عن عبد الله بن مسعودٍ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إنَّ بني إسرائيل استخلفوا خليفةً عليهم بعد موسى صلى الله عليه وآله وسلم، فقام يُصلِّي ذات ليلة فوق بيت المقدس في القمر، فذكر أمورًا كان صنعها فخرج فتدلَّى بسببٍ، فأصبح السَّبب معلقًا في المسجد وقد ذهب».
قال: «فانطلق حتى أتى قومًا على شطِّ البحرِ فوجدهم يضربون لبنًا، أو يصنعون لبنًا، فسألهم كيف تأخذون على هذا اللَّبِن؟».
قال: «فأخبروه فلبَّن معهم، فكان يأكل من عمل يده، فإذا كان حين الصَّلاة قام يُصلِّي فرفعَ ذلك العمالُ إلى دُِهْقانهم، أنَّ فينا رجلًا يفعل كذا وكذا فأرسل إليه، فأبى أنْ يأتيه ثلاثَ مراتٍ، ثمَّ إنَّه جاء يسير على دابته فلما رآه فرَّ فاتَّبَعه فسبقه، فقال: انتظرني أكلمك، فقام حتى كلَّمه فأخبره خبره، فلما أخبره أنَّه كان ملكًا وأنَّه فرَّ من رهبةِ ربه قال: إنِّي لأظنني لاحقًا بك»، قال: «فاتبعه فعبدا الله حتى ماتا برُمَيلةِ مصر».
قال عبد الله: لو أنِّي كنت ثمَّ لاهتديت إلى قبريهما بصفة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم التي وصف لنا.
رواه البزَّار، والطبراني في "الكبير"، و"الأوسط"، وإسناده حسن.
ورواه أحمد وأبو يعلى ولفظ روايتهما: «بينما رجلٌ فيمن كان قبلَكم كان في ملكه فتفكَّر فعلم أنَّ ذلك منقطعٌ عنه، وأنَّه قد شغَله عن عبادة ربه عزَّ وجلَّ، فتسرَّب فانساب ذات ليلةٍ من قصره، فأصبح في مملكة غيره، فأتى ساحل البحر فكان به يضرب اللَّبِن بالأجر ويأكل ويتصدَّق بالفضل، فلم يزل كذلك حتى رقى أمره إلى ملكهم، وعبادته وفضله، فأرسل إليه ملكَهم أنْ يأتيَ، فأبى ثمَّ أعاد عليه فأبى أنْ يأتيَهُ.
وقال: ما لي وما له؟».
قال: «فركب الملك، فلما رآه ولَّى هاربًا، فلما رأى ذلك الملك ركض في أثره فلم يدركه».
قال: «فناداه يا عبد الله إنَّه ليس عليك مني بأس فأقام حتى أدركه، فقال له: من أنت رحمك الله؟ قال: أنَّا فلان بن فلان صاحب ملك كذا وكذا، تفكَّرت في أمري فعلمت أنَّ ما أنا فيه منقطعٌ، وأنَّه قد شغلني عن عبادة ربي، فتركته وجئت هاهنا أعبد ربي عزَّ وجلَّ. قال: ما أنت بأحوجَ إلى ما صنعت مني».
قال: «ثمَّ نزل عن دابته وسيبها، فتبِعَه فكانا جميعًا يعبدان الله عزَّ وجلَّ، فدعوا الله أنَّ يميتهما جميعًا».
قال عبد الله: لو كنت برميلة مصر لأريتكم قبورَهما بالنعت الذي نعتَ لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
الشرح:
«اللَّبِن» بكسر الباء: ما يعمل من الطين ويبنى به، الواحدة لبنة، ولبَّن - بتشديد الباء المفتوحة - صنع اللَّبِن.
«السبب»: الحبل الذي يتدلَّى به.
«الدُِهْقان» بكسر الدَّال أو ضمها وسكون الهاء: كبير القرية والمقدَّم فيها، ولهذا سمي ملكًا في الرواية الثانية.
«رُمَيلة» بضم الراء وفتح الميم: مواضع تسمى بهذا الاسم، منها موضع بمصر وهو الذي جاء في الحديث.
المعنى:
هذان الملكان تفكَّرا في أمرهما، ونظرا فيما حولهما، فوجدا أنَّ ما هما فيه من جاهٍ ورياسةٍ، وسعة المعيشة، ونفوذ الكلمة، ظلٌّ زائلٌ، وسرابٌ خداعٌ، سرعان ما يذهب وتبقى عليهما تبعته، يؤديان حسابها كاملًا عند الله يوم القيامة، فتركا ملكهما وما كانا فيه وانقطعا إلى الله، يعملان بأيديهما ويعبدان ربهما، حتى أتتهما منيتهما راضيين مطمئنين، فرضي الله عنهما، وجزاهما عن صنيعهما خير الجزاء.
ما يستفاد من الحديث
يستفاد منه أمورٌ:
الأول: فضيلة التفكُّر والنَّظر في الأمور بعينِ الاعتبار، وأنَّ ذلك يؤتِي أحسن النتائجَ، وأطيبَ الثمراتِ، كما حصل لهذين الملِكَين حين تفكَّرا واعتبرا.
وحديث: «فكرة ساعة خيرٌ من عبادة ستين سنة». واهٍ شديد الضَعف بل قيل بوضعه.
الثاني: فضل الزُّهدِ في الدُّنيا والإقبال على الآخرة، وطلب ما عند الله من الثَّواب الدَّائم الذي لا ينقطع: ﴿مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ﴾ [النحل: 96].
وهذا أمرٌ معلومٌ بالضرورة، فإنَّ الآيات والأحاديث طافحةٌ بالتزهيد في الدُّنيا، والتقليل من شأنها، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدعو إلى الزُّهد بمقاله وحاله وأعماله.
الثالث: أنَّ العمل في سبيل الحصول على القُوت الضَّروري لا ينافي الزُّهدَ، وإنما الذي ينافي الزُّهد هو التوسُّع في المآكل والمشارِب، والتَّلذُّذ بأنواع الملذَّات المباحة من ملابسٍ ومركوباتٍ وغيرِ ذلك، مما تركه هذان الملكان واقتصرا على تحصيلِ قوتهما الذي لا بُدَّ منه في قوام البنية.
وكان داود نبي الله عليه السلام زاهدًا يأكل من عمل يده.
ومن زهَّاد الخلفاء عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعمر بن عبد العزيز رضي الله عنه فقد ضربوا في الزُّهد مُثلًا عُلْيا لا مطمع لأحدٍ بعدهم في الوصول إليها.
ولقد أحسن القائل في حقِّ عمر: وهو وصفٌ ينطبق عليهم جميعًا.
جوع الخليفة والدُّنيا بقبضتهِ
في الزُّهد منزلة سبحان موليها
" سمير الصالحين"
التعليقات
يرجى تسجيل الدخول