في ذكرى مولد الرسول صلى الله عليه وسلم (5)

في قرية صغيرة منعزلة، تقع في وادٍ غير ذي زرع، بعيدة عن مراكز الثقل السياسي والاقتصادي العالمي، ماؤها نزر قليل، وأراضيها سلسلة من الجبال المتداخلة الصمّاء، والوديان الصخرية الجرداء، لا يكاد يُرى فيها طائر ولا شجرة، تمر أحداث العالم بمعزل عنها، ويتصارع الأقوياء والأغنياء والمسيطرون، دون أن يشعروا بها، فضلاً عن أن يهتموا بها، وفضلاً عن أن يحسبوا لها حساباً.. وُلِدَ طفلٌ يتيم.

لا بد أن كثيرين سواه ولدوا في يومه وعامه هنا وهناك. ونشأ هذا الطفل في قريته، وشبَّ هادئاً أميلَ للصمت والعزلة، وعاش فقيراً يسعى لكسب قوته، حتى عمل راعياً للغنم التي يملكها الآخرون من أجل ذلك.

وحين بلغ الأربعين من عمره، غيّر موقفه من المجتمع الذي يعيش فيه، فطفق يخاطبه يريد إصلاحه، بل وإصلاح الناس جميعاً، والبشرية كلها. وسار في طريقه والصعوبات تلاقيه من كل مكان، والعدو كثير، والناصر قليل، ولكنه نجح أعظم النجاح، وما مات حتى دان مجتمعه له، ودانت له أمة عرفت بالتمرد الشموس، والكبرياء التي ليس لها حد، وواصل مَنْ خَلَفَهُ من بعدِه مسيرته، حتى امتدت دعوته إلى أطراف الدنيا جميعها.

لا ريب أن ذلك موضع عجب لا ينتهي، ودهشة لا حد لها، لكنه بالرغم من ذلك العجب وتلك الدهشة حقيقة واقعة، ولولا أنَّ هذه الحقيقة نعيشها كل حين لأباها الناس أشد الإباء، ورفضوها أشد الرفض، وقالوا: إن ما تتحدثون عنه وهم من الأوهام، وخيالات لا رصيد لها من الواقع.

أما القرية فهي مكة المكرمة، وأما اليتيم فهو محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم- الذي أكرمه الله عز وجل أيّما إكرام، فبعثه لمّا بلغ من عمره الأربعين ليكون خاتم الأنبياء والمرسلين، وليصلح بالإسلام الذي بعث به، الناس جميعاً، ولا عشيرته وأهله الأدنين فحسب.

لا غرابة إذن أن يكون هذا الميلاد المبارك، لذلك الولد اليتيم، في الثاني عشر من شهر ربيع الأول عام (53) قبل الهجرة، الموافق للعاشر من شهر آب عام (570) للميلاد، بداية عهد جديد في تاريخ العرب وتاريخ الإنسان.

فما كاد يمضي على ذلك الميلاد المبارك بضع وستون عاماً من عمر الزمان، حتى انطلقت مواكب الصحابة الكرام، تلاميذ ذلك المولود العظيم عليه الصلاة والسلام، خارجةً من جزيرة العرب، تهدر كالسيل، وتضيء كالنور، لتنشر دين الله تعالى في كل مكان من العالم، وترفع راية التوحيد، وتدعو الناس إلى الإيمان والحق، والعدل والفضيلة، وتقيم المجتمع الصالح، وترسي شامخ بنيانه.

وكان ذلك الميلاد مقدمةَ جيوش الإسلام الكبرى، الزاحفة كما يزحف الليل إلى كل بقعة، لتصرع عروش الظلمة والطغاة والمتألِّهين، ولتقود مواكب الدعاة إلى الله على كل أرض، وفي كل شعب، وكان مقدمةً لمواكب العلماء التي بنت مراكز الثقافة والمعرفة والحضارة في كل مكان، ما بين الأندلس والصين، وعلّمت العقل البشري كيف ينتصر على الخرافة والجهل، والأوهام والضلالات، والشرك والوثنية، وأطلقت عقاله من إسار الجمود والتقليد، وحمت انطلاقته من أن يضيع في التيه، ويسعى فيما لا يقدر عليه ولا يقع في طوقه وإمكانه، وأرشدته كيف يعبد الله على بصيرة وهدى ونور، وأذاعت في الناس دعوة الإسلام، وقيمه الرفيعة، ومثله العظيمة، ومبادئه الخالدة المباركة.

حدث عظيم، قاد مسيرة الحضارة الإنسانية والتقدم، والعلم والابتكار والتجديد، ووضع الدعامة الأولى لانتصار الإنسان المسلم على الجاهلية وقيمها المتخلّفة، وموازينها الضالة، وأخلاقها المنحرفة، وأخذ بيد الإنسانية كلّها إلى ما كانت تتطلع إليه من نور بعد أن أشقاها الظلام، وخير بعد أن كثرت عليها الشرور، وهداية بعد أن تعبت وهي تخبط في الضلال، وأمان بعد أن أرهقتها الفتن، وحرية طال العهد بها بعد أن تسلط الظلم والقسوة والطغيان، ومساواة راشدة كريمة، بعد أن مزّقتها إلى طبقاتٍ التمايزُ المجحف، والتفريق الظلوم.

ولولا أن مَنَّ الله عز وجل بمحمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم- لعاشت الإنسانية حتى اليوم في ظلام دامس، وحيرة بالغة، وتيه وضياع، وقلق لا ينتهي، ولظلت ترسف في قيود الوثنية والجهل، والفوضى والتأخر، والهمجية والوحشية، والشقاء المريع.

ولولا ذلكم المَنُّ الرباني الكريم؛ لما أشرق النور النبوي الأكمل والأخير على الأرض، ولما سارت مواكب العلم والتقدم والمعرفة والهداية تشق طريقها إلى كل بقعة في الأرض، ولما قامت حواضر المعرفة والمدنية التي أسدت للناس أحسن الأيادي، في شتى ديار العالم الإسلامي، من المحيط إلى المحيط.

يا أيتها الذكرى الكبيرة الغالية.. سلامٌ عليك بما صنعت للإنسانية والإنسان..

سلامٌ عليك بما قدمت للعالم والشعوب..

سلامٌ عليك بما كان لك من خالد العطاء الذي لا يبلى، والخير الذي لا ينقطع..

سلامٌ عليك في الأولين، وسلامٌ عليك في الآخرين، ولك الخلود والقبول والمجد والثناء في الأرض والسماء.

 الحلقة السابقة هـــنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين