لذة المناجاة مع الله

لذة المناجاة مع الله

محمد محمد الأسطل

 

قال أحد العباد العارفين بالله: إنه لتكون لي حاجة؛ فأنصب قدمي داعيًا ربي إياها؛ فيفتح عليَّ من مناجاته، ومعرفته، والتذلل له، ما أحب أن يؤخر عني قضاؤها، وتدوم لي تلك الحال، فيكون ما نلت أكثر مما تمنيت!

تحدث الشيخ محمد المختار الشنقيطي عن هذه الساعة فقال: ما ألذَّ العبودية لله، ولقد ذهبت من الدنيا حلاوتها، وانقضت طلاوتها، وتغير الزمن، وكثرت الفتن، ولم يَبْقَ من الدنيا إلا الأنس بالله، ومناجاة الله، حين يقوم وليُّ اللهِ تَاركًا حِبَّهُ وزوجَه، ينصبُ قدميه بين يدي ربه، يناديه، ويناجيه، فما ألذها من ساعة؟ وما أعظمها من سعادة؟!

 فكيف لو علمت عظيم محبة الله لعبده إذا دعاه وسأله، وقد اقتنصتُ لك كلامًا ذهبيًا من روائع كلم ابن القيم قال فيه:

إن الله جواد له الجود كله، يحب أن يُسأل ويطلب منه، ويُرغَب إليه، فَخَلَقَ من يَسأله وألهمه سؤاله، وخلقَ له ما يسأله، فهو خالقُ السائل، وسؤاله، ومسئوله، وذلك لمحبته سؤال عباده له، وغضبه على من لم يسأل، مع أن السؤال يعود على سائله بالخير!

جاء فقيرٌ إلى بشرِ الحافي يطلب منه أن يدعو الله أن يُذهِبَ عنه الفقر، فقال له بِشر: إذا قال لك عيالُك: ليس عندنا دقيق ولا خُبز؛ فادع الله عزَّ وجلّ أنت في ذلك الوقت؛ فإن دعاءك أفضل من دعائي!

 

منحك النصرة:

من أبى مسألةَ العبد، وأدمن سؤالَ الرب، قَرَّبَهُ وَرَعَاه، ونَصَرَهُ وتولاه، بل جعل السماءَ فِي خِدمته، والأرضَ رَهْنَ إشارته، فَمَن وَجَدَ الله فَمَاذا فقد؟! ومن فَقَد اللهَ فَمَاذا وَجَد؟!

فهذا صلةُ بن أَشيَم يَعتَلِي فَرسه وينطلقُ مُجاهِدًا في سبيل الله في غزوة فَمَات فرسه، فتلفت يمينًا وشمالًا، ثم قال: اللهم لا تجعل لِمَخلوقٍ عليَّ مِنَّة؛ فإني أستحيي من سؤال غيرك! وعلم الله صدقه في سَرَّائه وضَرَّائه؛ فأحيا الله تعالى له فرسه، فَرَكِبَهُ، وأمضى ما كان من أمره، حتى إذا وصل أهله قال لغلامه: فك السرج؛ فإن الفرس عَارِّية!

فما نزع السرج إلا وهبط والفرس ميتًا!

وهذا ما أراد عمر رضي الله عنه غرسه في بنيان شخصية أبي عبيدة رضي الله عنه من خلال المشهد الآتي:

كتب أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه عام اليرموك إلى عمر رضي الله عنه يلتمسه مددًا يستنصر به على الكفار، وأن جُموعًا لا قِبَلَ لَهُم بها قد نزلت بِهِم، فلما وصل الكتابُ بَكَى الناسُ، وأشدهم بكاءً عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، فأشار على عمر رضي الله عنه بالخروج، لكن عمر رضي الله عنه كان يرى أن هذا لا يمكن، فَكَتبَ إلى أبي عبيدة رضي الله عنه رسالةً وجيزة قال له فيها: " إنَّهُ مهما ينزل بامرئ مسلمٍ من شدة، فيُنزلها بالله عزَّ وجلّ، يجعل الله له فرجًا ومَخْرجًا، فإذا جاءك كتابي هذا؛ فاستعن بالله وقاتلهم " !

فأنزل أبو عبيدة والذين معه مسألتهم بالله تعالى؛ فقاتلوهم وانتصروا!

كان ابن تيمية يبقى حتى الضحى في محرابه؛ يذكر الله ويدعوه، فسأله ابن القيم عن مبالغته في ذلك، فقال: هذه غَدوتِي، إن تركتها سَقَطَت قُوَّتِي! فكانت تأتيه قناطير الذهب والفضة ويردها على الفقراء، وما عنده إلا ثوب واحد!

أخي: حين تسلك الطرق فتجدها قد سُدَّت، وتطرق الأبواب فتجدها قد أُغلقت، وتطلب العون من أهل العون؛ فما ثَمَّ إلا عاجز أو جبان، فاعلم أنه إنما سَدَّ عليك الأبواب كلها؛ لِتَطرِقَ بابَه، وقطعَ عنك الحبالَ جميعها؛ لِتَعتَصِمَ بِحَبلِهِ، وأنه اشتاقَ إلى أن يَسمَعَ منكَ نَغمات هتاف: يا رب.. يا رب. [خالد أبو شادي / صفقات رابحة ص (48)]

ومن أبى سؤال العبد، وأدمن دعاءَ الرب؛ فتوفيقُه ظاهِرٌ باهر، ومن سأل الرب، واستعان بالعبد؛ فهذا إيمانُه منقوصٌ قاصر، أما من هَجَرَ سؤال ربه، وأدمن سؤال مخلوق مثله؛ فهذا مخذولٌ فاتر، وإن قَدَّمَهُ الناس فهو في الأواخر! فمن أي رتبةٍ أنت؟! أيُرضِيكَ ذُلُّ الطلب والمسألة؟! أَتَقْبَلُ ببابِ فقرٍ ومسكنة؟! أو كُلَّمَا أَعسرْتَ استدنت؟! وَكُلَّمَا اشتهيتَ اشتريت؟! لو أردتَّ كُلَّ مَغنَمٍ في دُنيَاك، فَهَل بَقِيَ للجنَّةِ فائدةٌ في أُخرَاك؟!

إذا كان بابُ الذُلِّ مِن جَانبِ الغِنَى ** سَمَوْتُ إلى العَلياءِ مِن جَانِبِ الفَقْر

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين