فيتامين

كلُّ شيء حولنا يدعو إلى البكاء والنحيب، لكن أمرنا أمرٌ عجيب؛ قست القلوب، وجفت العيون، وتجلّدت المشاعر، وما كان ربعه يبكينا الأيام والليالي، صرنا نمرّ عليه، كمن لا يبالي!

بات يوصَفُ الناس بالجفاء وقلة الرحمة وانعدام الشفقة، حتى لكأن أفئدة بعضهم تبدو كالحجارة بل أشدّ. وإنّ من الحجارة لما يتفجّر منها الماء، بينما هم متجمدون كالصخور الصماء!!

نفوس أكثر الناس باتت لا تشبع، وقلوبهم لا تخشع، وآذانهم لا تسمع، وأعينهم لا تدمع، ومن الأخيرة سنبدأ بالعلاج.

"فيتامين الدموع"، وصفةٌ ذُكرت في كتاب ربنا كخُلُق حميد، ومسعى مفيد، وخصّها رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم بأحاديث كثيرة، ومواقف وفيرة، وتطبيقات غزيرة، وتحرّاها الصحابة الكرام ومن تبعهم بإحسان، واحتسبوها في الميزان، ابتغاء رضى الرحمن.

ففي كتاب الله عزّ وجل جاء ذكر هذا المقوّي الحميد في حياة الأنبياء الهادين المهديين في قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (58)﴾ [مريم].

وفي وصف عباده الصالحين البكّائين الخاشعين، قوله جل وعلا: ﴿إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا ويخِرّونَ للأذقانِ يبكونَ ويزيدهم خشوعاَ (108)﴾ [الإسراء].

وقوله تبارك وتعالى مستنكرًا على الذين يسمعون ويشاهدون ويقرؤون، فيضحكون ولا يبكون: ﴿أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ (61) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (62)﴾ [النجم].

وللدمعة في هذه الأيام الصعبة أسباب كثيرة، وقد ذرفنا سيولاً منها في زماننا القريب، أسى وحسرة على شرور أحاطت بنا من كل جانب، وربما جفت المآقي على ما فاتنا، لكنّ ما نحن بصدده، ينابيعه لا تنضب، وفيها الخير العميم..

فدمعات من نوع خاص هنّ المنجيات، هنّ اللواتي ستُسجل في الصحائف، وستُذهب عنا حريق ما نقارف.

دمعة تُذرف عند تذكّر الذنوب والسيئات، ودمعة تسكب خشية غضب رب السموات، ودمعة من رهبة الموت وسوء الخاتمة وعدم الثبات، ودمعة المقصّر والمتواني والبليد من الطاعات، ودمعة الشوق والمحبة ورجاء بلوغ الدرجات..

تلك هي المنجيات ... تلك هي المنجيات..

وتلك التي لا يذرفها الجبابرة، ولا يملكها الطغاة، ولا تحملها عين وقحة، ولا تسكبها مقلة أدمنت رؤية الباطل، وألفت مشاهد الظلم!

وكيف لا ننجو بتلك الزخات، وقد ورد عن نبينا قوله صلى الله عليه وسلم: "عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله". إنها الدمعات المحبوبة بنصّ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس شيئٌ أحبُّ إلى الله من قطرتين وأثرين: قطرة من دموع خشية الله، وقطرة دم تُهراق في سبيل الله، وأمّا الأثران: فأثر في سبيل الله، وأثر في فريضة من فرائض الله".

ولا ننسى الحديث القدسي الذي يذكر سبعة يظلهم الله في ظله، يوم لا ظلّ إلا ظله، ومنهم رجل ذكر الله خاليًا، ففاضت عيناه!

وإليكم هذه البشارات، من أحاديث سيد السادات، ومن أفعاله، عليه الصلاة والسلام:

- "لا يلجُ النار رجل بكى من خشية الله، حتى يعود اللبن في الضرع".

- وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه، قال: قلت: يا رسول الله ما النجاة؟ ما النجاة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابكِ على خطيئتك".

ذلك البكاء الذي لا تسخّط فيه ولا اعتراض، والدمعة منه تطفىء أمثال البحور من النار.

ذلك البكاء الذي لا يُعدُّ نقيصة من الرجل، إنما هو رحمة يقذفها الله في القلب، والراحمون يرحمهم الرحمن، فلهم البشرى والغفران والرضوان.

كانت الدمعة عُدّة السائرين إلى الله، فلما شحّت، وصارت لا تبذل إلا تحسّرًا على دنيا فائتة، أو مال ذاهب، أو فقد بعد لقاء، ذهبت ثمراتها، وخسرت قدراتها على تحسين الأحوال..

إننا في أمس الحاجة للحظات توبة وأوبة، ونوبات خشوع وخضوع، نحاسب فيها أنفسنا، قبل أن نقف في وجه غيرنا، وأن نجدد العهد مع ربّنا، فتثور مشاعرنا الصادقة، وتغرق عيوننا بالدموع المتدفقة، التي تشبه غيث السماء، فتحيا القلوب من موات، وتستعيد نشاطها قبل الفوات.

وإذا كانت دموع الحزانى أسى وحسرة، فإن دموع الخائفين تنقلب يوم القيامة إلى أمن وأمان، في يومٍ الخوفُ فيه أعظمُ الأحزان. فقد ورد في الحديث القدسي، من قوله جلّ وعلا: "لا أجمع على عبدي خوفين ولا أمنين، فإن خافني في الدنيا أمّنته يوم القيامة، وإن أمِنني في الدنيا أخفته يوم القيامة".

إنّها دموع على هدي محمد صلى الله عليه وسلم وصحبه، منجيات من الكروب، عاصمات من الذنوب، مجليات للقلوب.

إن تلك الدموع ستتحوّل إلى شموع، تُدخل إلى قلوبنا الضياء والرحمة والهناء، والرضى في الدنيا، والسعادة في الآخرة.

لن أختم سلسلة "فيتامين دال" بدمعة على الخد، ولأنني لا أحب النهايات المبللة بالعبرات، ألقاكم في المقالة القادمة بإذن الله، لأختم بنهاية أرجو أن تكون بداية السعادة الدائمة، والفوز المبين، ومفتاح راحة البال، وتحسين الأحوال، فانتظروني...

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين