قراءة في مؤتمر 'حزب حركة النهضة' برئاسة الغنوشي

 

عقد "حزب حركة النهضة" التونسي الذي يرأسه راشد الغنوشي مؤتمره العاشر في 20-5-2016، وأجرى مراجعة لمسيرته السابقة، كما أجرى انتخابات لهياكله القيادية، ثم اختار الشيخ راشد الغنوشي رئيسا له في نهاية المؤتمر، وقد صدر بيان ختامي عن المؤتمر.

 

وعند التدقيق في الأفكار والمبادئ التي تم بحثها، والاتفاق عليها، والعمل بها في استراتيجية "حزب حركة النهضة" القادمة، وجدنا أنها مبادئ أحدثت انعطافا نوعيا في مسيرة العمل الإسلامي، وسنرصد هذه المبادئ أولاً، ونقومها لنرى مدى صوابيتها ثانياً.

يمكن أن نجمل هذه التغييرات بأربعة تغييرات وهي:

أولاً- التخلص من الشمولية:

لقد قامت أحزاب شمولية في العالم بعد الحرب العالمية الأولى، وتمثلت في الأحزاب الشيوعية والنازية والفاشية، وقامت على غرارها الأحزاب الإسلامية بعد الحرب العالمية الأولى في مصر والباكستان وبلاد الشام، وأبرز هذه الأحزاب الشمولية: الإخوان المسلمين في مصر، والجماعة الإسلامية في الباكستان، وحزب التحرير في القدس إلخ ....

وقد أدان "حزب حركة النهضة" في مراجعاته التوجه الشمولي وأعتبره توجهاً خاطئاً، لذلك أزال توجهه الشمولي وتحول إلى حزب غير شمولي، فماذا يعني ذلك؟

يعني ذلك عدة أمور:

1. التحول من حزب أممي مرتبط مع قيادات أخرى خارج الحدود إلى حزب وطني، لا صله بقيادات أخرى خارج حدود تونس.

2. فك الارتباط بأية أيدلوجية شمولية، وعدم الاهتمام بالأمور الأيدلوجية، والاهتمام فقط بالأمور الوطنية المحلية الاقتصادية والسياسية والمعاشية والتنموية والبيئية لشعب تونس وحده.

وعندما تحول "حزب حركة النهضة" إلى هذا الوضع فعل ذلك نتيجة توجه عالمي بعد سقوط جدار برلين عام 1989، وتحول الأحزاب الشيوعية في روسيا وشرقي أوروبا ووسط آسيا من أحزاب شمولية إلى أحزاب وطنية محلية.

وهذا التحول جاء بعد أن ثبت أن الأيديولوجية الشيوعية قامت على كثير من المفاهيم الخاطئة من مثل: مادية الكون والإنسان، وإنكارها وجود الله والروح والبعث، وإنكارها عالم الغيب وإقرارها بعالم الشهادة فقط، وعدم إقرارها بحب التملك عند الإنسان، والتنكر للفرد والجنوح للجماعة.

وقد أفرزت هذه المفاهيم الخاطئة في عالم الواقع والحياة آثاراً سيئة في الدول والمجتمعات التي طبقت الشيوعية من قتل عشرات الملايين من الأشخاص، وتضييق على الحريات، وتغوّل لأجهزة المخابرات، وفشل في التنمية والاقتصاد، لذلك انهارت تلك الأنظمة في النهاية، وهو ما وقع في عام 1990، وكانت النتيجة تفكك الاتحاد السوفيتي وتحوله من دولة كبرى إلى مجموعة دول متفرقة.

لذلك فالشر ليس في شمولية الأحزاب الشيوعية وإنما جاء الشر في الأحزاب الشيوعية من المفاهيم الخاطئة التي قامت عليها، والتي كانت منافية للعلم والعقل والفطرة.

لذلك يجب أن لا نضع الدين الإسلامي ضمن الأيديولوجيات السابقة، لأنه يقوم على الحق المنزل من الله في كل مبادئه وأفكاره وقيمه وفيما يتعلق بالكون والإنسان والحياة، وفيما يتعلق ببناء الفرد نفسياً وعقلياً وخلقياً إلخ...، وفي بناء الأمة ثقافة وفكراً وقيماً واقتصاداً واجتماعاً وسياسة إلخ....

لذلك أعتقد أن "حزب حركة النهضة" قد خسر مرتين عندما ابتعد عن الصورة التي كان يعمل بها:

الأولى: لأن الأمة بحاجة إلى بناء مسارات صحيحة، ليس في السياسة فقط، بل في كل تفريعات وجودها: السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتربوية والثقافية إلخ ...، وهذا ما يجب أن تعمل عليه قيادة واحدة تنطلق من أيدلوجيا تعالج كل حاجات الإنسان والمجتمع، وتضع لها الحلول المناسبة، مع مراعاة أقصى درجات التخصص والمهنية في ممارسة هذه المجالات.

الثانية: لأنها استسلمت للقطرية، وتجاهلت حقيقة وجود أمة واحدة، وهو ما يمكن أن تستفيد منه في مراحل البناء، وتستثمره في سنة التدافع مع الآخرين المخالفين في كل مجالات البناء الفردي والجماعي.

 

ثانيا- الخروج من عباءة "الإسلام السياسي":

صرحت حركة النهضة في أكثر من مرة أنها خرجت من عباءة "الإسلام السياسي" فقد جاء هذا الكلام في تصريحات للغنوشي، كما جاء في البيان الختامي، ونحن سننقل ما جاء في البيان الختامي، فقد جاء فيه القرار التالي: "يؤكد هذا المؤتمر التاريخي موضوع خياراته الاستراتيجية أن حزب حركة النهضة قد تجاوز عمليا كل المبررات التي تجعل البعض يعتبره جزءاً مما يسمى "الإسلام السياسي" وأن هذه التسمية الشائعة لا تعبر عن حقيقة هويته الراهنة ولا تعكس مضمون المشروع المستقبلي الذي يحمله"

والسؤال الآن: ما الذي تعنيه عبارة "الإسلام السياسي"؟ برز مصطلح "الإسلام السياسي" بعد الحرب العالمية الأولى، وأطلق على الحركات والأحزاب والجماعات التي قامت بعد الحرب العالمية الأولى مطالبة بإعادة الكيان السياسي للأمة الإسلامية والمتمثل بـ "دولة إسلامية"، وكذلك قامت مطالبة بإعادة "تطبيق الشريعة الإسلامية"، وكان أبرزها كما هو واضح من قراءة التاريخ واستعراض صفحاته: "الإخوان المسلمين" في مصر، و"الجماعة الإسلامية" في باكستان، و"حزب التحرير" في القدس إلخ....

وعندما يأتي الغنوشي وحزب حركة النهضة فيصرحان بأنهما فصلا علاقتهما بــــ "الإسلام السياسي" فما الذي يعنيه ذلك؟ يعني ذلك بكل وضوح أنهما لم يعودا يدرجان في أهدافهما: "الدولة الإسلامية"، و"تطبيق الشريعة".

وعندما نتابع نتائج المؤتمر العاشر لـ "حزب حركة النهضة" لا نجد أي حديث عن هذين الهدفين، مما يؤكد المعنى الذي ذهبنا إليه.

وليس من شك بأن استهداف إقامة "دولة إسلامية" وتطبيق "الشريعة الإسلامية" هو واجب شرعي على كل مسلم، وكذلك هو واجب على كل حزب أو جماعة أو تنظيم إسلامي، وهذا ما أقره العلماء والشرع، ويؤكد ذلك الصحابة –رضي الله عنهم- عندما انشغلوا عن دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو واجب بما هو أوجب وهو اختيار خليفة الرسول صلى الله عليه وسلم فاجتمعوا في سقيفة بني ساعدة واختاروا أبا بكر الصديق رضي الله عنه، ثم توجهوا إلى إجراءات دفن الرسول صلى الله عليه وسلم.

وعندما يأتي "حزب حركة النهضة" ويترك هذين الهدفين، فهذا تراجع عن مطلب شرعي، ونكوص عما تتطلبه معطيات الدين وواقع الأمة، وتطلعات جماهير الأمة.

ثالثاً- الفصل بين "الدعوي" و "السياسي":

طرح "حزب حركة النهضة" الفصل بين "الدعوي" و "السياسي" في البيان الختامي للمؤتمر العاشر لـ "حزب حركة النهضة" وقد جاء الكلام التالي: "اختارت النهضة في هذا المؤتمر التخصص في الشأن السياسي على أن تعود مجالات الإصلاح الأخرى التربوية والثقافية والدينية للمجتمع المدني".

وقد قدم المؤتمر، كما قدم الغنوشي وغيره من رجال الحزب مبررات لهذا الفصل بالجدوى والنجاعة من جهة، وبتحرير المجال الديني من تقلبات السياسة من جهة أخرى، فقد جاء في بيان المؤتمر العام العاشر لحزب حركة النهضة ما يوضح ذلك، فقد جاء عن قضية "الجدوى والنجاعة" في شأن المجال السياسي: "يتخصص الحزب في إصلاح الحياة السياسية والحقل العام والإدارة والحكم والقانون ويسهم في إعادة بناء المشهد السياسي حول قيمة الوسطية ويتولى المجتمع المدني بكامل الاستقلالية القيام على بقية مجالات الإصلاح"، كما جاء في شأن المجال الديني: " إن تحرير القدرات المواطنية في الفضاء الديني و مجالات الإصلاح الأخرى سيحرر المشتغلين فيها من الانتظارية المعطلة ومن الارتهان لتقلبات السياسة".

إن دعوى التخصص لا تكفي مبرراً لفصل المجال السياسي عن المجال الدعوي، يمكن أن تقيم عملك على أرقى قواعد التخصص للمجالين وتبقيهما تحت قيادة واحدة.

ومن قال إن فصلهما سيجعل المجال الديني في مأمن من التقلب السياسي، وهذا يحدث فقط عندما يتوقف الدعوي عند حدود المسجد ولا يتعداه، فيصبح مثل دور الراهب في الكنيسة المعاصرة، ولا شك أن الدعوي في الإسلام لا يتوقف عند حدود المسجد، بل يتعداه إلى السوق والإذاعة والتلفاز والأخلاق والمدرسة إلخ ...، فعندئذ لا أظن أنه سيصبح في مأمن من السياسة.

إن الفصل بين "الدعوي"، و"السياسي" هو فصل غير معلن بين "الدين" و"الدولة"، ويصبح هذا المعنى متحققاً عندما نعلم أن راشد الغنوشي لا يرى تناقضا بين الإسلام والعلمانية التي تنادي بفصل الدين عن الدولة، فقد كتب الغنوشي مقالاً بعنوان "الإسلام والعلمانية" بتاريخ 13-11-2008، وقد رددت عليه بمقال نشرته في الجزيرة.نت بعنوان "قراءة في مقال "الإسلام والعلمانية" للغنوشي" بتاريخ 16-3-2009، فندت فيه دعوى الغنوشي بإن الإسلام لا يتعارض مع العلمانية، وأثبت فيه أن الإسلام يتعارض حتى مع العلمانية الجزئية التي ميزها الغنوشي عن العلمانية الشاملة، وهو – أي الغنوشي- قد تبع الدكتور عبد الوهاب المسيري في هذا التمييز والتقسيم الخاطئ.

فالغنوشي -كما هو واضح- في مقاله السابق، لا يستنكر الفصل الذي تقوم عليه العلمانية وهو: فصل الدين عن الدولة، بل يعتبر الإسلام يقوم على هذا، وهو يلتقي مع العلمانية في هذا الفصل، وبالتالي يجعلنا نقول إن هذا الفصل بين "الدعوي" و"السياسي" هو تطبيق للعلمانية التي تفصل "الدين" عن "الدولة" ولا يتعارض هذا مع الإسلام من وجهة نظره التي أوضحها في مقاله السابق "الإسلام والعلمانية".

رابعاً- اعتبار الديمقراطية أساسا للدولة ومنهاجا للحكم:

صرح البيان الختامي للمؤتمر العاشر لـ "حزب حركة النهضة" بأنه سيعتمد الديمقراطية أساساً للحكم فجاء فيه القرار التالي: "يضمن الحياة الكريمة لكل التونسيين والتونسيات باعتماد الديمقراطية أساسا للدولة ومنهاجا في إدارة الشأن العام" كما وردت عبارات أخرى تؤكد المعنى السابق نفسه في أكثر من موضع من البيان الختامي، ومنها: "وتعتبر النهضة أن عملها مندرج ضمن اجتهاد أصيل لتكوين تيار واسع من "المسلمين الديمقراطيين" الذين يرفضون التعارض بين قيم الإسلام وقيم المعاصرة" وجاء أيضا "وتعني هذه الهوية الجديدة في هذه المرحلة الدقيقة من تاريخ بلدنا وأمتنا تبنّي النهضة للديمقراطية التوافقية والحوار والتفاوض والبحث عن كلمة سواء في إدارة شؤون بلدنا ولأولوية المصلحة الوطنية على المصالح الحزبية وعلى الاختلافات الإيديولوجية".

وعند العودة إلى "مصطلح الديمقراطية" نجد أنه يقوم على محورين:

1- مبادئ، وهي تشمل نسبية الحقيقة، ومادية الكون، والفردية المطلقة، واعتماد المصلحة أو المنفعة أو اللذة في كل عمل، وتقديمها على الأخلاق في حال التعارض.

2- آليات، وهي تشمل انتخاب الحاكم، محاسبة المسؤولين، وإطلاق حرية الرأي، وإقامة الشورى، وحرية تشكيل الجمعيات والنقابات والأحزاب إلخ ...

ونحن سنناقش المبادئ والآيات التي تقوم عليها الديمقراطية لنرى مدى قربها وبعدها عن الإسلام.

1- مبادئ الديمقراطية:

1- نسبية الحقيقة:

أما نسبية الحقيقة فديننا يقوم على أربعة أنواع من النصوص، أحدها: النص القطعي الثبوت القطعي الدلالة وهو يتعارض مع نسبية الحقيقة، ومعظم أحكام العقيدة والعبادة والاسرة والحدود والحلال والحرام مبنية على هذا النوع من النصوص، ولذلك فإن نسبية الحقيقة تتعارض مع أهم عوامل بناء الفرد المسلم والأمة المسلمة.

2- مادية الكون:

أما مادية الكون فهو الإيمان بالكون المحسوس المجرب المرئي المسموع إلخ...، أي الإيمان بعالم الشهادة، ولكن المسلم يؤمن بعالم الشهادة لكنه يؤمن بجانب ذلك بعالم آخر هو عالم الغيب، وهذا العالم يشمل وجود الله والجنة والنار والملائكة والشياطين والروح إلخ ...، وهذا ما تتنكر له المبادئ التي تقوم عليها الديمقراطية.

5- الحرية الفردية المطلقة:

أما الحرية الفردية المطلقة فقد تصل إلى حد حرية قتل النفس، وإلى حد حرية التصرف بالأموال بحيث يورثها إلى كلب أو هر، وإلى حد حرية التلاعب بالجنس، واعتبار الذكر نفسه أنثى في وقت ثم العودة إلى اعتبارها ذكراً، والعكس بالنسبة للأنثى.

ليس من شك أن مثل هذه الحرية تصطدم مع الحرية الفردية التي أقرها الإسلام، والتي تراعي الفطرة وحاجات الفرد الجماعية والمجتمع والأمة.

8- اعتماد المصلحة أو المنفعة أو اللذة في أي عمل:

أما بالنسبة لاعتماد المصلحة أو المنفعة أو اللذة في أي عمل من الأعمال فهذا أمر مقبول، لكن المشكلة في أن الحضارة الغربية تعتمد المنفعة والمصلحة واللذة وتقدمها على الأخلاق في حال التعارض.

2- آليات الديمقراطية:

فإذا تناولنا انتخاب الحاكم، فإننا نجد أبا بكر الصديق رضي الله عنه أخذ شرعيته من اختيار الأنصار والمهاجرين له في سقيفة بني ساعدة، ومبايعتهم له بعد ذلك.

وإذا تناولنا المحاسبة فقد حاسب كل من الرسول صلى الله عليه وسلم وعمر بن الخطاب رضي الله عنه بعض ولاتهم، واستردوا منهم أموالاً لصالح بيت مال المسلمين.

وإذا تناولنا حرية الرأي فإننا نجد أن امرأة حاججت عمر رضي الله عنه في شأن المهور فقال: "أصابت امرأة وأخطأ عمر".

وإذا تناولنا المشاورة فقد شكل عمر بن الخطاب رضي الله عنه مجلساً له من كبار الصحابة، كان يشاورهم في كل شؤون الخلافة، وسجل التاريخ أنه بقي الصحابة ردحاً من الزمن يتحاورون في شأن سواد العراق، هل يوزعونه على المتحاربين أم يبقونه مع أصحابه ويأخذون الخراج، وفي النهاية أخذ الصحابة بالرأي الذي يقول بإبقائه وأخذ الخراج لأن هذا الحكم يحقق عدة مصالح للمسلمين المعاصرين وللأجيال القادمة.  

بعد استعراضنا لبعض الآليات التي تقوم عليها الديمقراطية وجدنا أنها مقبولة، ولها أصل في تاريخنا، وأقرتها بعض كتب السياسة الشرعية والأحكام السلطانية.

لم يبين الغنوشي موقفه من محوري الديمقراطية: المبادئ والآليات، وإن كان الذي نتوقع منه أن يرفض المبادئ لأنها تتعارض مع الإسلام في كثير من أحكامها، وأن يقبل الآليات، لذلك فمن واجب الغنوشي أن يقوم بالتوضيح السابق، وأن يبين الجوانب المقبولة من الديمقراطية والجوانب المرفوضة، وأن لا أن يبقي الموضوع دون جلاء وتوضيح وإذا لم يفعل ذلك، فإنه يكون قد وقع في محظور شرعي.

استعرضنا -فيما سبق- أهم الأفكار والمبادئ التي طرحها الشيخ راشد الغنوشي على المؤتمر العاشر لـ "حزب حركة النهضة"، والتي تمثلت: في التخلص من الشمولية، والخروج من عباءة "الإسلام السياسي"، والفصل بين "الدعوي" و"السياسي"، واعتماد الديمقراطية أساساً للحكم.

ليس من شك بأنها تغييرات ضخمة في مجال الحركة الإسلامية، وتمثل منعطفاً في مسيرتها، ولكنها انعطاف في الاتجاه غير السليم، وفي اتجاه الرضوخ لقيم الحضارة الغربية.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين