كم ترك السابق للاحق

يعتبر مسند الإمام أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني، رحمه الله تعالى، ديوان السنة ومعجم الأحكام، فقد حوى ما يزيد على أربعين ألف حديث مع المكرر والذي يبلغ حوالي عشرة آلاف حديث.

يقول الإمام أحمد رحمه الله: «عملت هذا الكتاب إماما، إذا اختلفت الناس في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم رُجع إليه».

يقول الحافظ ابن عساكر الدمشقي (ت ٥٧١ه) عن المسند: «وهو كتاب نفيس يُرغب في سماعه وتحصيله، ويُرحل إليه، إذ كان مصنفه الإمامَ المقدم في معرفة هذا الشأن، والكتاب كبير القدر والحجم، مشهور عند أرباب العلم».

وقال: «ومع جلالة قدر هذا الكتاب، وحسن موقفه عند ذوي الألباب، فالوقوف على المقصود منه متعسر، والظفر بالمطلوب منه بغير تعب متعذر، لأنه غير مرتب على أبواب السنن، ولا مهذب على حروف المعجم لتقريب السنن، وإنما هو مجموع على مسانيد الرواة من الرجال والنساء، لا يسلم من طلب منه حديثا من نوع ملال، إذ قد خلط فيه بين أحاديث الشاميين والمدنيين، ولم يحصل التميز بين روايات الكوفيين والبصريين، بل قد امتزج في بعضه أحاديث الرجال بأحاديث النسوان، واختلطت مسانيد القبائل بمسانيد أهل البلدان، وكثر فيه التكرار مع اتحاد المتن والإسناد، حتى ربما أعيد الحديث الواحد فيه ثلاث مرار لغير فائدة في إعادته، بل مجرد تكرار».

من هنا توجهت عناية كثير من الحفاظ إلى اختصاره، وإعادة ترتيبه على الأبواب الفقهية، وآخر من نعلمه من الحفاظ عمل على ذلك هو الحافظ شمس الدين الذهبي (٧٤٨ه‍) رحمه الله تعالى ، حيث حاول إتمام ما كان بدأه أحد الحفاظ المقادسة، ولكن الأجل كان اسرع، والكتاب جد ضخم.

وظل الأمر على ما سبق، حتى كان مطلع القرن العشرين حيث قيض الله تعالى لخدمة المسند رجلاً عالما ، محدثا ، موسوعيا، صوفيا، ربانيا، هو العلامة المحدث الشيخ أحمد عبد الرحمن البنا، المعروف بالساعاتي، (١٨٨٣ - ١٩٥٨) (١٣٠٠- ١٣٧٨ه‍)، والد الإمام الشهيد حسن البنا، فاختصر الكتاب، وخرَّج أحاديثه، وشرح ما يحتاج إلى بيان، وسمّاه (الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني، ومعه بلوغ الأماني من أسرار الفتح الرباني)، ثم طبعه بجهده الشخصي وعلى نفقته.

وأثناء طباعة الكتاب وقعت الحرب الكونية الثانية، ووقع الغلاء في كل شيء، وكان طبع من الكتاب ١٣ جزءا، لذلك يجد المطلع على مقدمة الجزء الرابع عشر أسبابا اعتبرها الأستاذ أحمد البنا تخفيفية أثرت في العمل على الكتاب، من حيث التعليقُ والتخريجُ والشرح لأجل التوفير. حتى إنه وصل إلى مرحلة فكر فيها بترك متابعة إخراج الكتاب. لكنه عقد العزم وتابع، وإن بوتيرة أخف من السابق.

ومن أغرب ما ذكر من أسباب كلام يتعلق بولده الإمام حسن البنا رحمه الله الذي اغتيل سنة ١٩٤٩، يقول:

«وصيت ولدي حسن البنا ، غفر الله له، بإتمام طبع الكتاب بعد وفاتي إذا لم يتيسر لي إتمام طبعه في حياتي، وكنت مطمئنا بهذه الوصية لعلمي أنه خير من ينفذها لما جبل عليه من حب الخير ونشر العلم، خصوصا وأنه يعلم مقدار ما قاسيته في تأليف الكتاب. فكان جوابه: سيطبع في حياتك إن شاء الله تعالى لا في حياتي، ولم أدر ما خبأه لي القدر، فقد فوجئت باستشهاده في سبيل دعوة الإسلام، فإنا لله وإنا إليه راجعون، إن لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى.

لقد استشهد حسن البنا في سبيل الدعوة إلى الله والرجوع إلى أحكام الله، فعم المصاب، لم يكن مصابي أنا وحدي بل مصاب العالم الإسلامي أجمع، لأن الكل يعرف من هو حسن البنا.

تغمدك الله يا ولدي برحمته، وأسكنك فسيح جنته، مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وجزاك عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، وألحقنا بك على الإيمان. آمين».

وهنا ينبغي الوقوف جيدا على عبارة الإمام الشهيد لأبيه: «سيطبع إن شاء الله في حياتك لا في حياتي»، ولو أنه اكتفى بقوله «في حياتك» لقلنا ابن يجبر خاطر والده، لكن قوله «لا في حياتي» يلزمنا بالتفكير جيدا في الأحوال التي كان يتحلى بها الإمام الشهيد رحمه الله تعالى.

وبالعودة إلى والده الشيخ أحمد البنا فقد ذكره العلامة منير آغا الدمشقي في كتابه العجاب (نموذج من الأعمال الخيرية في إدارة المطبعة المنيرية) ص ٤٨٢، في قسم الحديث وذكر له قصة حضرها صحح فيها بمعلومة واحدة ثلاثة أخطاء في ثلاثة كتب لثلاثة مؤلفين.

يقول الشيخ محمد منير آغا في الكتاب الآنف الذكر: «إن صديقنا الأستاذ العلامة السيد محمد رشيد رضا، صاحب مجلة المنار ومنشئها، كتب على تفسير قوله تعالى ﴿ومن أهل المدينة مردوا على النفاق﴾ في المنار، العدد السابع من المجلد الحادي والثلاثين ص ٥٠٩، واستدل على ما ذهب إليه في معنى الآية بحديث ونسبه إلى مسند الإمام أحمد بن حنبل من رواية ابن مسعود، فاطلع على هذا العدد تلميذه الشيخ أحمد شاكر فأنكر نسبة الحديث إلى مسند الإمام أحمد بن حنبل، وكتب إلى الأستاذ الرشيد في ذلك، وبين له أنه في صدد وضع فهارس دقيقة لكتاب المسند وأنه فتش المسند، لا سيما مسند عبد الله بن مسعود، فلم يعثر على هذا الحديث، وطلب من الأستاذ بيان ذلك وإخباره بمصدر هذا الحديث من أين أخذه، فأجابه السيد بأنه نقل هذا الحديث من كتاب (فتح البيان في مقاصد القرآن) للسيد صِدِّيق حسن القِنَّوجي ووافقه على ذلك كله».

قال العلامة المنير: «وقد أطلعني صديقي الشيخ أحمد بن عبد الرحمن الساعاتي على ما كتبه الشيخ أحمد شاكر والأستاذ محمد رشيد رضا في المنار، وأخبرني بأنه كتب إلى صاحب المنار جوابا وبيَّن فيه أن الحديث المذكور موجود في مسند الإمام أحمد بن حنبل من مسند أبي مسعود عقبة بن عمرو الأنصاري لا من مسند ابن مسعود. وإنكار وجوده في مسند الإمام أحمد بن حنبل غير صحيح لأن واضع الفهرس الدقيق تجاوز هذا الحديث فلم يقيده فيه، وشرد عنه فلم يَصِدهُ، وغفل عنه فلم يدرجه».

وبذلك يكون الشيخ أحمد بن عبد الرحمن البنا الساعاتي قد صحح كتاب القنوجي، وكتابة السيد رضا، وفهرس الشيخ أحمد شاكر.

رحمه الله تعالى رحمة واسعة، فقد كان مثالا حيا لمقولة كان شيخنا الإمام عبد الفتاح أبو غدة، رحمه الله، يرددها: (كم ترك السابق للاحق).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين