قوانين ابن خلدون

يستمر ابن خلدون فيقول: «الأخبار بذلك واهية مدخولة، وهي لو كانت صحيحة النّقل لكان ذلك قادحاً فيها؛ فكيف وهي لم تنقل من وجه صحيح، وقول ابن إسحاق )يقصد راوي السيرة النبوية المشهور( في خبر يثرب والأوس والخزرج أنّ تبّعا الآخر سار إلى المشرق محمولاً على العراق وبلاد فارس، وأمّا بلاد التّرك والتّبت فلا يصحّ غزوهم إليها بوجه لما تقرّر فلا تثقنّ بما يلقى إليك من ذلك وتأمّل الأخبار، واعرضها على القوانين الصّحيحة يقع لك تمحيصها بأحسن وجه، والله الهادي إلى الصواب .»

وهنا نقف عند جملة مهمة لابن خلدون: «واعرضها على القوانين الصحيحة »، فلم يقل: «الأخبار الصحيحة » أو «الروايات الصحيحة » أو «كتب الرحالة الموثوق بهم »، وإنما قال: «واعرضها على القوانين الصحيحة »، فهو في مقدمته وتاريخه كله يحيل الأحداث إلى العقل والواقع،

ويقيس الغائب بالشاهد ويقيس الشاهد بالغائب، بقوانين وضعها مما ذكره عن البعد والمسافات والاحتياجات إلى الطعام والشراب والسلاح والجند.

ولفظ «محمولاً » بالنصب موجود في النسخ كلها، ولكن د. علي عبدالواحد وافي، اعتبره في تحقيقه من الأخطاء، لأنه صفة لقول ابن إسحاق، لكن صديقنا العزيز أ. إبراهيم شبوح تركها )محمولاً( في تحقيقه، وتركه إياها ليس بخطأ ولا كان ابن خلدون مخطئاً، فصياغته يوجد فيها حذف بلاغي؛ فهو يريد أن يقول: إن قول ابن إسحاق يجب أن يكون محمولاً على العراق وبلاد فارس، فإذا قال محمولاً فهنا حذف المقدم وهو يجب أن يكون، وإذا قال «محمولٌ » كما يريد د. وافي، رحمة الله عليه، فهو كلام صحيح.

قال ابن خلدون: «وأبعد من ذلك وأعرق في الوهم ما يتناقله المفسرون في تفسير سورة «الفجر » في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (٦) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (٧)} الفجر، فيجعلون لفظة إرم اسماً لمدينة وصفت بأنها ذات عماد، أي: أساطين، وينقلون أنه كان لعاد بن عوص بن إرم ابنان، هما: شديد، وشداد ملكا من بعده، وهلك شديد، فخلص الملك لشداد ودانت له ملوكهم، وسمع وصف الجنة، فقال: «لأَبنِينَّ مثلها »، فبنى مدينة إرم في صحارى عدن في مدة ثلاثمائة سنة، وكان عمره تسعمائة سنة، وإنها مدينة عظيمة، قصورها من الذهب والفضة، وأساطينها من الزبرجد والياقوت والفضة، وفيها أصناف الشجر والأنهار المطردة، ولما تم بناؤها سار إليها بأهل مملكته، حتى إذا كان منها على مسيرة يوم وليلة بعث الله عليهم صيحة من السماء فهلكوا، ذكر ذلك الطبري والثعالبي والزمخشري وغيرهم من المفسرين .»

وهنا يشير ابن خلدون إلى نطاق أوسع وأخطر طاله الخطأ، وهو بعض تفاسير القرآن الكريم.

قال ابن خلدون: «وينقلون عن عبدالله بن قلابة من الصحابة أنه خرج في طلب إبلٍ له فوقع عليها، وحمل منها ما قدر عليه، وبلغ خبره إلى معاوية بن أبي سفيان، فأحضره وقص عليه، فبحث عن كعب الأحبار وسأله عن ذلك، فقال: هذه المدينة هي إرم ذات العماد، وسيدخلها رجل من المسلمين في زمانك أحمر أشقر قصير على حاجبه خال وعلى عنقه خال، يخرج في طلب إبل له ثم التفت فأبصر ابن قلابة، فقال هذا والله ذلك الرجل، وهذه المدينة لم يُسمع لها خبر من يومئذٍ في شيء من بقاع الأرض، وصحارى عدن التي زعموا أنها بنيت فيها هي وسط اليمن، وما زال عمرانه متعاقباً والركاب والأدلاء تنقض طرقه من كل وجه، ولم ينقل عن هذه المدينة خبر، ولا ذكرها أحد من الإخباريين .»

نقول: عبدالله بن قلابة، تابعي وليس صحابياً، و «الأدلاء »: جمع دليل وهو من يقود الناس في الطرق، و «خال » تعني حسنة أو شامة، والإخباريون هم المؤرخون، وقديماً كانوا يطلقون على من يحكي القَصص القُصاص، وكانت درجته في الإخبار منقوصة، أما المؤرخون -وبالأخص الثقات منهم- فكانوا يطلقون عليهم «الإخباريين »، وفي العصر الحديث يمكن إطلاق لفظ الإخباريين على أهل الأخبار والإعلام من الصحفيين والمذيعين.

يقول ابن خلدون: «ولا ذكرها أحد من الإخباريين ولا من الأمم، ولو قالوا: إنها درست فيما درس من الآثار لكان أشبه، إلا أن ظاهر كلامهم أنها موجودة، وبعضهم يقول: إنها دمشق بناءً على أن قوم عاد ملكوها، وقد ينتهي الهذيان ببعضهم إلى أنها غائبة عن الحس، وإنما يعثر عليها أهل الرياضة أو السحرة، مزاعم كلها أشبه بالخرافات .»

نقول: دَرَست أو دُرست، القراءتان صحيحتان، والمعنى: أنها أصبحت قديمة، و «الهذيان» هو التخريف، وأهل الرياضة المقصود بهم أهل الصوفية، الذين يبالغون في الحديث عن الرؤى والتجلي، وهنا يسخر ابن خلدون من وصول تلك الأخبار إلى درجة كبيرة من الهذيان والخرافات.

قال ابن خلدون: «والذي حمل المفسرين على ذلك، ما اقتضته صناعة الإعراب في لفظة ذات العماد، من أنها صفة إرم، وحملوا العماد على الأساطين فتعيَّ أن تكون بناءً، ورشح لهم ذلك قراءة ابن الزبير «عادُ إرم » -على الإضافة من غير تنوين- ثم وقفوا على تلك الحكايات التي هي أشبه بالأقاصيص الموضوعة وأقرب لتفاسير سيفويه المنقولة في عداد المضحكات، وإلا فالعماد هي عماد الأخبية بل الخيام، وإن أريد بها الأساطين، فلا بدع في وصفهم بأنهم أهل بناءٍ وأساطين على العموم بما اشتهر من قوتهم لأنه بناء خاص في مدينة معينة أو غيرها، وإن أضيفت -كما في قراءة ابن الزبير- فعلى إضافة الفصيلة إلى القبيلة، كما تقول قريش كنانة وإلياس مضر وربيعة نزار، وأي ضرورة إلى هذا المحمل البعيد الذي تمحلت لتوجيهه لأمثال هذه الحكايات الواهية التي ينزه كتاب الله تعالى عن مثلها، لبعدها عن الصحة .»

وسيفويه هو قاص معروف بقصص الحمق والتغفيل، ساق بعضها أبو الفرج ابن

الجوزي في كتابه «أخبار الحمقى والمغفلين ،»

وابن خلدون يريد أن يقول: إن ما ذكره البعض من أقاصيص موضوعة أقرب لقصص ذلك الرجل، المنقولة في عداد المضحكات.

 

قوانين ابن خلدون

بقلم: د. محمد سليم العوَّا

أعدها للنشر: حسن القباني

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين