لماذا نزل أردوغان إلى حلبة الميدان؟!




روى لي جاري أيدن بيه وهو سياسي تركي مخضرم أن رجل سياسة من طراز فريد لم يكونوا قد سمعوا به من قبل زارهم في مقر حزبهم الوطن الأم بداية التسعينات من القرن الماضي على هامش ترشحه لانتخابات البلدية. وبعد أن انتهى رجب طيب أردوغان من حديثه نظر بعضنا إلى بعض نظرة إعجاب مشوب بالدهشة. يومها قال كبيرنا: "هذه هي المرة الأولى التي نسمع فيها لسياسي يتكلم بلسان حال الشعب! لئن سُمِح لهذا بمتابعة مشواره السياسي فسيكتسح الساحة السياسية دون منازع، وسيحكم تركيا لسنوات طويلة، لكن هل سيمكنونه أو يتركوه وشأنه؟ لا أظن ذلك!".
لم يكن الطيب أردوغان رجل سياسة من النوع الاعتيادي النمطي الكلاسيكي حتى يكون رئيس جمهورية نمطيا يسير على طريقة أسلافه متبعا خطاهم مقلدا عاداتهم. بل إن الساسة الغربيين، أمريكانا وأوروبيين باتوا يضيقون ذرعا من صراحته ووضوح عباراته التي تجاوزت اللغة الدبلوماسية بزعمهم، خصوصا وهو يفضح نفاقهم السياسي ومواقفهم الرمادية المتذبذة تجاه قضايا إنسانية حساسة واضحة للعيان، كالمأساة السورية والقضية الفلسطينية وما يجري في مصر من محاكم هزلية.
هناك صنفان (مؤدلجان) من الناس فهموه خطأ أو أنهم لم يفهموه أصلا عندما بدأ المرحلة الثانية من مشواره السياسي. فقد أخطأ العلمانيون قراءة مرامه عندما قال "إني تغيرت، إني خلعت قميص (المللي جوروش/ رؤية أستاذه نجم الدين أربكان). فظنوا أنه خلع عباءة التدين وحب الوطن ولبس ثوب العلمانية داخلا بيت الطاعة استرضاء للقوى الحاكمة (الستاتيكو) ليصبح جزءا منها كما فعل كثيرون قبله. وكذلك فعل الإسلاميون - أو كثير منهم - حينما حسبوا أنه جاء ليحقق الحلم الذي راود الكثيرين بتطبيق أحكام الشريعة القصاصية - وليس المقاصدية - بالطريقة الشعاراتية التي ألفوها على مدار السنين.
لكن رسالته من القاهرة كانت صريحة واضحة جلية بعيدة عن التقية والتورية التي لم يكن لها مكان في حياة أردوغان، عندما قال مخاطبا الإخوان المسلمين الذين كانوا يحكمون مصر آنئذ: "عليكم بالعلمانية فهي الشكل الأمثل للحكم". يومها سال مداد كثير فدبجت مقالات وملئت جرائد من أجل تبرير رسالة أردوغان، وتدويرها بالطريقة التي يفضلها الشارع العربي العاطفي المتدين الذي يميل للشعارات أكثر من الإنجازات! بينما كان أردوغان يوصي حكام مصر بأن يكونوا رجال دولة لا مشايخ طريقة ولا أفراد جماعة أيديولوجية.
عودا للسياسة الداخلية التركية التي دخلت منعطفا خطيرا حادا قبيل أيام قليلة تفصلنا عن استحقاق الانتخابات البرلمانية التي يصنفها كثير من المراقبين السياسيين بالتاريخية الفاصلة. حيث يحتدم النقاش حول سماح الدستور التركي الحالي لرئيس الجمهورية بالنزول للميدان، ومزاولة العمل السياسي النشط في ساحات الانتخاب.
أحزاب المعارضة ترفض ذلك رفضا قاطعا، وقد بادرت منذ الأيام الأولى إلى تقديم الشكاوى ضد رئيس الجمهورية أردوغان لدى مختلف المحاكم والمراجع القضائية، ابتداء من الهيئة العليا للانتخابات مرورا بالمحاكم الابتدائية المحلية وليس انتهاء عند المحكمة الدستورية العليا. فقد فاق عدد الشكاوى العشرات قوبل غالبيتها بقرار "عدم الصلاحية القضائية"، إذ لا يحق لتلك المحاكم النظر في القضايا التي تتعلق بمقام رئيس الدولة.
وبالرغم من كونه رئيسا للسلطة التنفيذية فإن الدستور الحالي ينص على الحيادية التامة لرئيس الجمهورية. لكن فراغا دستوريا نشأ بعد انتخاب السيد رجب طيب أردوغان رئيسا للجمهورية من طرف الشعب التركي مباشرة، وللمرة الأولى في تاريخ الجمهورية التركية، مما منحه صلاحيات سياسية - لا دستورية - وحمله مسؤولية أدبية منها الدفاع عن مصالح الذين انتخبوه. بينما كان رؤساء الجمهورية الذين سبقوه ينتخبون من قبل مجلس الأمة التركي.
من جهة أخرى لا بد من التسليم بحقيقة أن الغالبية العظمى من الشعب التركي وبعد ثلاثة عشر عاما من الحكم باتت تصوت لشخص رجب طيب أردوغان وليس لحزب العدالة والتنمية، معه أو ضده. وبناء على هذه الحقيقة - التي يدركها الجميع لكن لا أحد يستطيع البوح بها لاعتبارات سياسية - بنى الفرقاء السياسيون استراتيجياتهم الانتخابية، وتموضعهم السياسي. حيث جعلت جميع أحزاب المعارضة الهجوم على الرئيس أردوغان بشخصه – وحتى أفراد عائلته – الهدف الأول والأساس في حملتها الانتخابية. إذ لم تترك وسيلة ولم توفر مادة للهجوم عليه إلا واستخدمتها، حتى أضحى موضوع غطاء مراحيض القصر الرئاسي مادة إعلامية يستخدمونها لاستفزاز أردوغان وجره إلى موقع الدفاع عن النفس.
صحيح أن الانتخابات البرلمانية تجرى كل أربعة أعوام , لكن تأثيرها مع حالة الاستقطاب الحاد هذه المرة سيتعدى إلى عشرة أعوام، حيث هذه تقف تركيا على مفترق الطريق، إما أن يصوت الشعب التركي للاستمرار في النهج السابق ودوام النظام البرلماني، أو يختار الانعطاف نحو نظام سياسي جديد يصفه أردوغان بمصطلح "تركيا الجديدة" يعتمد الشكل الرئاسي نظام للحكم يقول عنه إنه سيؤسس لمرحلة الاستقرار السياسي والشفافية وتحقيق الفصل بين السلطات الثلاث، وسينهي مرحلة التشرذم والفرقة والبازارت السياسية وستقضي على تدخل مهندسي السياسة من القوى الداخلية والخارجية التي عبثت بمستقبل تركيا واستقرارها.
لا تزال المعركة الانتخابية حامية الوطيس بين فريقين. فريق يتحدث عن المستقبل الواعد متسلحا بانجازاته وما حققه من واقع ملموس يعيشه المواطن في حياته اليومية، وفريق يقدم الكثير من الوعود التي تدغدغ العواطف لكنها أشبه بحلم قد يتحقق وربما لا.
أما الحكم صاحب الكلمة الفصل فسيقول قراره النهائي الأخير يوم الأحد المقبل، إما مع أردوغان أو ضده!.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين