم، ويأمر صلى الله عليه وآله وسلم بتناول الطيبات، ويُوَجِّه إلى المُباحات بلا إسراف.
فبان من لمحات هذه التطبيقات النبوية في الوقاية والصيانة والمعالجة أن مَنْ لم يَصُن نفسه في تَلَقِّي الإسلام على منهاج القرآن الكريم والسُّنَّة النبوية الصحيحة يندم ويفوته خير كثير.
وصار العابد بلا معرفة بكثير من هذه الوقايات والصيانات والمعالجات معذوراً مأجوراً، والمتجاوز لها على علمٍ بها مفضولاً مغروراً، والمبالغ في تَلَقِّيها من غير عمل منقوصاً مخسوراً.
من ذلك أن يونس بن عبد الأعلى 264هـ بالغ في الارتفاع برُتَب بعض الرجال، فكان مما قال " لو جُمِعَت أمة لوسعهم عقل محمد ابن إدريس الشافعي 204هـ " (3)
وتجاوز بعض أهل خُراسان حتى بلغ بأحمد بن حنبل 241هـ منزلة الملائكة، ومنهم مَنْ غلبه هواه، فقال " نظرة عندنا من أحمد ابن حنبل 241هـ تعدل عبادة سنة " (4)
وبلغ الأمر بمحمد بن مُصْعَب 228هـ حداً جعله يقول " إن سَوْطاً ضُرِبه أحمد بن حنبل 241هـ في الله أكبر من أيام بِشْر بن الحارث 227هـ " (5)
ووصل البعض بِعدد مَنْ حضروا مجلس أبي الفرج بن الجَوْزي 597هـ إلى مائة ألف، وأنَّ مَنْ أقْرَأهم أبو منصور الخياط 499هـ من العميان فقط بلغوا سبعين ألفاً؛ يريد أصحاب كل إمام، أو عالم أن يرتفعوا به فوق الناس (6)
وهكذا لم تسلم تلك المبالغات وأشباهها من تعدٍ وشطحٍ، جاء الهدي النبوي له ولأمثاله بجُمَلٍ من الوقاية والصيانة والعلاج، اقتضت أمانة الدرس الوقوف عليها، والتوقُّف عند حدودها، واتِّباعها في كل عصر، خصوصاً هذا العصر.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
(1) الُمنْتَقَى من كتاب مكارم الأخلاق أبو بكر الخَرائطي 157
(2) المسند أحمد بن حنبل 19361
(3-6) سير أعلام النبلاء الذهبي 3/85، 10/15، 11/201وبعدها، 12/89، 19/223، 21/370
الحلقة السابقة هـــنا
التعليقات
يرجى تسجيل الدخول