ليس من شِيَم الكرام التلاوم والتخوين في مثل هذا اليوم الحزين. لقد صمدت دُوما كما صمدت حرستا وسقبا وجوبر وعربين وأخواتها من قبل، صمدت حتى لم يبقَ في قوس الصبر مِنْزَع، وقدّم جيش الإسلام كل ما استطاع تقديمه من تضحيات حتى صار الاستمرارُ ضرباً من ضروب الانتحار، وهو أمر لا يطلبه منصف عاقل، لا من أهل دوما الكرام ولا من الإخوة في جيش الإسلام، كما لم يطلبه عاقل منصف -من قبل- من أهالي بلدات الأوسط ومن فيلق الرحمن وأحرار الشام.
لقد صمد جيش الإسلام بما يكفي لإنتاج بيئة تفاوضية ساعدت على توفير شروط آمنة لخروج المدنيين والعسكريين، فتجنّبت دوما الآثار الكارثية لأي انهيار كيفي عشوائي بفضل الله، ولم يعد مُجدياً الإصرارُ على صمود إضافي لن يغير معادلة القوة ولن يجلب سوى المزيد من الدماء والدمار. وإذا كان الانسحاب والانحياز قراراً عسكرياً وشرعياً صحيحاً في بعض الظروف فهو كذلك في الظروف التي تعيشها دوما هذه الأيام، تماماً كما كان مع حرق وتدمير بلدات الأوسط قبل أسبوعين، وكما كان يوم اضطُر ثوار داريا وثوار حمص القديمة إلى الانسحاب في يوم مضى من الأيام.
* * *
لقد انكشف الخَبيء ولم يعد في الثورة سر يستحق الاستتار: سوريا قُسِّمت بالفعل إلى مناطق نفوذ، وفي سبيل تكريس هذا التقسيم لن يُسمَح ببقاء جيوب مزعجة لأي طرف من الأطراف، لا جيوب ثورية في محيطَي دمشق وحمص ولا جيوب رافضية في إدلب ولا جيوب داعشية في الشرق ولا جيوب كردية في الشمال.
كل جيب من هذا الجيوب سيُعامَل كما عومل "جيب سرِبْرنيتسا" الذي كان يعرقل تقسيم الأراضي البوسنية إلى مناطق سيطرة صرفة للصرب ومناطق سيطرة للكروات والبشناق، فمُنح الصربُ الضوءَ الأخضر لتصفيته، ليس والعالَمُ "الحرّ النزيه" ينظر من بعيد كما هو الحال في سوريا، بل وهو يراقب ويشرف من قريب، بل وهو مكلَّف رسمياً بتوفير الحماية لأولئك المنكوبين الذين قُدِّر لهم أن يكونوا في المكان الخطأ في الوقت الذي اتفق فيه العالم على حل المشكلة البوسنية جراحياً دون النظر إلى الحقوق والدماء.
* * *
إن الحالة في سوريا اليوم مشابهة للحالة في البوسنة عشيّةَ المذبحة، فقد تُرك المحاصَرون وحيدين بلا نجدة ولا عون، لا من المجتمع الدولي ولا من إخوة الثورة والسلاح، فهل يُطالَبون -بعدُ- بتحقيق المعجزات؟ إنه تكليف بما لا يُطاق، وهم لا يكلَّفون بما لا يطيقون ولا يُطالَبون بإعادة إنتاج قصة أصحاب الأخدود، ليس عندما تكون الخيارات معدومة والصمود الطويل نوعاً من أنواع المستحيل.
وعلى الرغم من جراحات اللحظة وآلام السقوط يبقى حسن الظن بالله ويبقى الأمل بالمستقبل الآتي، فكم من انكسار أعقبه انتصار وكم من منسحبين تحولوا بعد حينٍ إلى كُرّار، وما ذلك على الله ببعيد، بل إنه وعد متحقق بإذن الله، ليس بيننا وبينه إلا أن نصلح حالنا ونعالج أمراضنا (وما أكثرَها!) لنستحق نصر الله من جديد.
التعليقات
يرجى تسجيل الدخول