قائد الثورة السورية الكبرى

قائد الثورة السورية الكبرى

د. عبد الجواد حردان

 

بدر الدين الحسني علامة الشام المحدِّث المجاهد الزاهد الورِع التقي الصوَّام القوَّام العلَّامة بدر الدين الحسني (1267 – 1344 ه =1850-1935م) ولد في دمشق قرب دار الحديث بالأشرفية، ابن الصالحة العابدة التقية عائشة الكزبري والعلامة الأزهري الشيخ يوسف المراكشي معمِّر دار الحديث وإمامها وأستاذ علماء عصره في مصر ثم الشام تدريسًا وتأليفًا، فمن تلاميذه شيخ الإسلام حسن العطار والعلامة الصاوي والشيخ الفضالي والشيخ حسن القويسني، ومن زملائه العلامة الأشموني.

ولما بلغ بدر الدين السابعة رأى والده النبي -صلى الله عليه وسلم- يطعمه ثمرة، ثم رآه مرة ثانية يسقيه حليبًا، وقال له: هذا الولد ينتفع به المسلمون، وفي العشرين من عمره تزوَّجَ ابنة علامة الشام محيي الدين العاني الرفاعي، وله منها بنات وولد اسمه محمد تاج الدين من أعلام علماء دمشق.

انقطع الشيخ لطلب العلم من العاشرة حتى الثالثة عشرة، فحفظ القرآن الكريم، ولزم الشيخ أبا الخطيب بعد وفاة والده، فحفظ في سنتين ستة آلاف بيت من المتون في علوم مختلفة منها ألفية ابن مالك والشاطبية وألفية الحديث للعراقي، وشفعَها بقراءة شروحها وهو دون الثامنة عشرة، وألَّف شروحًا لبعضها ولما يبلغِ العشرين، وحفظ عددًا من كتب الحديث بأسانيدها بدءًا بالصحيحين، وله كتب في علوم شتى ومكتبة مخطوطات نفيسة، ودرَّس الحديث في المسجد الأموي غائصًا في العلوم العقلية والنقلية والتجريبية، وأقرأَ تفسير البيضاوي غيبًا، وطاف بلدانًا كثيرة منها مصر والحجاز والآستانة، ورحل إليه العلماء من سائر الأقطار لطلب العلم والإجازة، ونعتوه بالمجدد وقطب الزمان وصاحب الوقت، وممن أخذ عنه الشيخ محمد بخيت والشيخ الكتاني، ثم اعتزل سبع سنوات عاكفًا على علم الحديث حتى صار حجةً فيه.

ورغم أنه عُيِّنَ مفتيًا للجيوش في الدولة العثمانية إلا أنه كان يتورع في الفتاوى، وكثيرًا ما كان يُحيلها إلى بعض تلامذته، وكان شيخ الإسلام في الآستانة يقول عنه: إنه قطب العالم الإسلامي، ثم صار شيخَ الإسلام في عهد الملِك فيصل، وكان يشفع للناس عند الحكَّام، ويكتب إلى الملوك والأمراء في أقطار الأرض يحثهم على العدل وإقامة الحق بين الخلق(1) ، وقد اشتهر بجهاده للباطل حتى إنه هو أولَ من أشعل فتيل ثورة سورية الكبرى لطرد المحتل الفرنسي خلافًا لما يروِّجه القوميون والطائفيون، نعم كان لثورة سورية الكبرى (1925-1927م) أسباب مباشرة، منها أعمال الظلم التي أنزلها الفرنسيون بالفريق الوطني، وأمَّا مُوقِدَ شرارة الثورة وموجِّه قادتها فهو الشيخ بدر الدين الحسني رحمه الله، "لقد رحل مولانا المحدث الأكبر ضمن المدن الشامية حاثًّا على الثورة ضد الفرنسيين، فما كاد يعود من رحلته حتى هبت الثورة السورية في جميع أنحاء البلاد، وها هي جريدة الأحرار تنشر في العدد 678 السنة الرابعة، شعبان سنة 1345هـ نصَّ تقريرٍ للمندوب السامي الفرنسي يفيد بأن رحلة مولانا المحدث الأكبر هي الداعية إلى الثورة، وقد قدَّم هذا التقرير كشكوى من الحكومة الفرنسية إلى عصبة الأمم تشكو من أثر مولانا المحدث الأكبر على نشاط الثوار، وأنه هو المغذي الحقيقي للثورة ماديًّا ومعنويًّا، وأن أثره في البلاد هو الذي فجر الثورة(2) .

وانطلقت حركته من دمشق إلى حمص بتاريخ 7حزيران 1925، ثم إلى حماة بتاريخ 11 حزيران، وحلب بتاريخ 28 حزيران، وإدلب بتاريخ 7 تموز، ثم بعلبك في 17 تموز، وبيروت في 18 تموز، ثم وصل مشارف الشام في 19 تموز، وأشرف يومئذٍ مدير الشرطة العامة نفسه على تنظيم الناس لاستقبال المحدث الأكبر، وبعد عودة مولانا المحدث الأكبر من هذه الرحلة اندلعت الثورة السورية من أقصى البلاد حتى أدناها، وهب الفرنسيون بقواتهم المدججة يضربون دمشق، ويحرقون أكثر البيوت، فقام الثوار بتهديد القوات الفرنسية بأنه إذا لم توقف السلطات الفرنسية ضرب دمشق فسيقتحمون دمشق، ويأخذون مولانا المحدث الأكبر بالقوة ويبايعونه بالخلافة الإسلامية، ويدعون جميع مسلمي الأرض إلى الجهاد المقدس تحت لوائه(3) .

يقول علي الطنطاوي رحمه الله: "أما السبب المباشر فهو جولة الشيخ بدر الدين في مدن سورية، وكانت هذه الجولة هي الشرارة التي أشعلت الثورة، لا أقول هذا من عندي ولا نقلًا عن الثقات العارفين، مشايخي وصحبي كلهم يعرف هذا، ويعرفه كل من أدرك تلك الأيام، ولكن أنقله عن تقرير رسمي لمندوب المفوض السامي الفرنسي، نشرته جريدة الأحرار في بيروت العدد 678(4) .

انطلاقة الثورة

من الكتَّاب من يتجاهل المحرِّك الحقيقي المباشر لثورة سورية الكبرى، وينسبون كلَّ شيء إلى القادة الوطنيين وبعض الدروز رغم أن جميعهم كان قد اكتفى بالدعوة إلى الثورة الفكرية فقط حتى هبَّ عالم الأمة الشيخ بدر الدين الحسني وفجَّر الثورة، (وقام علماء دمشق الشيخ بدر الدين الحسيني والشيخ علي الدقر يطوفون في المحافظات، ويدعون الناس لجلب السلاح والتمرين عليه والاستعداد لمواجهة العدو، وكانت كلمة الشيخ بدر الدين والشيخ علي الدقر : "اللص دخل داركم ليسرق مالكم ودينكم، استعدوا وتمرنوا على السلاح"، فهم أول من دعا للثورة وحرَّض الشعب لقتال العدو، وطلب الشيخان من قادة الثورة الحضور للاجتماع في دار آل غبور  والتفاهم معهم، فجرى في هذا الاجتماع تشكيل لجنة من رجال الغوطة والمجاهدين لتأمين طلبات المجاهدين دون أن يتعرض أحد لرجال الغوطة، وأُنيط بهذه اللجنة وحدها مهام جمع السلاح والمال والذخيرة وتوزيعها على قادة الثورة)(5) . وتكونت اللجنة من بعض تلاميذ الشيخ بدر الدين، وهما الشيخ محمد عيسى الكردي، والشيخ محمد الأشمر وغيرهم من أهل الثقة المعروفين، ويمثلون المنطقة تمثيلًا حسنًا، وقد نالوا استحسان المجلس الوطني بالإجماع، "وبعد اجتماع الغوطة بدار آل غبور وفي دار الحديث استدعى الشيخ بدر الدين تليمذه الشاب محمد الأشمر وسلمه كتابًا مغلقًا، وطلب إليه السفر إلى الجبل وتسليمه إلى سلطان الأطرش، فقام بأداء المهمة على أحسن وجه، وعندما عاد كلفه الشيخ بدر الدين بأن يخرج إلى الغوطة ثائرًا وأن يعمل على جمع رجالات الثورة فيها وتوحيد كلمتهم ووضع حد لخلافاتهم، ومنع التعديات على الناس بالقوة، واجتمع الشيخ الأشمر مع الجميع، وسوى الخلافات وأعطى كل إنسان حقه ومكانه، وتوزع الرجال على أربعة محاور"(6) .

من جهادِ تلاميذ الشيخ بدر الدين

لقد كان لتلاميذ الشيخ بدر الدين أثر عظيم في الثورة، شهد له بذلك أهل السويداء جميعًا، ففي معركة المسيفرة أول معارك جبل الدروز ضد الفرنسيين في 17 أيلول شارك الثوار من الشام وثوار جبل الدروز، وكان الفضل للشيخ الأشمر ورفاقه في فك الحصار عن الثوار الدروز، فقد وقع الثوار ضمن طوق من القوات الفرنسية، فأصبحوا محاصرين، يروي محمد محمد الأشمر نقلًا عن والده محمد الأشمر أنه وصله مرسال بطلب النجدة لفك الحصار، فهب للفور متوجهًا إلى منطقة القتال ومعه رفاقه من مجاهدي حي الميدان، وانضم إليهم عدد من أهالي حوران، وتمكنوا من محاصرة القوات الفرنسية التي كانت تحاصر قوات الجبل بقيادة عز الدين الحلبي، وانقلبت المعركة نصرًا للثوار الذين كسبوا غنائم من السلاح والذخيرة، وقد أرخ سلطان باشا الأطرش لهذه المعركة في مذكراته، وأشار إلى أن الشيخ محمد الأشمر هو الذي فك الحصار بعد وقوع كثير من القتلى بين الطرفين(7) .

من جهاد رجال الشيخ بدر الدين

كان حسن الخراط قائد ثورة الغوطة يتلقى أوامره يوميًّا في صلاة الفجر بمسجد بني أمية من الشيخ بدر الدين الحسني، ولما انتهت معركة مرج السلطان كتب رسالته المشهورة إلى الجنرال ساراي، قال فيها: لقد أرسلتك فرنسة لتقاتل الثوار، فخرقت القيم الإنسانية، وحرقت الشام وقتلت أبناءها، وقد فاتك أننا نحافظ على الجوار

إنـا لقوم أبـت أخلاقـنا شرفـًا ** أن نـبتدي بالأذى من ليـس يؤذينا

وإني أنذرك إذ أقدمت على إعدام الرجال الثلاثة، فسأعاملك بالمثل وأقتل كل رهينة عندنا، فأعذر من أنذر، والسلام على من اتبع الهدى(8) .

طلع البدر علينا

بزغت شمس المحدث الأكبر الشيخ بدر الدين الحسني يومَ خرج من دمشق وطوَّفَ في المدن والمحافظات السورية، وألقى فيها دروسه، فاستقبله الشعب أينما حل وأينما ذهب بالترحاب والتهليل، وكان الناس يخرجون لملاقاته خارج القرى والمدن باستقبال منقطع النظير لم يستقبل فيه أي ملك أو قائد في البلاد من قبله أو من بعده، وكانت هذه الرحلة قد هيأت النفوس وأيقظتها للمعركة ونفخت فيها روح الحمية والجهاد والقيام بالثورة، ثم عاد العالم الشيخ بدر الدين من رحلته وبرفقته جميع العلماء البارزين في ذلك العصر، وخرج الشعب الدمشقي لاستقباله بجميع فئاته، فاجتمع به الوطنيون وحدَّثهم في جلسة سرية عن الجهاد وما يفعله المحتل من تقسيم للبلاد وإذلال لأبنائها، فخرجوا من الجلسة مقتنعين بوجوب الوقوف في وجه رجال الانتداب الفرنسي(9) .

اشتعلت جبهات القتال، ولم يمضِ عام على انطلاق الشرارة الأولى للثورة إلا وكانت قواها تسيطر سيطرة واسعة على سورية الكبرى، ولا يسيطر الفرنسيون إلا على مراكز كانوا يتحصنون بها كثكنات دمشق وحماة.

ويوم تطهرت سورية من رجس الاحتلال الفرنسي وغادرها جنودها في يوم الجلاء 17 نيسان/ 1946 لم تكتحل عيون الشيخ بدر الدين برؤية ثمار جهاده يانعة ناضجة، فقد وافته المنية قبل ذلك التاريخ بحينٍ، لكن لولا ذلك الكفاح لما حظيت سورية بهذا الفلاح والنجاح.

وإن بلدان دول الربيع العربي اليوم أحوج ما تكون إلى مثل محدِّث الشام الشيخ بدر الدين الحسني لتتطهر من رجس وكلاء الاحتلال وعبيده وكَهَنتِه وعصابته التي سامت السوريين سوء العذاب، فلعل تربية أفراد ينبغ من بينهم قادة كالشيخ بدر الدين يدرك الأمة في الرمق الأخير بعون الله ومدده فهو نعم المولى ونعم النصير.

 

هوامش:

1)  أعلام الفكر الإسلامي في العصر الحديث: أحمد تيمور باشا، ص273-288.

2)  عالم الأمة بدر الدين الحسني: محمد رياض المالح، ص292-303.

3)  المصدر السابق.

4)  ذكريات علي الطنطاوي 1/217- 221.

5)  المجاهد الصامت محمد الأشمر: لجنة الدراسات التاريخية، ص77.

6)  المصدر السابق.

7)  المصدر السابق، ص 87-88.

8)  العرب من وراء اللهب: مذكرات عبد الغني الأسطواني، ص179.

9)  المصدر السابق.