لا يأس من رحمة الله تعالى

 

روى التِّرمذيُّ عن أنسٍ رضي الله عنه قال: (سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: قال الله تعالى: يا ابنَ آدمَ إنَّك ما دعوتَني ورجوتَني غفرتُ لك على ما كان منكَ ولا أُبالي، يا ابنَ آدم لو بلغتْ ذنوبُك عَنان السماء، ثم استغفرتني غفرتُ لك، يا ابن آدم إنك لو أتيتني بقُراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة).

الألفاظ:

عنان السماء: بفتح العين هو السحاب، وهو ما عنَّ لك منها وظهر إذا رفعتَ رأسك.

قُراب الأرض: ما يقارب ملأها.

خطايا: جمع خطيئة وهي الذنب.

المعنى:

الرجاء مقامٌ من مَقَامات العاملين، وحالٌ من أحوال المؤمنين، وهو دواء لا يحتاج إليه إلا أحد رجلين: إما رجل غلبَ عليه اليأس فترك العبادة، وإما رجل غلب عليه الخوفُ فأسرف في المواظبة على العبادة حتى أضرَّ بنفسه وأهله وعياله، وهذان رجلان مائلان عن حدِّ الاعتدال، الأول إلى طرف التفريط والثاني إلى طرف الإفراط، فيحتاجان إلى علاج يَردُّهما إلى الاعتدال.

أما العاصي المغرور المتمني المغفرة مع ترك العبادة فأدوية الرجاء تنقلب سموماً مُهلكة بالنسبة له، ولا ينفعه إلا استعمال أدوية الخوف والأسباب المثيرة له في قلبه.

على أنَّ العمل على الرجاء في عفو الله تعالى أعلى مقاماً من العمل على الخوف من عقابه، وذلك لأنَّ أقرب العباد إلى الله تعالى أحبهم له، والحبُّ يقوى بالرجاء.

وهو ما قصد إليه هذا الحديث، والهدف الذي أراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يسوق إليه أمته حتى يثمر الإيمان في قلوبهم ثمرة من يحسن الظن بخالقه ويمتلئ قلبه بحبه والإقبال عليه طمعاً لا خوفاً، وعشقاً لا رهبة.

روى البخاري ومسلم عنه صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربِّه: (أنا عند ظنِّ عبدي بي فليظنَّ بي ما شاء).

روى الإمام مسلم: "أنَّ رجلاً كان يُداين الناس فيسامح الغني ويتجاوز عن المعسر، فلقي الله ولم يعمل خيراً قط، فقال الله عزَّ وجل: من أحق بذلك منا؟ فعفا عنه لحسن ظنه ورجائه أن يعفو عنه مع إفلاسه عن الطاعات". فعلينا أن نحسن الظن بعد الطاعة ونرجو عفوَ الكريم.

وهذا الحديث إنما يدور في فلك قوله تعالى: [قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ] {الزُّمر:53}.

والمراد بهذه الآية التنبيه على أنَّه لا ينبغي للعاصي أن يظنَّ أنَّه لا مخلص له من العذاب فييأس من رَوْح الله ورحمته ويقنط من عفوه وغفرانه، فإنَّ من اعتقد ذلك فهو قانطٌ من الله: [قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ] {الحجر:56}.

فالآية تهدف إلى فتح باب الأمل والتذكير بواسع رحمة الله وسابغ عطفه وعفوه، حتى يخجل العبد فلا يُقيم على المعاصي، ولا يُمعن في الخطايا، وهذا نوع من أساليب التربية، وهي التربية بالإحسان وإقامة السلوك من طريق الترغيب وواسع الإنعام.

روى الطبري في تفسير الآية عن ابن سيرين قال: قال علي رضي الله عنه: أي آية في القرآن أوسع؟ فجعلوا يذكرون آيات من القرآن: [وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُورًا رَحِيمًا] {النساء:110}. ونحوها، فقال علي رضي الله عنه: ما في القرآن آية أوسع من: [قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ] {الزُّمر:53}.

دخلَ عبدُ الله بن مسعود رضي الله عنه المسجد فإذا قاصٌّ يذكرُ النَّار والأغلال، فجاء حتى قام على رأسه فقال: يا مُذكِّر، أتقَنِّط الناس؟ [يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ]. الآية.

قال الطبري: وأولى الأقوال في هذه الآية بالصواب قول من قال:

عُني تعالى ذِكرُه بذلك جميع من أسرف على نفسه من أهل الإيمان والشرك؛ لأنَّ الله عَمَّم بقوله: [يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ] جميع المسرفين فلم يخصص به مُسرفاً دون مُسرف، فإن قال قائل: فيغفر الله الشرك؟ قيل: نعم، إذا تاب منه المشرك.

وإنما عنى بقوله: [إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا] لمن يشاء، وإن الله قد استثنى منه الشرك إذ لم يتب منه صاحبه، فقال: [إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ] {النساء:48} فأخبر أنَّه لا يغفر الشرك إلا بعد توبة، بقوله: [إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا] {مريم:60} فأما ما عداه فإنَّ صاحبه في مشيئة ربه، إن شاء تفضَّل عليه فعفا عنه، وإن شاء عدل عليه فجازاه به.

وذكر البيضاوي في تفسيره أنَّ الآية مُطلقة غير مُقيَّدة بتوبة فقوله: [إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا] {الزُّمر:53}. عفو ولو بعد بعد، وتقييده بالتوبة خلاف الظاهر، ويدل عليه إطلاقه فيما عدا الشرك قوله: [إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ] {النساء:48}.

وكذا ذكر الفخر الرازي في تفسيره وأسهب وأطنب الآلوسي في ذلك، حيث قال: (ويشهد للإطلاق فيما عدا الشرك أمور:

الأول: نداؤهم بعنوان العبوديَّة؛ فإنَّها تقتضي المذلة وهي أنسب بحال العاصي إذا لم يتب.

الثاني: الاختصاص الذي تشعر به الإضافة إليه تعالى (يا عبادي) فإنَّ السيد من شأنه أن يرحم عبده ويشفق عليه.

الثالث: النهي عن القنوط مُطلقاً عن الرحمة فضلاً عن المغفرة.

الرابع: التعليل بقوله تعالى: [إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا]. فإنَّ التعليل يحسنُ مع الاستبعاد، وترك القنوط من الرحمة مع عدم التوبة أكثر استبعاداً من تركه مع التوبة.

الخامس: التأكيد بقوله: جميعاً.

السادس: التعبير بالغفور.

السابع: الوعد بالرحمة بعد المغفرة؛ فإنَّه مشعر بأنَّ العبد غير مُستحق للمغفرة لولا رحمته وهذا ظاهر فيما إذا لم يتب.

أما ما جاء في الحديث الذي معنا فهو أنَّ هناك أسباباً ثلاثة يحصل بها المغفرة، أحدها: الدعاء مع الرجاء، فإنَّ الدعاء مأمور به وموعود عليه بالإجابة كما قال تعالى: [وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ] {غافر:60}، وفي حديث آخر: عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: "مَا كَانَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ليفتح لعبد بِالدُّعَاءِ فيغلق عَنهُ بَاب الْإِجَابَة الله عَزَّ وَجَلَّ أَكْرَمُ مِنْ ذَلِكَ"، لكن الدعاء سبب مُقتض للإجابة مع استكمال شرائطه وانتفاء موانعه، وقد تتخلف الإجابة لانتفاء بعض شروط الدعاء أو وجود موانعه، أو بعضها.

ومن أعظم شرائطه حضور القلب ورجاء الإجابة من الله تعالى، كما روى الترمذي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة).

فما دام العبد يلحُّ في الدعاء ويطمع في الإجابة من غير قطع الرجاء فهو قريب من الإجابة ومن أدمنَ قَرْعَ الباب يوشك أن يفتح له.

قوله في الحديث: (إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك ما كان منك ولا أبالي).

يعني على كثرة ذنوبك وخطاياك، ولا يتعاظمني ذلك ولا أستكثره، فذنوب العبد وإن عظمت فإنَّ عفو الله ومغفرته أعظم منها فهي صغيرة في جَنْب عفو الله ومغفرته.

وفي صحيح الحاكم عن جابر رضي الله عنه أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: واذنوباه! مرتين أو ثلاثا، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: قل اللهم مغفرتك أوسع من ذنوبي، ورحمتك أرجى عندي من عملي فقالها، ثم قال له: عد، فعاد، ثم قال له: عد فعاد، فال له: قم قد غفر الله لك.

السبب الثاني للمغفرة: الاستغفار ولو عظمت الذنوب وبلغت الكثرة عنان السماء وهو السحاب.

وقد كثر في القرآن ذكر الاستغفار، فتارة يؤمر به كقوله تعالى: [وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ] {البقرة:199}. وتارة يمدح أهله كقوله تعالى: [وَالمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ] {آل عمران:17}. وتارة يذكر أنَّ الله يغفر لمن استغفره كقوله تعالى: [وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُورًا رَحِيمًا] {النساء:110}.

وكثيراً ما يقرن الاستغفار بذكر التوبة فيكون الاستغفار حينئذ عبارة عن طلب المغفرة باللسان، والتوبة عبارة عن الإقلاع من الذنوب بالقلوب والجوارح. وتارةً يفرد الاستغفار ويرتب عليه المغفرة كما ذكر في هذا الحديث الذي نحن بصدد شرحه.

وأفضل الاستغفار هو ما قرن به ترك الإصرار، وهو حينئذ يؤمل توبة نصوحاً، وإن قال بلسانه: أستغفر الله، وهو غير مقلع بقلبه فهو داع لله بالمغفرة.

وفي سنن أبي داود عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أكثر من الاستغفار جعل الله له من كل هَمٍّ فَرَجا، ومن كل ضيق مخرجاً، ورزقه من حيث لا يحتسب)، وبالجملة فدواء الذنوب الاستغفار.

السبب الثالث من أسباب المغفرة: التوحيد وهو السبب الأعظم فمن فقده فقد المغفرة، ومن جاء به فقد أتى بأعظم أسباب المغفرة فمن جاء مع التوحيد بقراب الأرض وهو ملؤها أو ما يقارب ملؤها خطايا لقيه الله بقرابها مغفرة، لكن هذا مع مشيئة الله عزَّ وجل، فإن شاء غفر له وإن شاء آخذه بذنوبه، ثم كان عاقبته أن لا يخلَّد في النار بل يخرج منها ثم يدخل الجنة.

فمن تحقق بكلمة التوحيد من قلبه أخرجت منه كل ما سوى الله محبة وتعظيماً وإجلالاً ومهابة وخشية ورجاءً وتوكلاً، وحينئذ تحرق ذنوبه وخطاياه كلها ولو كانت مثل زبد البحر وربما قلبتها حسنات، قال الله تعالى: [فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ] {الفرقان:70}.

فالتوحيد هو الإكسير الأعظم فلو وضع ذرَّة منه على جبال الذنوب والخطايا لقلبها حسنات، كما في المسند وغيره عن أم هانئ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا إله إلا الله لا تترك ذنباً ولا يسبقها عمل).

وفي المسند عن شدَّاد بن أوس وعبادة بن الصامت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: ارفعوا أيديكم وقولوا: لا إله إلا الله، فرفعنا أيدينا ساعة ثم وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده ثم قال: الحمد لله اللهم بعثتني بهذه الكلمة وأمرتني بها ووعدتني الجنة عليها وإنك لا تخلف الميعاد، ثم قال: أبشروا فإنَّ الله غفر لكم.

 

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

المصدر: (مجلة لواء الإسلام، العدد 11 السنة 11، 1377هـ الموافق 1958م).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين