في ذكرى الإسراء والمعراج

 

 
[سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ] {الإسراء:1}.
1 ـ لما أعلن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قومه، أن الله سبحانه أسرى به ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى أخذتهم موجة من الاستنكار والدهشة، وقال له بعضهم: لقد كان أمرك قبل اليوم محتملاً فيما تفتريه من دعوى الرسالة، أما إذ بلغ بك الشطط أن تدَّعي ما ادَّعيت اليوم فلا، إنَّ أحدنا ليضرب آباط الإبل شهراً صاعداً إلى بيت المقدس وشهراً عائداً منه، أفتزعم أنك وافيته وعدت منه في جزء من ليل؟!
ولم تقتصر تلك الموجة على أعدائه ومخالفيه، بل شملت بعض ممَّن كان آمن به وأسلم له، فلم يحتمل تصديق هذه الكائنة الخارقة لكل مألوف، فانصرف عنه، وارتدَّ إلى ما كان عليه سابقاً من دين آبائه.
وسجَّل القرآن الكريم ما ثار من جدل ومراء حول تلك الحادثة في إنكار وتبكيت بقوله سبحانه:[أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى] {النَّجم:12}.
وذلك الجدل العنيف، والمراء العاصف الذي شمل المجتمع المكيَّ كله، والذي سجلته كتب السير، وسجَّله القرآن الكريم، على هذا النحو يدل على أن الرسول عليه السلام أفضى إلى قومه بهذه الحادثة على أنها أمر وقع فعلاً على عالم الحس واليقظة، لا في عالم الروح والمنام... ولو قصَّه عليهم على أنه رؤيا  مناميَّة، لما كان هناك من داع إلى عجب أو استنكار، ولما كان هناك من سبب يدعو إلى بلبلة من ارتد عنه من ضعفاء الإيمان.
2 ـ والعجيب في أمرنا - نحن المسلمين- أننا نستقبل ذكرى هذا الحديث الخطير عاماً بعد عام، ونحن في شبه غفلة أو شبه جمود عما فيه من عبر التوجيه والإرشاد وبعث الهمم إلى الكشف عن مخبّآت هذا الكون، ومحاولة الانتفاع بما فيه من أسرار.
نعم نستقبله عاماً بعد عام على تلك الحال المؤسفة، كأنَّ هذا الحادث لا يتعلق بتاريخنا، ولا ديننا، وكأن هذا الرائد الجليل الذي ارتاد آفاق تلك الآيات الحسيّة والروحيّة شخصيّة خياليّة، أو بطل وهمي من أبطال الأساطير... كأنه ليس ذلك الرجل العظيم الذي أعلن فينا من أول يوم: (أن الرائد لا يكذب أهله) ومن يومئذ وهو يرتاد آفاق الحقائق، ويستخلص لنا من رحيقها ونورها عبراً وعلوماً تحيي الهمم وتنير البصائر والأفكار.
ولا أستثني في تلك الغفلة ما نقيمه وما كان يقام من أحفال وحلقات للتحدث عن الإسراء والمعراج، فإنها أحفال وحلقات كانت وما تزال تقام لرواية عجائب الحوادث، وما لها من دلالة على رفعة قدر نبيِّنا صلى الله عليه وسلم بين الأنبياء.
أما إنها أمر أراد به الحق سبحانه ـ فيما أراد ـ أن ينبه الأذهان، ويوقظ الهمم إلى ما خبّأ لنا في مضمر الكون من أسرار وآيات... وأنّ هذا الرسول الكريم هو الرائد الذي كشف آفاق تلك العجائب لتكون أمة ذات شأن في الهيمنة على مقدرات هذه الأرض، وتوجيهها، فذلك ما لم يدر بخلدنا حتى قام من كنا نسوسهم ونصرِّف أمورهم، فجدوا وكشفوا، واغتنوا، و جاؤوا لأمة التشدق بالمعجزات وخوارق العادات فوضعوا في أعناقها أطواق العبودية، وسيطروا عليها، وقادوها إلى حيث يريدون.
3 ـ ولقد كان حريّاً بنا أن نفكر، وأن نحاول غزو أسرار الكون، كما غزونا أهله لدعوتهم إلى الخير، فنرث ملكه الظاهر والباطن عن جدارة بكلمة الحق وسنن الله تعالى.
نعم! فإننا لا نجد ديناً من الأديان وجَّه أهله إلى إمكان قطع المسافات الشاسعة في أقصر وقت  ممكن، بل إلى إمكان الرحلة أو السفر بين الكواكب في الفضاء العالي، كما نرى في الإسلام، وكان من حقِّ ذلك علينا أن نعتبره إذناً أو إشارة لبدء المحاولات وبذل الجهد والتجارب.
ومن العجيب أن الشوق إلى الطيران، وقطع المسافات الطويلة في الوقت الوجيز، كان من الأماني في صدور الكثير من قدمائنا، وقد هتف به ذوو الوجد منهم بمثل قول أحدهم:
أسَرْب القطا هل من يعير جناحه=لعلي إلى من قد هويت أطير
فلم ينقص العرب والمسلمين الشوق المشبوب الذي يبعث في صدورهم أحلام الطيران، والرغبة في طيّ آفاق هذا الكون، حتى إذا جاءهم أمر قدسيّ يحيل هذه الأحلام حقيقة ملموسة انقلبوا يقولون: هي معجزة... لا، ليست معجزة، فإن المعجزة تقترن بالتحدّي، وهذه لا تحدّي فيها... وهل كانت بالجسد والروح؟ أو كانت بالروح فقط ؟ أو كان الإسراء بالجسد والمعراج بالروح؟ إلى آخر ما هنالك من جدل عقيم، صرفنا عما وراء هذا الحادث من لباب الحِكم، وما أراد الحق سبحانه من الكشف عن أسرار آياته، ونواميسه بقوله: [أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ...لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا] {الإسراء:1}.
إننا نفيق اليوم من غفلة الماضي لنفتح عيوننا وعقولنا على واقع مروّع مفجع، إذ نرى سوانا قد ساد الكون، وسيطر على الطبيعة، وملك ثروات الدنيا، وأخذ علينا الجو والبر والبحر. ولم تتّسع الأرض لهمّته، فراح يصنع لفضاء السماء سفناً جبارة طائرة يسبح بها فيما بين الكواكب من آماد شاسعات، ولا مكان لنا في ذلك المضمار، إلا مكان المشدوه المستسلم... مكان المتخلف في ذهنه  وعلمه وتجاربه... مكان من فقد أرضه، وثروته وكرامته...
هل أدى السابقون واجبهم نحونا؟
بل هل أدوا واجبهم نحو أنفسهم ودينهم؟.
نقولها لا لِنَضعهم في الميزان رضي الله عنهم، وغفر لنا ولهم... بل لأنها زفرة الألم الحبيس الذي لا يملك سوى التوجُّع والشكوى.
كم في القرآن الكريم من نداء إلى الكشف عن آيات الله في الآفاق!!
كم دعانا القرآن الكريم إلى ذلك بمثل قوله جل شأنه:[قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ] {يونس:101}.فهل استجبنا، ولبينا، ونظرنا؟...
 
ولقد جاء في بعض حديث للنبي صلى الله عليه وسلم: (وجيء لي بمفاتيح كنوز الأرض فوضعت في يدي) فلم يظن السلف الطيب رضوان الله عليهم إلا أنها إشارة إلى مفاتيح الغزو التي فتحت لنا فيما بعد كنوز كسرى وقيصر... أما أن هذه المفاتيح هي النواميس التي نسخر بها الطبيعة، وننفذ بها إلى ما أخفي لنا من كنوز خيرات الأرض وثرواتها الطائلة... فلا.
4 ـ على أننا بذلك التوجُّع لا ندعو إلى اليأس، بل ندعو إلى الرجاء المثمر إن شاء الله، فإننا نعلم حق العلم أن ما سبقونا إليه لا يعدُّ شيئاً مذكوراً إلى ما لم يسبقوا... فهنالك آفاق لم يفتحوها على كثرة ما فتحوا من آفاق... وهناك سيادة لم يأخذوا بأسبابها على كثرة ما أخذوا من أسباب... فإن آية الإسراء والمعراج، لم تكن آية مادية فحسب، ولا حادثاً قام به البدن وحده، بل كانت آية مادية روحية معاً، و حادثاً قام به البدن والروح جميعاً...  وما كان من الآيات روحياً رآه عليه السلام بنور قلبه، وما كان حسياً رآه بنور بصره... وأخبر الحق سبحانه عن المطالعة الأولى بقوله:[مَا كَذَبَ الفُؤَادُ مَا رَأَى] {النَّجم:11}.وأخبر عن المطالعة الثانية بقوله:[مَا زَاغَ البَصَرُ وَمَا طَغَى]{النَّجم:17}.
إن آية الإسراء والمعراج إذ تجمع لنا بين عجائب المادة و الروح، إنما تقدم لنا منهاج الحضارة الفاضلة التي يسود بها الإنسان ويسعد، ويرقى إلى ما شاء الله من أسباب الكمال.
ولسنا نحدثك في هذا المقام عما رأى من الأرواح... ولا عمَّا رأى من الشياطين، ولا عمَّا رأى من الملائكة... ولا عمن قابل من الأنبياء.
ولا ما شاهد غير ذلك من عجائب الجنة والنار وسدرة المنتهى وغيرها... لا نحدثك عن ذلك، ولا نعرض لبيان ما له من صلة بتكوين آفاق المرء الروحية، وتفتح تلك الآفاق بأسمى المواهب والمشاعر والمدركات...لا نحدثك عن شيء من ذلك ونكتفي بالإشارة إلى ما رأى عليه السلام من حياة الأخلاق والأعمال في عالم الحياة الحقَّة، فقد كُشف له عليه السلام عن الأفق الذي تحيا فيه الفضائل وتنمو وتثمر، وتُنبذ فيه الرذائل في أردأ الصور، وأقبح الأوضاع...
ومن يطالع قوله عليه السلام عن أعمال المجاهدين ـ مثلاً ـ إنما يطالع القول الحق عن دوام الحصاد، وسرعة النماء، وتضاعف الثمر، في عالم لا تدركه الأبصار، ولا ترقى إليه العقول، إذ رأى أقواماً يحصدون، كلما حصدوا عاد كما كان...  وهو تصوير دقيق صادق، يبيِّن لنا أن كل ما نفعله على قوانين الأخلاق وفضائل السلوك من مختلف أعمال البر يحتل مكانه لفوره في عالم غيبي لا يعلمه إلا الله سبحانه، حيث يحيا، وينمو... ويثمر بما ليس في حسبان أحد...
ولقد جاءنا من ذلك في هدي نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم قوله: (من تصدق بعدل ثمرة من كسب طيب ـ ولا يقبل الله إلا الطيب ـ فإن الله يقبلها بيمينه، ثم يربيها لصاحبها، كما يربي أحدكم فلوه ـ مُهره الصغير ـ حتى تكون مثل الجبل)...
أين يربِّيها؟ كيف تحيا؟ كيف تنمو؟ كل ذلك سر يتم عند ربك في عالم الغيب الواسع الخطير، ولا سبيل لقشرتنا الأرضية أن تدركه وتكشف سننه ـ [وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ] {الرُّوم:7}.
5 ـ وإذاً فهنالك آفاق حجب القوم أن يفتحوها، وسيادة لم يأخذوا بأسبابها على كثرة ما  أخذوا من أسباب...
هنالك آفاق الروح، وسيادة مثلها العليا...
فإن القوم حين عرجوا بطائراتهم إلى السماء، لم يعرجوا بأبدانهم وأرواحهم، بل عرجوا بأبدانهم فقط، وشتان ما بين عروج وعروج...
شتان ما بين عروج يرتد بصاحبه أن يعود بتراب القمر، أو حجارة الكواكب، وعروج يعود منه وقد أوحي إليه رب الكون صلوات تعرج بها أرواح الإنسانية إلى ذرا ملكوته.
والروح سر خفيّ يطلق على كثير من خفايا هذا الكون، ولكنا نعني به في هذا المقام السر الذي ميَّز به الإنسان ليمده بمحاسن الصفات، وفضائل المثل، وشتى مكارم الأخلاق ؛ من صدق، وأمانة، وعزة، ووفاء، ومواساة، وشجاعة، وإيثار، ومروءة، وعفة ونحوها.
ونعني بسيادة الروح، سيادة هذه المعاني في نفوس أصحابها، وهيمنتها على مشاعرهم، وعقولهم حتى يكون لها الأمر والنهي والسيطرة الغالبة لكل هوى باطل أو شهوة معارضة...
فإذا عرج القوم إلى السماء بطائراتهم وأبدانهم، ولم يعرجوا مع ذلك بأرواحهم وأخلاقهم وفضائل نفوسهم، فقد فاتهم العروج الحق، وتخلفوا عن منازل السيادة التي تضع في أيدي أهلها مقاليد كل شيء، وصار علينا أن نهيء لأنفسنا من العزائم والمجاهدات، وأسباب السمو والرفعة، ما يصعد بنا حساً ومعنى إلى حيث ما نريد من كرامة وعزة ومجد...
إنَّ القوم تنكروا للفضائل، وأهدروا قيمة المثل العليا، وجهلوا آثارها العميقة في هذا الكون ظاهره وباطنه...
وإنه لمن المؤسف أن نرى قادة الإنسانية الكبار، وممثلي شعوبها، لا يقيمون وزناً لفضيلة من الفضائل... فهم يكذبون ويخونون، ويغدرون، ويعتدون، ويسلبون وينهبون، ويسفكون الدماء، ويقتلون الأبرياء، ويزوِّرون، ويسرقون، يفعلون ذلك كله جهاراً نهاراً في غير حياء ولا تردد...
من المؤسف أن نرى هؤلاء القادة الكبار الذين يمثّلون الإنسانية، يسيغون هذه الرذائل على أعين الناس، دون أن يتنبّه لهم ضمير يرون على ضوئه ما يتخوَّضون فيه من دنس وعار وخزي...
فإذا كان القادة الكبار يكفرون الخير هذا الكفران، ويجحدون حقوق الناس هذا الجحود، ويتجردون من مبادئ الرحمة لتكون قلوبهم طيّعةً للغدر وسفك الدماء... ويتخلون عن كرامة الحياء لتكون وجوههم جريئة على بلادة الحس، إذا تنادى الناس بفضائح اللصوص، وصفقات السحت  والجريمة، إذا كان القادة الكبار يقودون الإنسانية إلى كمالها بهذه الرذائل، ويرسمون لها سبيل سعادتها ورقيِّها بهذه الجرائم البشعة، فهل نقول: إن القوم جادُّون فيما يدعون من رقيّ؟ أو منطقيُّون فيما يريدون للإنسانية من خير وسلم؟ وهل يجْديهم أو يغني عنهم في نشدان الكمال أن يكون لهم أضعاف أضعاف ما لديهم الآن من طائرات وقاذفات ونفاثات؟.
وهل يجديهم أو يغني عنهم في نشدان هذا الكمال أن يعرجوا إلى القمر وإلى المريخ وإلى كل كوكب خلقه الله، وهم على حال ينافسون فيها أبالسة الشر، في محق كل خير لهذه الإنسانية!!
إذاً فقد فشل هؤلاء في قيادتهم... وعجزوا أن يحققوا للإنسانية مناهج كمالها وسيادتها... وبقي أن ينادي المنادون بمبادئ الحق والكرامة.
وقد أوجزت عبرة الإسراء والمعراج أن للكون ظاهراً وباطناً... وأن للظاهر آيات وعجائب، وللباطن آيات وعجائب، وأن الإنسان خُلق على مثال هذا الكون، فله ظاهر وباطن، ظاهر مادي، يتفاعل مع ما ظهر من مادة هذا الكون وباطن روحي يتصل بما خفي من كائناته وعجائبه، وأن الإنسان لا يصلحه إلا أن يمضي على التقويم الذي أراده الله له...
عليه أن يثير مادة الأرض، ويقلب عجائبها، و يستخرج ثمارها، وينفذ إلى سرِّ كل ذرَّة، ففي كل ذرَّة كنز مختوم له... وعلى قدر ما يحسن إلى تلك الذرات بإثارة ما فيها من كنوز المنافع والعلم، تكون منزلته يوم القيامة عند الله... وعلى قدر ما يسيء ويهمل ويجهل، يكون سقوط قيمته:[فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ] {الزَّلزلة:8} .
وعليه أن يتَّصل بما خفي عنا في ضمير هذا الكون... عليه أن يتصل بغيب الله، فقد ألقى الله سبحانه علينا أن نؤمن بهذا الغيب في مفتتح أول سورة في كتاب بعد الفاتحة:[ذَلِكَ الكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ] {البقرة:3}. 
وقد قدَّمنا أننا لسنا بصدد بيان الغيب وعجائبه وكائناته، ونكتفي في هذا المقام بأن الإيمان بالله سبحانه هو رأس الإيمان بالغيب وهو في الوقت نفسه جامع خصال الخير، وفضائل الحق، وكل مثل أعلى وخلق عظيم...
وحين نذكر ظاهر الكون وباطنه، لا نعني أن الكون كالبيضة ـ مثلاً ـ لها ظاهر هو القشرة... وباطن هو مادة الزلال وسائر ما فيها من مواد الغذاء؟ بل نعني أن الحق سبحانه لم يخلق كائناً من الكائنات، ولا آية من الآيات، ولا نعمة من النعم، إلا طبعها بطابع خفي من ربوبيته، فعلى كل شاهد من ألواح الكائنات طابع يحدث السرائر عن صفاته سبحانه، وفي كل نعمة من النعم رسول يحدث عن فضل المنعم بها جل شأنه، ولكن لا تقرأ العيون، ولا تسمع الآذان، بل تنصت السرائر، وتقرأ البصائر.
وأيسر ما نريد من نشاط روحي، أن نعلم أن لنا في كل نعمة نعمتين: إحداهما للبدن، والأخرى للروح... فإذا ركبنا مركباً مريحاً ـ مثلاً ـ وجب ألا نقف عند حد ما أفاد البدن من ذلك، بل علينا أن نصغي إلى حديثها الخفي وهي تتحدث عن فضل الله بها علينا... إن هذا الحديث هو قوت القلوب، ونور البصائر، وسعادة الضمائر... فإذا أصغينا إليه، أصغينا إلى حديث قدسي، ألقاه الله إليها، يمس جوانحنا بحنان خاشع رقيق، ويسري في قلوبنا برحيق يذيقها فضل الله... وتفيض المشاعر بوجدان العبرة فلا يملك اللسان إلا أن يترجم ذلك كله بما رسم لنا الله سبحانه وتعالى:[ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ] {الزُّخرف:13}.
فإذا كان هذا شأنه إذا ركب، أو شرب، أو لبس، أو نحو ذلك من سائر أحواله، توالت نفحات الخير والود وذكر الله على نفسه، وكان له بذلك أفضل المشاعر وأكرم الخلق، وأطيب السير، وأنفع الأعمال.
إنَّ الله سبحانه قد أودع المادة سرَّ الروح، وطبعها بطابع خاليته لتكون دليلاً لها، وشاهداً عليها... وهو بذلك يقدس المادة، ولا يحقرها، ويفرض على المرء نوع الحضارة التي لا حول عنها... فإذا أخذ بالمادة وحدها فقد أشقى نفسه، وهو بذلك شيطان يعيث في الأرض فساداً، وإذا أخذ بالروح، فهيهات أن يصل إليها بدون مادة، وهو بذلك عنصر تافه في الأرض، يورث نفسه الفقر والجهل وهوان الشأن، وإذا أخذ بما رسم الله له، فقد أنصف نفسه، وأدَّى الذي عليه لله وللحياة...وتلك هي الحضارة الحقة. والحمد لله على نعمة الإسلام.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
المصدر: مجلة منبر الإسلام، العدد 7، السنة 14، رجب 1376.
 
تعقيب فضيلة المشرف على الموقع
بتصرف يسير ، وقد حذفت استدلاله بهذه الآية في الاستدلال على الخروج من أقطار السموات والأرض : قال رحمه الله :"هل قرأنا ـ مثلاً ـ قوله تعالى:[يَا مَعْشَرَ الجِنِّ وَالإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ] {الرَّحمن:33}.
وهل أدركنا من تلاوته أن النفوذ في أقطار السموات والأرض ممكن، ولكن بعلم يبسط لنا السلطان على ذلك؟...علم يسخر لنا القوانين، ويضع بين أيدينا ما أعد الله لذلك من سنن! وهل خطر ببالنا ونحن نقرأ ذلك القول الكريم ما بينه وبين عروج نبينا صلى الله عليه وسلم إلى أقطار السموات العلا من تلازم ورابطة؟"
 
وغني عن البيان أن هذا التفسير مخالف للعلم وسياق القرآن ، وأن هذا التحدي الشديد للإنس والجن يعني أنهم لن  يستطيعوا أن يخرجوا من ملك الله ويفروا من قضائه ، فضلا أن العلم لم يزعم أن تلك القفزات القصار التي قفزها الإنسان تعد خروجا عن ذلك النطاق ، وهل يستطيع الإنس والجن أن يقبلوا هذا التحدي وينجحوا في الانتصار عليه !!
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين