قصة (نفش غنم القوم) في القرآن

والحكم فيها، مختلف بين الولد والوالد:

- هي قصة مثيرة، لكنها حقيقية الوقوع، في زمن نبيين ملِكين، الحكم فيها، كان بين الوالد والولد، (داوود وسليمان)!

وهي مظهر من مظاهر العدل، والجمع بين المصالح، والتفاصيل بين مراتب الاجتهاد، واختلاف طرق القضاء بالحق مع كون الحق حاصلا للمحق.

- فهلم إلى الحكاية:

قال تعالى في سورة الأنبياء:﴿وَدَاوُۥدَ وَسُلَیۡمَـٰنَ إِذۡ یَحۡكُمَانِ فِی ٱلۡحَرۡثِ إِذۡ نَفَشَتۡ فِیهِ غَنَمُ ٱلۡقَوۡمِ وَكُنَّا لِحُكۡمِهِمۡ شَـٰهِدِینَ (٧٨) فَفَهَّمۡنَـٰهَا سُلَیۡمَـٰنَۚ وَكُلًّا ءَاتَیۡنَا حُكۡمࣰا وَعِلۡمࣰاۚ....) 

النفش في اللغة:

- النفش: الانتشار بالليل. أيْ: رَعَتْ لَيْلًا. والنَّفْشُ في النص:أنْ تَنْتَشِرَ الغَنَمُ بِاللَّيْلِ ،تَرْعى بِلا راعٍ.

- وسَرَحَتْ وسَرَبَتْ بِالنَّهارِ. 

قالَ قَتادَةُ: النَّفْشُ بِاللَّيْلِ. والهَمَلُ بِالنَّهارِ. 

حكاية( النفش) والحكم فيه:

ذَكَرَ أهْلُ التَّفْسِيرِ : أنَّ رَجُلَيْنِ كانا عَلى عَهْدِ داوُدَ عَلَيْهِ السَّلامُ. أحَدُهُما: صاحِبُ حَرْثٍ.

والآخَرُ: صاحِبُ غَنَمٍ. 

فَتَفَلَّتَتِ الغَنَمُ ،فَوَقَعَتْ في الحَرْثِ، فَلَمْ تُبْقِ مِنهُ شَيْئًا. 

الحكم في القضية:

وتحولت الحادثة بينهما إلى قضية، حتى بلغت القضاء، وكان القاضي- يومئذ- النبي الملك(داوُدَ). فاخْتَصَما إليه، فَقالَ لِصاحِبِ الحَرْثِ: " لَكَ رِقابُ الغَنَمِ"

- إذ كان ثمن تلك الغنم يساوي ثمن ما تلف من ذلك الحرث-. 

فلما حكم بذلك، خرج الخصمان، فقصا أمرهما على سليمان، فقال: "لو كنت أنا قاضيا، لحكمت بغير هذا". 

فبلغ ذلك داود فأحضره، وقال له: "بماذا كنت تقضي؟"

قال: إني رأيت ما هو أرفق بالجميع. 

وفي رواية: فَقالَ سُلَيْمان- وهو ابن إحدى عشرة:" أوَغَيْرُ ذَلِكَ غير هذا أرفق بالفريقين".

قالَ: ما هو؟

وعزم عليه ليحكمنّ. 

قال: أن يأخذ أصحاب الغنم الحرث يقوم عليه عاملهم ويصلحه عاما كاملا، حتى يعود كما كان، ويرده إلى أصحابه، وأن يأخذ أصحاب الحرث الغنم تسلم لراعيهم، فينتفعوا من ألبانها وأصوافها ونسلها في تلك المدة. فإذا كمل الحرث، وعاد إلى حاله الأول، صرف إلى كل فريق ما كان له. 

فقال داود: "وفقت يا بني". وفي رواية: فقال: "قَدْ أصَبْتَ القَضاءَ. القضاء ما قضيت".

وأمضى الحكم بذلك.

فَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿وَكُنّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ﴾

قاعدة الحكم :

- قالَ الحَسَنُ:" لَوْلا هَذِهِ الآيَةُ لَرَأيْتَ أنَّ القُضاةَ قَدْ هَلَكُوا، ولَكِنَّهُ أثْنى عَلى سُلَيْمانَ لِصَوابِهِ، وعَذَرَ داوُدَ بِاجْتِهادِهِ".

- نكات زمخشرية:

وهكذا عودنا، ما من آية تمر إلا ويخلّف من ورائها بصمته البلاغية، ويرسم خارطة نكاته اللغوية، المركوزة في تضاعيف الحروف. 

- قال الزمخشري: "فإن قلت: أحكما بوحي أم باجتهاد؟" 

- قلت: حكما جميعا بالوحي، إلا أن حكومة داود نسخت بحكومة سليمان.

- وقيل:اجتهدا جميعا، فجاء اجتهاد سليمان عليه السلام أشبه بالصواب. 

- فإن قلت: ما وجه كل واحدة من الحكومتين؟ 

- قلت: أمّا وجه حكومة داود عليه السلام، فلأن الضرر لما وقع بالغنم سلمت بجنايتها إلى المجني عليه، كما قال أبو حنيفة -رضى الله عنه- في العبد إذا جنى على النفس: يدفعه المولى بذلك أو يفديه.

وعند الشافعي رضى الله عنه: يبيعه في ذلك أو يفديه. 

ولعل قيمة الغنم كانت على قدر النقصان في الحرث.

- ووجه حكومة سليمان -عليه السلام- أنه جعل الانتفاع بالغنم بإزاء ما فات من الانتفاع بالحرث، من غير أن يزول ملك المالك عن الغنم، وأوجب على صاحب الغنم أن يعمل في الحرث حتى يزول الضرر والنقصان. 

- مثاله: ما قال أصحاب الشافعي فيمن غصب عبدا فأبق من يده: أنه يضمن القيمة فينتفع بها المغصوب منه بإزاء ما فوّته الغاصب من منافع العبد، فإذا ظهر ترادّا.

- فإن قلت:" فلو وقعت هذه الواقعة في شريعتنا ما حكمها؟" - قلت:" أبو حنيفة وأصحابه- رضى الله عنهم- لا يرون فيه ضمانا بالليل، أو بالنهار، إلا أن يكون مع البهيمة سائق، أو قائد. والشافعي- رضى الله عنه-يوجب الضمان بالليل.

- وفي قوله( فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ) دليل على أنّ الأصوب كان مع سليمان -عليه السلام. 

وفي قوله (وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً )دليل على أنهما جميعا كانا على الصواب "

- فالحكمان-إذًا- هما الصواب، لكن سليمان كان حكمه أصوب.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين