قبسات من حياة الصديقة بنت الصديق رضي الله عنها

بقلم الشيخ: مجد مكي

 

هذه قبسات من حياة الصديقة السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وعن أبيها ، كتبها المشرف على الموقع ، وكانت في الأصل خطبة جمعة ألقاها في جامع الرضا بجدة في سلسلة خطب عن أمهات المؤمنين ، وقد وجدنا هذه الأوراق فأحببنا إحياءها ونشرها في هذا التجديد إحياءً لمناقب السيدة الكريمة حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، في وقت تطاول فيه المرجفون على مقام الصِّديقة ، ونعق الناعقون ،فانبرى العلماء والدعاة لوأد الفتنة ، فأخمدوا باطلهم ، وكشفوا زيفهم ، وكان ذلك سببا في تجديد نشر فضائلها ، وبيان مناقبها . 
 والشكر موصول للأخ طارق الذي يسعى لنشر هذه الآثار القلمية للمشرف ، فجزاه الله خير الجزاء

 اسمها وكنيتها:
اسمها الذي عُرفت به عائشة مأخوذ من العيش، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يناديها أحياناً : (يا عائش) على الترخيم. ففي البخاري عن عائشة قالت: (قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عائش، هذا جبريل يقرئك السلام...).
وطلبت من النبي صلى الله عليه وسلم أن تكتني، فقال: (اكتني بابنك عبد الله) يعني: ابن أختها أسماء: عبد الله بن الزبير.
والدها : 
عائشة بنت الإمام الصِّدِّيق الأكبر، خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أبي بكر: عبد الله بن أبي قحافة، عثمان بن عامر، بن عمرو بن كعب، بن سعد بن تيم سماه به النبي صلى الله عليه وسلم لما أسلم، وكان اسمه من قبل: عبد الكعبة.
ولقبه : عتيق،  واشتهر بالصدِّيق، فعندما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم وأصبح يحدث الناس بذلك، فارتد أناس كانوا آمنوا به، وسعى رجال من المشركين إلى أبي بكر، فقالوا: هل لك إلى صاحبك؟ يزعم أنه أسري به الليلة إلى بيت المقدس، قال: وقد قال ذلك ؟ قالوا: نعم. قال: لئن قال ذلك لقد صدق. قالوا: تصدقه أنه ذهب الليلة إلى بيت المقدس، وعاد قبل أن يصبح؟ قال: إني لأصدِّقه فيما هو أبعد من ذلك من خبر السماء... ثم انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسمع منه ويصدقه ويقول: أشهد أنك لرسول الله ).
وفي الصحيحين عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم صَعَد أُحداً فتبعه أبو بكر وعمر وعثمان فرجف بهم، فضربه النبي صلى الله عليه وسلم برجله، وقال: (اثبت أحد، فما عليك إلا نبي وصديق وشهيدان).
أمها: أم رومان بنت عامر بن عويمر بن عبد شمس، أسلمت قديماً، وهاجرت إلى المدينة، وتوفيت في حياة النبي صلى الله عليه وسلم سنة ست من الهجرة، كما قال ابن سعد، والصحيح أنها توفيت بعد ذلك لأن البخاري ذكرها في تاريخه فيمن مات في خلافة عثمان.
إخوتها: تزوج أبو بكر في الجاهلية: قتيلة بنت عبد العزى القرشية العامرية، فولدت له: عبد الله، وأسماء، وتزوج أم رومان، وولدت له: عبد الرحمن، وعائشة، وتزوج في الإسلام: أسماء بنت عميس رضي الله عنها، فولدت له محمداً، وتزوج أيضاً: حبيبة بنت خارجة، فولدت له بعد وفاته بنتاً سميت: أم كلثوم.
الأسرة المهاجرة المجاهدة:
هذه هي أسرة السيدة عائشة، أسرة مسلمة مهاجرة، بادر كل أفرادها إلى الإسلام، عدا عبد الرحمن، وهو شقيق السيدة تأخَّر إسلامه وشهد بدراً وأحداً مع المشركين، ودعا إلى البراز يوم بدر، فقام إليه أبوه ليبارزه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أمتعني بنفسك) ثم منَّ الله عليه فأسلم في هدنة الحديبية.
ولم تبلغ أسرة من الأسر المسلمة ما بلغته أسرة أبي بكر في جهادها وتضحيتها ويكفي هذه الأسرة فضلاً ما قدَّمته في هجرة النبي التي تعد أعظم تحول في تاريخ الدعوة الإسلامية.
وبذل كل أفراد هذه الأسرة رجالاً ونساءً جهوداً كبيرة حتى تمت الهجرة،ووصل صلى الله عليه وسلم إلى المدينة سالماً.
قدم له أبو بكر رضي الله عنه إحدى راحلتيه، وقطعت أسماء قطعة من نطاقها ربطت به على فم الجراب، فبذلك سميت: ذات النطاقين.. وعندما كمنا في الغار ثلاث ليال كان يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر وهو غلام شابٌ ثقف لقن، كان يأتيهما بأخبار قريش، وكان عامر بن فُهير مولى أبي بكر يرعى عليهما منحةً من غنم، ويمر عليها مساء.
وتحمَّل أفراد الأسرة شدَّة العيش من أجل الهجرة، فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرج أبو بكر رضي الله عنه معه، احتمل ماله كله خمسة آلاف درهم، قالت أسماء: فدخل علينا جدي أبو قحافة رضي الله عنه وقد ذهب ببصره. فقال: والله إني لأراه قد فجعكم بماله مع نفسه. فقالت: كلا يا أبت إنه قد ترك لنا خيراً كثيراً. قالت: وأخذتُ أحجاراً فوضعتها في كوة البيت الذي كان يضع فيه أبي ماله فيها، ثم وضعت عليها ثوباً، ثم أخذت بيده فقالت: يا أبت ضع يدك على هذا المال. قالت: فوضع يده عليه. فقال: لا بأس إذا كان قد ترك لكم هذا فقد أحسن، وفي هذا بلاغ لكم. ولا والله ما ترك لنا شيئاً، ولكن أردت أن أسكن الشيخ بذلك..
ولادتها: ولدت عائشة رضي الله عنها في بيت الصدق والإيمان، وهي أصغر من السيدة فاطمة الزهراء بثماني سنين. وكانت ولادتها قبل الهجرة، بسبع سنوات.
طفولتها وصباها: وفي سنوات طفولتها مرت الدعوة إلى الإسلام بأشد مراحلها، وتعرَّض المسلمون لأقسى أنواع الأذى والاضطهاد، وقد حدثتنا عائشة عن بعض ما أصاب والدها من الأذى حتى خرج مهاجراً إلى أرض الحبشة، ولما بلغ بَرْك الغماد لقيه ابن الدُّغنّة وأجاره من أذى قريش.
وكانت في طفولتها كثيرة اللعب، دائبة الحركة، لها أرجوحة تلعب بها... وكان صلى الله عليه وسلم يقدِّر حداثة سنها وحاجتها إلى اللعب، فكان يُسرِّب لها صواحباتها يلاعبنها، ويمكنها من رؤية السودان وهم يلعبون بحرابهم في المسجد، ولذلك كانت السيدة تنصح الآباء والأمهات بعد ذلك فتقول: (فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن تسمع اللهو). وكان لها لعب تلعب بها... وتقول: دخل علي رسول الله وأنا ألعب بالبنات. فقال: ما هذا يا عائشة؟ فقالت: خيل سليمان ولها أجنحة، فضحك...
الخطبة المباركة: إن أعظم ذكريات المرأة التي تحنُّ إليها ذكريات خطبتها، وكلما أحبت المرأة زوجها عظمت في نفسها تلك الذكريات... ولقد أحبت عائشة زوجها أعظم حب وأشرفه، وحق لها ذلك، فمن ذا الذي يُحَب إن لم يُحَب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وظلت ذكريات خطبتها وأحاديث زواجها منطبعة في سويداء قلبها.
أول مراحل الخطبة كانت وحياً من الله سبحانه، أخبر عن هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال لعائشة: (أريتك في المنام ثلاث ليال، جاءني بك الملك في سَرَفة من حرير، فيقول: هذه امرأتك، فأكشف عن وجهك فإذا أنت هي فأقول: إنْ يكُ هذا من عند الله يُمضيه) متفق عليه  ـ سَرَفة: قطعة قماش من حرير فيها صورة عائشة رضي الله عنها.
وأخرج الترمذي عن السيدة عائشة رضي الله عنها أن جبريل جاء بصورتها في خرقة حرير خضراء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (هذه زوجتك في الدنيا والآخرة).
قالت عائشة: لما ماتت خديجة رضي الله عنها جاءت خولة بنت حكيم، فقالت: يا رسول الله ألا تتزوج؟ قال: ومن؟ قالت: إن شئت بكراً، وإن شئت ثيِّباً. قال: مَن البكر ومَن الثيِّب؟ قالت: أما البكر فعائشة ابنة أحب الخلق إليك، وأما الثيِّب فسودة بنت زمعه، فقد آمنت بك واتبعتك. قال: اذكريهما عليَّ. قال: فأتيت أم رومان. فقلت: ما أدخل الله عليكم من الخير والبركة؟ قالت: ماذا ؟ قالت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر عائشة قالت: انتظري فإن أبا بكر آتٍ، فجاء أبو بكر فذكرت له ذلك فقال لها: قولي لرسول الله صلى الله عليه وسلم فليأت فجاء فملكها...
العروس المهاجرة:
لم تنتقل السيدة إلى بيت النبوة ولم يبن بها النبي صلى الله عليه وسلم فور خطبتها لحداثة سنِّها، وكثرة المصاعب التي واجهتها النبي صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة.
الزواج الميمون:
في السابع عشر من رمضان من السنة الثانية وقعت معركة بدر، وأعزَّ الله نبيَّه صلى الله عليه وسلم فمكَّنه من رؤوس المشركين في قريش، وكان يوم بدر من أيام الإسلام الكبرى، وفرح النبي بهذا النصر، وعمَّت الفرحة جميع المسلمين، فوجد صلى الله عليه وسلم في تلك الأيام وقتاً مناسباً للبناء بعائشة رضي الله عنها.
وشهد شهر شوال من هذه السنة (الثانية) زواج النبيِّ صلى الله عليه وسلم بعائشة رضي الله عنها: فانتقلت إلى بيت النبوة ومهبط الوحي.. وكان هذا الانتقال أعظم حدث في حياتها ومن أجله أحبت شهر شوال: (تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم في شوال، وبنى بي في شوال، فأي نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت أحظى عنده مني، وكانت عائشة تستحب أن تدخل نساءها في شوال).
يوم الزفاف:
تقول السيدة عائشة: قدمنا المدينة فوعكت شهراً فضعف جسدها، وتساقط شعرها، وأخذت أمها تهيؤها للزواج، فأتتني أم رومان، وأنا على أرجوحة ومعي صواحبي، فصرخت بي، فأتيتها، فأخذت بيدي، فأدخلتني بيتاً فإذا نسوة من الأنصار، فقلن: على الخير والبركة، وعلى خير طائر، فأسلمتني إليهن، فغسلن رأسي، وأصلحنني، ولم يرعني إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحى، فأسلمنني إليه).
ووصفت السيدة عائشة وليمة العرس فقالت: لا والله ما نحرت عليَّ من جزور ولا ذبحت من شاة، ولكن جفنة بعث بها سعد بن عبادة، وقدم النبي إلى ضيوفه اللبن مع الطعام.
قالت أسماء بنت يزيد: كنت فيمن جهز عائشة وزفها، فعرض علينا النبي صلى الله عليه وسلم لبناً. فقلنا: لا نريده. فقال صلى الله عليه وسلم: لا تجمعن جوعاً وكذباً.
وتقول أسماء: إني زيَّنت عائشة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ،فجاء فجلس إلى جبنها فأتى بعُس لبن فشرب، ثم ناولها النبي صلى الله عليه وسلم فخفضت رأسها واستحيت، قالت أسماء: فانتهرتها، وقلت لها: خذي من يد النبي. قالت: فأخذت فشربت شيئاً، ثم قال لها النبي: أعطي تربك.
مهر العروس:
المهر حق شرعي في الإسلام للمرأة، يقدمه الزوج لزوجته تعبيراً عن تقديره لها:[وَآَتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً] {النساء:4}.وقدم النبي صلى الله عليه وسلم للسيدة عائشة رضي الله عنها مهراً مقداره خمسمائة درهم..
مهبط الوحي:
أسكن النبي صلى الله عليه وسلم السيدة عائشة رضي الله عنها في حجرة ملاصقة للمسجد، وهي واحدة من حجرات بناها صلى الله عليه وسلم لنفسه عندما بنى المسجد بعد وصوله إلى المدينة.
وكانت بيوتاً من جريد النخيل، مستورة بمسوح الشعر، في شرقيِّ المسجد وشماله.
 قال الحسن:( كنت أدخل بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في خلافة عثمان فأتناول سقفها بيدي) ، وعندما أمر الوليد بن عبد الملك بإدخال الحجرات إلى المسجد قال سعيد بن المسيب: ( ليتها تُركت فلم تهدم حتى يقصر الناس عن البناء، ويروا ما رضي الله لنبيه، ومفاتيح خزائن الدنيا بيده ).
وضُمَّت الحجرات إلى المسجد إلا حجرة السيدة عائشة رضي الله عنه فقد بقيت لأن فيها دفن النبي صلى الله عليه وسلم وصاحباه ولا تزال إلى الآن في ظلال القبة الخضراء.
عُرفت هذه الحجرة بـ (مهبط الوحي) لكثرة الوحي الذي هبط على النبي صلى الله عليه وسلم فيها.
جهاز العروس:
وصفت رضي الله عنها جهاز حجرتها، فقالت: (إنما كان فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ينام عليه أَدَماً، حشوه ليف) ولم يكن لها غير فراش واحد في أول الأمر.
وضمَّت بعض الوسائد إلى أثاث حجرتها، ولم يكن في حجرة السيدة العروس مصباح تستضيء به.
كنت أنام بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجلاي في قبلته فإذا سجد غمزني، فقبضت رجليّ، فإذا قام بسطتها، قالت: والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح)البخاري.
ولِمَ لمْ يكن فيها مصابيح؟ أجابت السيدة عائشة سائلها: لو كان عندنا دهن لأكلناه.
تلك هي الحجرة التي عاشت فيها السيدة قرابة خمسين عاماً، لم يكن فيها إلا فراش وسرير وبعض الوسائد..
معيشتها:
إذا كانت حجرة عائشة رضي الله عنها وأثاثها كما وصفنا فكيف كانت معيشة السيدة فيها؟
وصفت السيدة عائشة رضي الله عنها لابن أختها عروة معيشة أمهات المؤمنين في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنْ كنا لننظر الهلال ثم الهلال ثم الهلال ثلاثة أهلة في شهرين وما أوقدت في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نار. فقلت: يا خالة :ما كان يعيشكم؟ قالت: الأسودان: التمر والماء، إلا أنه قد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم جيران من الأنصار، وكانت لهم منائح، وكانوا يمنحون رسول الله صلى الله عليه وسلم من ألبانهم فيسقينا).
وتقول: ما شبع آل محمد من خبز بر مأدوم ثلاثة أيام حتى لحق بالله.
وماذا كان في بيت النبي صلى الله عليه وسلم عند وفاته؟ تقول عائشة: (توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وما في بيتي شيء يأكله ذو كبد إلا شطر شعير في رفٍّ لي، فأكللت منه حتى طال عليَّ، فكلته ففني).
ولقد رُهن له درع عند يهودي بعشرين صاعاً من طعام أخذه لأهله.
التخيير : حملت شدة العيش أمهات المؤمنين أن يسألن رسول الله صلى الله عليه وسلم توسيع النفقة عليهن، فغضب منهن، واعتزلهن في مشربة له (غرفة عالية) ثم أمره تبارك وتعالى أن يخيِّر نساءه بين أن يفارقهن فيذهبن إلى غيره مما يحصل لهن عنده الحياة الدنيا وزينتها، وبين الصبر على ما عنده من ضيق الحال، ولهن عند الله الثواب الجزيل، فاخترن ـ رضي الله عنهن ـ الله َورسولَه والدار الآخرة، فجمع الله لهن بعد ذلك خير الدنيا والآخرة.
وبدأ أول ما بدأ بعائشة فقال صلى الله عليه وسلم: إني ذاكرٌ لك أمراً فلا عليك ألا تعجلي حتى تستأمري أبويك. قالت: قد علمت أن أبواي لم يكونا يأمراني بفراقه، فقلت: في هذا أستأمر أبوي؟ إني أريد الله ورسوله والدار الآخرة.
خير الأزواج:
كان صلى الله عليه وسلم خير الأزواج وألطفهم بأهله، ووصفت لنا السيدة عائشة رضي الله عنها حُسْن معاملته لهن، ولطفه بهن.
1 ـ قدَّر حداثة سن السيدة عائشة وحاجتها إلى اللعب، فكان يسرِّب إليها صواحبها يلاعبنها، ويمكنها أن تضع رأسها على كتفه الشريف وهي خلفه لتنظر إلى الأحباش يلعبون بحرابهم في المسجد.
وكان يوم عيد وهو يقول: تشتهين تنظرين؟ وهو يقول: دونكم يا بني أرفدة، حتى إذا مللت قال : حسبك.
2 ـ ومن لطفه بهن أنه كان يمازحهن ويضاحكهن.
قالت: أتيت النبيَّ بحريرة قد طبختها له، فقلت لسودة والنبي بيني وبينها: كلي، فأبت، فقلت: لتأكلين أو لألطخنَّ وجهك، فأبت، فوضعت يدي في الحريرة، فطليت وجهها، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم وقال لها: الطخي وجهها، ففعلت، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم فمرَّ عمر، فظن أنه سيدخل، فقال: قوما فاغسلا وجوهكما، قالت عائشة: فمازلت أهاب عمر لهيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ) أبو يعلى.
الحبيبة النبوية:
لم يستطع النبي صلى الله عليه وسلم أن يسوِّي بين زوجاته بالمودة والمحبة، لأن ذلك منوط بالقلب، ولا سلطان للإنسان على قلبه:[ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ المَرْءِ وَقَلْبِهِ] {الأنفال:24}. وهذا مراد الآية: [وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ] {النساء:129}.
وقد احتلت السيدة عائشة في قلب النبي صلى الله عليه وسلم منزلة في المحبة رفيعة لم يصل إليها غيرها من أمهات المؤمنين.
وعرف الصحابة للسيدة هذه المنزلة، فكانوا ينتظرون يوم عائشة ليقدِّموا للنبي  صلى الله عليه وسلم  هداياهم، وهو عندها، حتى أثار ذلك غيرة أمهات المؤمنين.
قالت عائشة: (كان الناس يتحرون بهداياهم يوم عائشة، فاجتمع صواحبي إلى أم سلمة، فقلن: يا أم سلمة، والله إن الناس يتحرون بهداياهم يوم عائشة، وإنا نريد الخير كما تريد عائشة، فمري رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأمر الناس أن يهدوا إليه حيث ما كان، قالت: فذكرت ذلك أم سلمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: فأعرض عني. فلما عاد إليَّ، ذكرت له ذاك فأعرض عني، فلما كان في الثالثة ذكرت له فقال: يا أم سلمة لا تؤذيني في عائشة، فإنه والله ما نزل عليَّ الوحي وأنا في لحاف امرأة منكن غيرها).
ولما سأله عمرو بن العاص: من أحبُّ الناس إليك؟ قال: عائشة. قال: ومن الرجال ؟ قال: أبوها.
ولما كبرت سودة بنت زمعة أم المؤمنين جعلت يومها من رسول الله صلى الله عليه وسلم لعائشة.
وظلت السيدة الزوجة الأثيرة الحبيبة، إلى أن توفي صلى الله عليه وسلم وقد استأذن أزواجه في مرض الوفاة أن يُمَرَّض في بيت عائشة، فأذن له، وكانت تقول : توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي وبين سحري ونحري ـ وهو مستند إلى صدرها ـ.
الزوجة المثالية:
خصَّ الله تعالى عائشة رضي الله عنها بكثير من الفضائل والمزايا حتى نالت المنزلة الرفيعة فمن ذلك:
1 ـ فهي بنت الصِّديق، أحب الخلق إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وكثيراً ما كان يناديها يا بنت الصديق، يا بنت أبي بكر.
2 ـ اهتم بها الوحي كثيراً، ونزل بصورتها على النبي صلى الله عليه وسلم، وقوله صلى الله عليه وسلم: (إنه ما نزل عليَّ الوحي وأنا في لحاف امرأة منكن غيرها).
3 ـ وسلام جبريل عليها وإخباره صلى الله عليه وسلم لها بذلك فقالت: وعليه السلام ورحمة الله وبركاته، ترى ما لا أرى، كما أنها رأت جبريل عندما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم بعد غزوة الخندق يأمره بالتوجه إلى يهود قريظة.
4 ـ ونزلت ببراءتها آيات قرآنية، وبسببها نزلت آية التيمم لما انقطع عِقْدها، وأقام صلى الله عليه وسلم مع الناس على التماسه، وليسوا على ماء، فأنزل الله آية التيمم، فتيمَّموا، وقال أُسيد بن حُضير: (ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر).
5 ـ وهي البكر الوحيدة التي تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصغر أمهات المؤمنين سناً، وقد كانت تفتخر بهذا وتدل أحياناً به  أمام النبي صلى الله عليه وسلم فتقول له: أرأيت لو نزلت وادياً وفيه شجرة قد أكل منها، ووجدت شجراً لم يؤكل منها، ففي أيها كنت ترتع بعيرك؟ قال: (في الذي لم يُرتع منها) تعني: أن رسول الله لم يتزوج بكراً غيرها.
6 ـ يضاف إلى ذلك كله ذوقها الرفيع، وأدبها البديع، وفصاحة لسانها، وعلو بيانها، ولنسمع إلى جوابها  للنبي صلى الله عليه وسلم عندما قال لها في حديث أم زرع: (كنت لك كأبي زرع لأم زرع...) قالت: يا رسول الله بل أنت خير من أبي زرع.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لأعلم إذا كنت عني راضية، وإذا كنتِ عليَّ غضبى، قالت: فقلت من أين تعرف ذلك؟ فقال: إذا كنت عني راضية، فإنك تقولين: لا ورب محمد، وإذا كنت غضبى قلت: لا ورب إبراهيم. قالت: أجل والله يا رسول الله، ما أهجر إلا اسمك.
7 ـ وفوق كل ذلك حرصها على أن تظهر أمامه بأجمل مظهر وأكمل زينة، فهي مثال للزوجة الصالحة التي وصفها بقوله: (الدنيا متاع... إن نظر إليها سرَّته، وإن أمرها أطاعته، وإن غاب عنها حفظته..).
فكانت كثيرة الاهتمام بمظهرها وزينتها، وكانت تنصح النساء أن يتزيَّن لأزواجهن..
كما كانت حريصة على تزيين حجرتها، ولشهرتها بذوقها الرفيع كانت نساء المدينة يستعرن بعض ثيابها ليُلبِسنها عرائسهنَّ ليلة زفافهن.
دروس من حادثة الإفك:
1 ـ كانت هذه الحادثة تمييزاً وفضحاً للمنافقين الذين يوهنون المجتمع الإسلامي، ويكيدون للمسلمين، وانكشف بسببه أمر كثير من المنافقين المندسين في المجتمع الإسلامي.
2 ـ كما كان بين المسلمين أنفسهن بعض الغافلين المعرَّضين للانزلاق، يستهينون بأمثال هذا الأمر، ولا يلقون له بالاً، فكانت الحادثة تنبيهاً وإيقاظاً لهم، يرتدعون من الوقوع بأمثالها.
3 ـ وإذا كان الأمر فضحاً للمنافقين، وتنبيهاً للغافلين من المسلمين فقد كان تثبيتاً للمؤمنين، وبرهاناً على صحة إيمانهم.
4 ـ كما أنه تحذير للمؤمنين، لضرورة التثبت في كل أمر، والبعد عن التسرع فلا يغمض عينيه، ويتبع ما يقول الناس أو يبديه له هواه..
5 ـ ويبين أمر الإفك أن الإنسان مهما ارتفع قدره، وعلت منزلته، معرَّض لأيِّ نوع من الابتلاء، فعليه أن لا يستكين لدرجته ويطمئن إلى مكانه، بل عليه أن يوطن نفسه على البلاء في جسمه وماله وعرضه، فإذا أنزلت به نازلة، أو حلَّت بساحته مصيبة، لا يتزعزع ولا ينحرف كالذين قال الله تعالى فيهم:[وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْفٍ...] {الحج:11}.
6 ـ ويصحح لنا أمر الإفك المقاييس التي نستعملها في فهم الحياة، وما يحسبه بعض الناس أن الابتلاء سبب في غضب الله على العبد، وأن النعيم دليل على رضا الله عن العبد:
فلو كانت الدنيا جزاءً لمحسن            إذن لم يكن معاش لظالم
لقد جاع فيها الأنبياء كرامة               وقد شبعت فيها بطون البهائم
7 ـ يُبصِّرنا أيضاً بالحياة، وأن الغاية منها ليس الاستمتاع والسعي للأهداف الجزئية، وطلب الربح، فالحياة ليست غاية بذاتها، وإنما جعلت للاختبار والابتلاء:[أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ] {العنكبوت:2}.
وهذا الابتلاء قد يكون في العافية والغنى والجاه، أو ما تكرهه وتنفر منه كالابتلاء في الجسم والسمعة والمال والولد:[ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالخَيْرِ فِتْنَةً] {الأنبياء:35}.
8 ـ والبلاء قد يكون نعمة ينعم الله على عباده الذين يعرفون غايتهم: (أشد الناس بلاءً الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل).
والبلاء مجال لنيل ثواب الله ورضوانه: (إذا أحب الله عبداً ابتلاه) ،ولذلك كان حديث الإفك من أعظم النعمة والفضل.
9 ـ وفي أمر الإفك عظة بليغة، إذ فيها مواساة كبيرة لمن وقع في شدة أو اختبار، وخاصة إذا تعلق بعرضه وسمعته، فله أسوة برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولن يكون أحد أكرم على الله من رسوله، فإذا امتحن الله رسوله بذلك ليزيد أجره ومنزلته، فله التأسي والتذكير مما يخفف عنه مصابه، ويثبت أقدامه.
10 ـ وأمر الإفك يبين لنا صفاء المؤمن، وصحة نظريته وسداد تفكيره، فلا تلتبس عليه الأمور. فها هو أبو أيوب الأنصاري تقول له زوجه أم أيوب: يا أبا أيوب، أتسمع ما يقول الناس في عائشة ؟ قال: بلى؛ وذلك الكذب، أكنت يا أم أيوب فاعلة؟ قالت: والله، ما كنت لأفعله. فقال: فعائشة والله خير منك. [لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ المُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ] {النور:12} 
11 ـ وحديث الإفك بلسم للمذنبين، ودعوة رفيقة للخاطئين:[ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ] {الأعراف:156}.[قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ] {الزُّمر:53}.
فهؤلاء الذين وقعوا في هذا الأمر العظيم، وأساؤوا إلى زوج الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، قد وسعتهم رحمة الله لما تابوا فتاب الله عليهم.
12 ـ كما أن الإفك يشير إلى ما يخطئ به كثير من الناس حينما يرون سوءاً قد انتشر فينزلقون فيه، ويغرقون فيه، ظانين أن بقاءهم وحدهم لا معنى له، وقد وقع الناس فيه، ويحسبون أن انتشاره في الناس كاف لتغيير حكمه ورفع العقاب عن مرتكبه، والآيات التي نزلت بشأن الإفك تنصُّ بوضوح على أن:[ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ...] {النور:11}.
13 ـ وهو دعوة صريحة لما يغفل عنه كثير من المسلمين الآن، أن لا نستصغر ما نحسبه صغيراً ولا نستهين بما نظنه هيناً:[ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ] {النور:15}.
(إن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله، ولا يلقي لها بالاً يهوي بها في جهنم).
(إن الشيطان قد يئس أن يعبد في أرضكم ولكنه رضي بما تحقرون من أعمالكم).
يقول ابن مسعود رضي الله عنه: (إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه في أصل جبل يخاف أن يقع عليه، وأن الفاجر يرى ذنوبه كذباب طار على أنفه فقال به هكذا وهكذا).
14 ـ نتعلم أن لا ننفرد بأمورنا، بل نستشير في موضع الاستشارة، ونعلن في موضع الإعلان، ونعلن حين لا يدعو الأمر إلى الكتمان، فإن السيدة عائشة لو أعلمت من حولها أنها ستبحث عن عقدها، لما احتملوا الهودج، وساروا بدونها.
15 ـ القرآن لم ينزل مباشرة ببيان الأمر، إنما كان ذلك بعد شهر من الحادثة، لتعليم المؤمنين على الطريقة الصحيحة والتفكير السديد والتصرف الحميد.
سجاياها رضي الله عنها:
عندما لحق النبي صلى الله عليه وسلم بربه، كانت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها لم تخط إلى التاسعة عشرة من عمرها.
 وقد رزقت أمنا عائشة بحافظة قوية، وبلغ ما روته من الأحاديث الشريفة ألفين ومئتين وعشرة أحاديث، وهو أعلى وأكبر عدد تروية امرأة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي معدودة من الصحابة السبعة الذين بلغت مروياتهم أكثر من ألف حديث، وهم: أبو هريرة، وأنس، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن مسعود، وجابر، وأبو سعيد الخدري رضي الله عنهم جميعاً.
إنها رضي الله عنها  التلميذة النجيبة النبوية، وهي معلمة العلماء، وسيدة المفسرين، وأستاذة المحدثين، وفقيهة نساء الأمة، فقد كانت من الصحابة المكثرين في الفتيا، الذين يرجع إليهم في كل ما يتعلق بأحكام الشريعة.
يقول الزهري: لو جمع علم عائشة رضي الله عنها إلى علم جميع أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وعلم جميع النساء لكان علم عائشة أفضل.
الصديقة عائشة والفضائل الكريمة العطرة:
لا نستطيع أن نحصي فضائل ومناقب أم المؤمنين، ولكننا نورد زهرة من رياض حبيبة الحبيب، ونعرض بعض فضائلها التي تعلو كالأنجم في السماء الزاهية.
ففي مجال الزهد: كانت من أشد الناس زهداً، وإعراضاً عن متاع الحياة الدنيا، على الرغم من السعة التي أوسع الله على المسلمين، فكانت تريد الآخرة وتسعى لها سعيها كيما تلتقي برسول الله صلى الله عليه وسلم.
وإذا طرقنا باب الجود ، وخضنا بحره، وجدنا أم المؤمنين رضي الله عنها لجتها المعروف، وجودها ليس له قرار، فقد بلغت مبلغاً لفت إليها الأنظار.
يقول عروة: لقد رأيت عائشة تقسم سبعين ألفاً، وإنها لترقع جيب درعها.
وذكر عروة  : أن معاوية بعث إلى عائشة بمئة ألف درهم، فوالله ما أمست حتى فرقتها، فقالت لها مولاتها: لو  اشتريت لنا من هذه الدراهم بدرهم لحماً، فقالت عائشة: ألا قلت لي؟ وكانت عائشة يومذاك صائمة، فأكرم بجودها وزهدها.
وأما عبادتها: فقد تأثرت بعبادة النبي صلى الله عليه وسلم ومنهجه فيها، فكانت تقوم الليل، وتصوم الدهر، وتحب الاعتمار والحج...
ولو رحنا نتتبع مناقب وفضائل الصديقة بنت الص

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين



التعليقات