لحظات فارقة

لحظاتٌ فارقةٌ

كتبها الفقير إليه سبحانه: موفق شيخ إبراهيم

 

سبحان ربِّ الملكوت، ذي العزة والجبروت، إنه الحيُّ القيُّوم الذي لا يموت، وبعد:

فعندما يشاءُ الله أن يأمر الأرضَ أن لا تستقر، فالأرضُ أرضه، والعباد عباده، إن شاء عذّب، وإن شاء لطف، وهو اللطيف الرؤوف الرّحيم.

في ليلةٍ ساجيةٍ هادئةٍ وادعةٍ، وبعد أن ولجت الفراش، وكان من عادتي أن أختم أذكار النوم بقراءة آية الكرسي، وبقول "لا إله إلا الله"، رجاءَ أن أختم بها حياتي الفانية، ولكن في تلك الليلة أحسست إحساساً غريباً، وجاءني النداء الداخلي يلهج لهجاً ويلحُّ عليَّ إلحاحاً، أن أكرر كلمة التوحيد ثلاثاً، وكان ذلك، ودعوت الله أن يأخذني وهو عني راضٍ.

وفي تمام الساعة الرابعة وثمانية عشرة دقيقة قبل الفجر، بدأ البناء الذي أسكن في الطابق الخامس منه، يترنَّح يمنةً ويسرةً بقوة وبسرعة لا نظير لها، ، فقفزت إلى مكان آمنٍ نسبياً في الغرفة ذاتها، جالساً وبعيداً عن سقوط جسم ثقيل من أثاث الغرفة وزجاجها، وليس لديَّ تفكير البتَّة بشيء سوى التلفظ بالشهادة، واستمطار النجاة من الباري اللطيف الخبير، القائل في محكم سورة الشورى: {الله لطيف بعباده}، وجاءت المفردة على وزن "فعيل"، وهي صيغة مبالغة، بمعنى ألطاف ربنا ثرَّة ومتعددة وكبيرة، وجاء منطوق استجداء اللطف بعبارة موجزة مانعة كافية، "يا مغيث أغثنا". وسبحان صاحب الثناء الحسن، فغرفتيْ النوم في المنزل، هما اللتان فقط، قُدِّر لهما النجاة من المخاطر، وكانتا قريبتين جداً من الباب الرئيسي للبيت!.

خمسة وستون ثانية من الترنُّح، الذي يعجِّل الشعور برهبة الموقف إلى درجة انشلاع القلب، ومن لا يملك خلفية إيمانية بالقدر، لا أستغرب أن هذه الثواني، كافية أن تفصل الروح عن الجسد. بَيْدَ أنني أحسست أنها دقائق لمدى شدة الجزَع فيها، وكأن القيامة قامت، وليس الخبر كالعَيَان، وليست النائحة المستعارة كالثكلى الملذوعة!.

وما أن انتهت هذه الزلزلة، سارعت ومن يلوذ بي إلى تناول ما يقي من البرد من المعلق بجانب باب المنزل، ونزلنا سلم البناية، نغذُّ السير، وتصدُّعُ الجدران وسقوطُ بعضها الآخر بادٍ لنا، إلى أن وجدنا أنفسنا بين المئات الذين نزلوا بثياب النوم، إلى حديقة قريبة لنأخذ بالأسباب المادية مبتعدين عن الأبنية المحيطة، والتي علق في بعضها أناس يرفعون أصواتهم ينشدون المساعدة، ويجأرون إلى الباري سبحانه بالدعاء، تراكبت أطباق البلاء عليهم، طبقاً على طبق، ولم يتوانَ الشباب عن تقديم ما يلزم. ونجا من نجا، ولا نعلم شيئاً عن آخرين سواهم.

ساعات عصيبة، مبلَّلة بالدموع مختلطة بالنشيج.  عشناها تحت الرحى، وغيرنا أعظم من ذلك بأضعاف مضاعفة، قضيناها وسط المخاوف، متزامنةً مع البرد الشديد والمطر الغزير، ثم انتقلنا إلى مسجد الحيِّ، وهو طابق واحد دخلنا بَهوَهُ ومكثنا فيه بعض الوقت، حيث لاماء ولا كهرباء، بعد أن تدمَّرت البنية التحتية بشكلٍ كامل، فتيمَّمنا لصلاة الفجر، وصلينا، ثم خرجنا متجهين لاستطلاع حال بعض أقربائنا في الأحياء القريبة، وإذ بي أرى عشرات الأبنية والمجمعات السكنية قد سويت بالأرض، وأضحت خاويةً تتناوح فيها الرياح السافيات، وتخفق أبوابها خفقاً! وممن لقيت حينها أحد أصدقائي، وهو طبيب كان لديه مناوبة في مكان قريب من وطني الثاني المنكوب "أنطاكية"، فبادرته بالسلام ولاحظته مرتبكاً فأشار إلى بناية من عدة طوابق آلت إلى كومة من الحجارة، وقال لي: "زوجتي وبناتي الثلاثة، هنا تحت الأنقاض، ويا ليتني كنت معهم!"، فواسيته وذكَّرته ببعض القيم الإيمانية، التي إن تحكَّمت في شعاب القلب، وخالطت بشاشته تجعل من المستحيل ممكناً!.

هذا توصيف سريع للساعات الأولى التي عشتها، والتي أحسست فيها، أن عناية المولى تبارك في علاه، قد أحاطت بنا إحاطة السوار بالمعصم، وتذكرت حينها قول الشاعر:

يا نائم الليل مسروراً بأوله ** إن الحوادث قد يأتين أسحارا

وبقول الآخر:

وإذا العناية لاحظتك عيونُها ** نَمْ فالمخاوف كلهن أمان

الحمد لله سبحانه، أعطى فتفضَّل، وأنعم فأجزل، ومنح فأفاض.

ثم بدأت مأساة جديدة تلاحقني، تتلخص في أخبار جميع الذين فقدوا حياتهم، وهم بالألوف المؤلفة في تركيا وفي سوريا، سرعان ما اخترمتهم يدُ المنون، أكرمهم الباري بمقام الشهادة السامي, وأضحوا خبر وفاتهم يتناقله الأصحاب والخلان. عليهم شآبيب الرحمة وسحائب الرضوان. وإن صلابة الإيمان وصلادة العقيدة، كفيلتان أن تفيضان بالسكينة، على قلوب ذويهم ومحبيهم.

وختاماً ستبقى هذه الذكريات، تعصف بأرواحنا عصفاً، وتعتلج في جوانحنا ألماً، بات يفري أفئدتنا فرياً!. ولله في خلقه شؤون، وما نمتلكه من منظومة إيمانية، كفيلة بالمشيئة الربانية، على مواجهة الصعاب ومقارعة الخطوب.

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين