فهم الحديث أولا...لا ظلم رجالاته

إن أخطر ما يصاب به الحديث النبوي الشريف، حين يتصدى له من ليس من أهله خاصة، أو من ليس من أهل الشريعة عامة، ممن لا يملك الأدوات المعرفية للفهم والاستنباط، فيحرف الكلم عن مواضعه، ويلصق تهما كبيرة وعريضة بأولئك الجهابذة وفحول علماء الحديث والشريعة، فكأن هؤلاء لم يمحصوا مروياتهم، ولا عرضوها على ميزان النقد العلمي، وهذا ينم عن جهل من ينتحل هذا المنحى.

في هذا السياق أردت أن أشير إلى بيان الحديث الذي نقله أحد الإخوة على صفحته في موقع التواصل الاجتماعي، وهو حديث رواه البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال "لَوْلاَ بَنُو إِسْرَائِيلَ لَمْ يَخْنَزِ اللَّحْمُ، وَلَوْلاَ حَوَّاءُ لَمْ تَخُن أُنْثَى زَوْجَهَا"، وقد وقع صاحب الصفحة في الخلط، وأدخل في الحديث ما ليس منه، مما لم يروه البخاري، ويشم من صنيعه رائحة السخرية والانتقاص من قدر البخاري، صاحب القدح المعلى في علم الحديث، بل يعده فحول الصنعة الحديثية أميرَ المؤمنين في الحديث، فتلقت الأمة بالقبول مصنفه الشهير بصحيح البخاري، كما فعلوا نفس ذلك مع تلميذه الإمام مسلم. 

ويتصور بعض السذج أن العلماء والأمة بالتبع إنما تلقوا صحيحيهما بالقبول من غير تمحيص ولا تحقيق، والحق أن التلقي بالقبول سبقه التمحيص والتدقيق، ودراسة منهجيهما، والتحقق من سلامته ونتائجه، ولم يكن هذا منهم جزافا، حتى نقله جيل عن جيل، فسلمت لهما الأمة بالقبول. ومن أراد من هؤلاء المتطفلين على البخاري ومسلم أن يرينا حناء يده، كما يقول المغاربة، فليأت إلى منهج البخاري ومسلم وليدرسهما ويرينا علمه إن كان ممن ينتسب إلى العلم وأهله، أما التطوح والتقحم والتهجم على الكبار فلا يصدر ذلك إلا عن الصغار، الذين ليس لهم نقير ولا قطمير في العلم والمعرفة، لكن من حق الإنسان أن يسأل ويتبين قبل أن يتكلم، لأنه:

إذا كانت النفوس كبارا...تعبت في مرادها الأجسام

وهنا أريد أن أعرج على مقولة غاية في الفساد والجهل، يسوقونها مساق الإنكار من غير بيان، وهي قول بعضهم هل البخاري مقدس؟ فهذا السؤال من الغباء والسذاجة ما به يتبين أن صاحبه لا علاقة له بالعلم والمعرفة، فقط يسوقه مساق الضغط النفسي والأيديولوجي، وإنما الذي دأب عليه أهل العلم وطلابه، أنهم يسألون عن المنهج، وعن الدليل ليفهموا البناء المعرفي الذي بناه ذلك العالم، مثل البخاري ومسلم وغيرهما، فالمراد من إدراج التقديس في النقاش العلمي التلبيس على الناس، والتشويش عليهم، ونزع الثقة منهم في مصادرهم الأصيلة والمعتبرة، من هنا نفهم تلك الحملة المسعورة على الإمام البخاري رضي الله عنه، البعيدة عن العلمية، ولا نعرف لأصحابها اليد الطولى في العلم، ولا حتى التخصص في علم الحديث. ثم الواقع خير شاهد، إذ تعرضت أحاديث البخاري للدراسة والبحث والنقد الحديثي من قبل علماء الحديث وخبراء الصنعة الحديثية، المشهود لهم بالإمامة فيه، من أمثال الإمام الدراقطني، والإمام أبي علي الغساني وغيرهما كثير، سواء الذين عاصروه أو الذين جاؤوا بعده، وأخضعوا منهجهم للبحث والدراسة، وهذا أكبر دليل قطعي على أن العلماء لم ينظروا إلى أي أحد نظرة التقديس، ولم تكن تدور بخلد أحدهم. 

إن من أراد فهم الأحاديث فلا بد من أن يدخلها في مختبر الأصوليين، لينظر فيها هل هي عامة فيبحث لها عن المخصصات إن وجدها، أو مطلقة فيحملها على مقيدها إن ظفر به، أو مجملة فيفتش على ما يبينها إلخ، مما هو منصوص عليه في فقه الحديث، مما أصله الأصوليون في مصنفاتهم، وقعده المحدثون في دواوينهم، وبينه الفقهاء الشراح لمتون الحديث في تواليفهم النفيسة والغزيرة. فنصوص الشريعة يبين بعضها بعضا، ويعضد بعضها بعضا، وينصر بعضها بعضا.

فمن الأخطاء الجسيمة المنبئة عن سوء الفهم، وضيق العطن في إدراك معالم الشريعة فصل النصوص بعضها عن بعض، وتجزيئها كل على حدة، فهذا المنهج التجزيئي الأحادي ليس منهج الراسخين في العلم، وإنما هو ديدن المبتدعة والناقمين على الشريعة والمتطفلين عليها، فالشريعة مثل الجسد الواحد كما عبر عن ذلك الإمام الشاطبي رحمه الله بقوله: "إن مأخذ الأدلة عند الأئمة الراسخين، إنما هو على أن تؤخذ الشريعة كالصورة الواحدة بحسب ما ثبت من كلياتها وجزئياتها المرتبة عليها، وعامها المرتب على خاصِّها، ومطلقها المحمول على مُقَيِّدِها، ومجملها المفَسَّر بِبَيِّنِها، إلى ما سوى ذلك من مناحيها، فإذا حصل للناظر من جملتها حكم من الأحكام فذلك الذي نظمت به حين استنبطت. وما مثلها إلا مثل الإنسان الصحيح السوي، فكما أن الإنسان لا يكون إنسانًا حتى يستنطق، فلا ينطق باليد وحدها، ولا بالرجل وحدها، ولا بالرأس وحده، ولا باللسان وحده، بل بجملته التي سمي بها إنسانًا، كذلك الشريعة لا يطلب منها الحكم على حقيقة الاستنباط إلا بجملتها، لا من دليل منها أي دليل كان، وإن ظهر لبادي الرأي نطق ذلك الدليل، فإنما هو توهمي لا حقيقي، كاليد إذا استنطقت فإنما تنطق توهمًا لا حقيقة، من حيث علمت أنها يد إنسان لا من حيث هي إنسان لأنه محال. فشأن الراسخين تصور الشريعة صورة واحدة، يخدم بعضها بعضًا كأعضاء الإنسان إذا صورت صورة مثمرة. وشأن متبعي المتشابهات أخذ دليل ما، أي دليل كان عفوًا وأخذًا أوليّاً، وإن كان ثم ما يعارضه من كلي أو جزئي. فكأن العضو الواحد لا يعطي في مفهوم أحكام الشريعة حكمًا حقيقيًا. فمتبعه متبع متشابه، ولا يتبعه إلا من في قلبه زيغ كما شهد الله به "ومن أصدق من الله قيلا"."(1) 

وقال قبله الإمام شهاب الدين القرافي: "الجمع بين النصوص والقواعد هو المنهج القويم."(2) وكلام العلماء في هذه المسألة مبسوط في مظانه، منشور في مصادره، لا حاجة لجلبه بأجمعه هنا، وقد عبرت عن ذلك تقعيدا (إعمال الأدلة بمجموعها لا على انفرادها).(3) وهذا هو النظر السليم والسديد، وما عداه فهو مسلك المبطلين للشريعة، المعطلين لنصوصها.

بعد هذه المقدمة البيانية المجملة، أرجع إلى الحديث النبوي الذي هو موطن الإشكال عند بعضهم، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَوْلاَ بَنُو إِسْرَائِيلَ لَمْ يَخْنَزِ اللَّحْمُ، وَلَوْلاَ حَوَّاءُ لَمْ تَخُنْ أُنْثَى زَوْجَهَا الدَّهْرَ."

هذا الحديث رواه البخاري في (كتاب أحاديث الأنبياء)، في ترجمتين: الأولى (بَابُ خَلْقِ آدَمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَذُرِّيَّتِهِ)، والثانية (بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: "وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ المُفْسِدِينَ وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي" إِلَى قَوْلِهِ: "وَأَنَا أَوَّلُ المُؤْمِنِينَ" [الأعراف:143]

وقد ساقه البخاري في الترجمة الأولى ضمن مجموعة من الأحاديث، الناظر فيها يجدها تتحدث عن خلق آدم وذريته، من ذلك:

• عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: "خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ وَطُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا، ثُمَّ قَالَ: اذْهَبْ فَسَلِّمْ عَلَى أُولَئِكَ مِنَ المَلاَئِكَةِ، فَاسْتَمِعْ مَا يُحَيُّونَكَ، تَحِيَّتُكَ وَتَحِيَّةُ ذُرِّيَّتِكَ، فَقَالَ السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ، فَقَالُوا: السَّلاَمُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ فَزَادُوهُ: وَرَحْمَةُ اللَّهِ، فَكُلُّ مَنْ يَدْخُلُ الجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ آدَمَ، فَلَمْ يَزَلِ الخَلْقُ يَنْقُصُ حَتَّى الآنَ"

• عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، أَنَّ أُمَّ سُلَيْمٍ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ الحَقِّ فَهَلْ عَلَى المَرْأَةِ الغَسْلُ إِذَا احْتَلَمَتْ؟ قَالَ: "نَعَمْ، إِذَا رَأَتِ المَاءَ" فَضَحِكَتْ أُمُّ سَلَمَةَ، فَقَالَتْ: تَحْتَلِمُ المَرْأَةُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فَبِمَ يُشْبِهُ الوَلَدُ"

• عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ، فَإِنَّ المَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ، وَإِنَّ أَعْوَجَ شَيْءٍ فِي الضِّلَعِ أَعْلاَهُ، فَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسَرْتَهُ، وَإِنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَزَلْ أَعْوَجَ، فَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ"

ويبدو أن المناسبة في ذكر هذا الحديث تحت الترجمة المذكورة أنه يتحدث عن الأمر الطبعي الذي جبل عليه بنو إسرائيل، من ادخارهم للطعام وعدم إنفاقه والانتفاع به، وكل ذلك من جراء البخل المستفحل فيهم. وقد قرر كتاب الله صفة بخل بني إسرائيل من ذلك قوله تعالى: "أم لهم نصيب من الملك فإذا لا يؤتون الناس نقيرا" [النساء:53].

قال الفخر الرازي: "اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ الْيَهُودَ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ بِالْجَهْلِ الشَّدِيدِ، وَهُوَ اعْتِقَادُهُمْ أَنَّ عِبَادَةَ الْأَوْثَانِ أَفْضَلُ مِنْ عِبَادَةِ اللَّه تَعَالَى، وَوَصَفَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِالْبُخْلِ وَالْحَسَدِ، فَالْبُخْلُ هُوَ أَنْ لَا يَدْفَعَ لِأَحَدٍ شَيْئًا مِمَّا آتَاهُ اللَّه مِنَ النِّعْمَةِ، وَالْحَسَدُ هُوَ أَنْ يَتَمَنَّى أَنْ لَا يُعْطِيَ اللَّه غَيْرَهُ شَيْئًا مِنَ النِّعَمِ."(4)

وقال ابن كثير: "يَقُولُ تَعَالَى: "أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ" ؟! وَهَذَا اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ، أَيْ: لَيْسَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ، ثُمَّ وَصَفَهُمْ بِالْبُخْلِ فَقَالَ: "فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا" أَي: لِأَنَّهُمْ لَوْ كَانَ لَهُمْ نَصِيبٌ فِي الْمُلْكِ وَالتَّصَرُّفِ لَمَا أَعْطَوْا أَحَدًا مِنَ النَّاسِ -وَلَا سِيَّمَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-شَيْئًا، وَلَا مَا يَمْلَأُ "النَّقِيرَ"، وَهُوَ النُّقْطَةُ الَّتِي فِي النَّوَاةِ، فِي قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْأَكْثَرِينَ."(5) 

ومن العلماء من حمل هذه العقوبة، وهي خنز اللحم بزمان موسى، حيث عوقب بنو إسرائيل حين نهوا عن الادخار للسلوى فادخروه حتى انتن، فكأنما سنوا هذه السنة، وساروا عليها ابتداعا منهم وتدينا، فعوقبوا بنقيض قصدهم، وهذا ما لاح لي من كلام الشراح، والله أعلم.(6) 

فلا جرم أن سنن الله المركوزة في طبائع الأشياء، والمبثوثة في الكون، لا تتبدل ولا تتغير، "فلن تجد لسنة الله تبديلا" "ولن تجد لسنة الله تحويلا"، وهذه السنن موجودة قبل وجود بني إسرائيل، فهي مرتبطة بالوجود عامة، وبالخلق عامة، منها أن طبائع الأشياء إذا دخلها التغير فسدت، وخرجت عن نظامها، وصرفت عن طبيعتها وجبلتها، من ذلك أن الأطعمة منها اللحم إذا ادخر من غير صيانة، سواء بالتجفيف أو التبريد المجمد، فإنه لاجرم ينتن ويفسد، لذلك قلنا إن بني إسرائيل فعلوا ذلك تدينا، فجعلهم الحديث أول من صنع ذلك.

أما الشطر الثاني من الحديث، فهو بيان لما جبلت عليه المرأة بحكم غلبة العاطفة عليها من التكتم والتستر على بعض الأمور وإخفائها عن الزوج، أو تقصيرها في النصح له، فاعتبر ذلك خيانة للعشرة الزوجية، وليس خيانة لشرفه أو كرامته في عرضه، قال ابن حجر: " وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْخِيَانَةِ هُنَا ارْتِكَابَ الْفَوَاحِشِ حَاشَا وَكَلَّا، وَلَكِنْ لَمَّا مَالَتْ إِلَى شَهْوَةِ النَّفْسِ مِنْ أَكْلِ الشَّجَرَةِ وَحَسَّنَتْ ذَلِكَ لِآدَمَ عُدَّ ذَلِكَ خِيَانَةً لَهُ، وَأَمَّا مَنْ جَاءَ بَعْدَهَا مِنَ النِّسَاءِ فَخِيَانَةُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ بِحَسَبِهَا، وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا حَدِيثُ جَحَدَ آدَمُ فَجَحَدَتْ ذُرِّيَّتُهُ. وَفِي الْحَدِيثِ إِشَارَةٌ إِلَى تَسْلِيَةِ الرِّجَالِ فِيمَا يَقَعُ لَهُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ بِمَا وَقَعَ مِنْ أُمِّهِنَّ الْكُبْرَى، وَأَنَّ ذَلِكَ مِنْ طَبْعِهِنَّ فَلَا يُفْرَطُ فِي لَوْمِ مَنْ وَقَعَ مِنْهَا شَيْءٌ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ إِلَيْهِ أَوْ عَلَى سَبِيلِ النُّدُورِ، وَيَنْبَغِي لَهُنَّ أَنْ لَا يَتَمَكَّنَّ بِهَذَا فِي الِاسْتِرْسَالِ فِي هَذَا النَّوْعِ بَلْ يَضْبِطْنَ أَنْفُسَهُنَّ وَيُجَاهِدْنَ هَوَاهُنَّ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ."(7)

والمتأمل في الواقع الاجتماعي يفهم هذا الحديث جيدا، خاصة لمن له أبناء، إذ من طبيعة المرأة في الغالب أن تتستر على أبنائها، وتكتم الزوج حديثها عنهم مما لا يعلمه، خشية إزعاجه، أو ما يعكر صفو الحياة، أو خشية قسوته وشدته إن كان سريع الغضب. فهذه الطبيعة الجبلية التي تتفرد بها المرأة عن الرجل لدواعي الأمومة، أو غلبة العاطفة في تحصيل أغراضها، وإلحاحها في ذلك وتزيينه للرجل حتى يقدم على الفعل، اعتبره الحديث نوعا من الخيانة. ومعظم شراح الحديث مالوا إلى القول بتقصير حواء في النصح لآدم عليه السلام.(8) 

فإن قيل إن القرآن لم يذكر هذا عن حواء، وإنما حملهما معا آدم وحواء مسؤولية فعلهما؟

قلنا إن من طبيعة القرآن الكريم وخصائصه أنه لا يفصل في القصص، بل يجمل ذلك، ويبين المقصود، فلما ارتكبا ما نهاهما ربهما عنه، من قربان الشجرة، كان من الحكمة الربانية أن يجمعهما في المخالفة، ويشركهما في معصية مخالفة الأمر، قال الله تعالى: "وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ." [الأعراف:19،22]

والقرآن الكريم يقرر مبدأ عاما، وقاعدة كلية في العدل "ولاتزر وازرة وزر أخرى"، فلما اقترفا ما اقترفا معا، لم يكن من الحكمة حكاية ما جرى من تفاصيل، ولو علم الله في ذلك منفعة وصلاحا للناس، لما سكت عنه سبحانه وتعالى، وله أن يفعل ما يشاء، لا معقب لحكمه، ولا يسأل عما يفعل سبحانه.

لكن هذا الحديث جاء بيانا لتقصير حواء في النصح لا غير، وليس في ذلك أي تعارض مع القرآن الكريم. والذي جرى به العرف الإنساني أن في مثل هذه القضايا ومثيلاتها، غالبا ما تنساق المرأة مع زوجها، فتزين له بعض الأشياء بيعا أو شراء، أو جلب الملذات والاسترسال في تحصيل الشهوات، وكأن الحديث يقرر واقعا وطبيعة للمرأة، وليس هذا تنقيصا من مكانتها، ولا تحميلها جريرة ما قد يقع فيه الرجل. ولا ننسى أن ذلك كان تحت تأثير وسوسة وإغراء الشيطان، وكل ذلك يأتي في سياق الامتحان والاختبار لآدم وحواء عليهما السلام. لكن مميزة آدم وزوجه أنهما أحسا فورا بوقع المخالفة، وارتكاب المعصية فـ "قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ" [الأعراف:23]

ولعل في التعبير بالخيانة زجرا للنساء من المبالغة في الإلحاح للوصول إلى الظفر بأغراضهن، فالنساء ملحاحات، منبها مما يمكن أن يقع الرجل فيه من جراء التأثر بزوجته، خاصة إذا كانت مهيمنة على حاله، فكم من رجل حازم شديد ومع ذلك تجده أمام إلحاح الزوجة والأبناء يصير خلقا آخر. وهنا تحضرني نصيحة أبي بكر محمد بن الحسن المرادي لأحد السلاطين المرابطين، أوردها في كتابه (السياسة أو الإشارة في تدبير الإمارة): "ولا تأخذ المرأة، وإن حسنت، بمجامع قلبك، تملكها قياد أمرك. ولا تشعرها بجميع حبك، فتستولي على حالك، ولا بجميع بغضك، فتبغيك المهالك."(9) 

هل هذا الحديث يخالف النظر العقلي كما زعم الزاعمون؟ وادعى المرجفون؟

فالحديث لا يخالف النظر العقلي العلمي الفطري، إذ يقر النظر العقلي أن لكل من الرجل والمرأة خصائص وطبائع خلقية ونفسية وجبلية تختلف عن الآخر، بها يحصل التكامل في الحياة، حتى يتسنى لكل واحد منهما أن يؤدي دوره، ويقوم بوظيفته، فليس الذكر كالأنثى. فكون المرأة تطغى عليها عاطفة الأمومة والانفعال وسرعة التأثر، مما يجعلها في غالب الأحيان تقبل على الفعل، وتلح على إنجازه، خشية أن يفوتها تحصيله، فهذا مما تقره العقول بالبداهة من كثرة معاشرة النساء، أما وأختا وزوجة وبنتا وهلم جرا، ومما يصدق عليه العلم الحديث. فلهذا لا أجد مساغا لرد الحديث بالنظر العقلي فليس في الحديث ما يدل على انتقاص المرأة، ولا الطعن في مكانتها الاجتماعية، ولا الفكرية والعلمية، ولا علاقة له بذلك، ومن زعم ذلك فقد افترى على النبي صلى الله عليه وسلم افتراء كبيرا.

والذي يجهله الطاعنون في الحديث النبوي وفي صحيح البخاري، أن من مقاييس تصحيح الحديث أن لا يخالف العقل، وهذا ما أكده فحول المحدثين قال الخطيب البغدادي: "ولا يقبل خبر الواحد في منافاة حكم العقل، وحكم القرآن الثابت المحكم، والسنة المعلومة، والفعل الجاري مجرى السنة، وكل دليل مقطوع به."(10) 

وهو ما قرره ابن الجوزي في (الموضوعات) بقوله: "كل حديث رأيته يخالف المعقول، أو يناقض الأصول، فاعلم أنه موضوع، فلا تتكلف اعتباره."(11) ويجد الباحث والدارس ذلك مبسوطا في الكتب التي عُنيت بمشكل الآثار، حيث ادعت بعض الفرق وعلى رأسها المعتزلة مناقضة بعض الأحاديث لمقررات العقول، فرد عليهم العلماء، وبينوا أن ما اعتقدوه وذهبوا إليه واه، ولم يكن سديدا ولا سليما علميا.(12)

وصفوة القول مما سبق أنه لا يليق بمسلم أن يرد الحديث النبوي الشريف، الذي اجتاز قنطرة النقد والتمحيص والتدقيق، من فحول العلماء، جيلا بعد جيل، وقرنا بعد قرن، المشهود لهم بإتقان الصنعة الحديثية، حتى صاروا أئمة هذا العلم وفرسانه. والذي لا علم له، فإنما شفاء العي السؤال، ومن عجز عن الفهم، وكان من أهل العلم، فعلى الأقل أن يتوقف ويستمر في البحث، حتى يتبين له الصواب والسداد بدل من رد الحديث بالهوى والتشهي.

أما العلمانيون واللادينيون ممن يتجرؤون على رد الحديث والطعن في رجالاته، والتشويه بالشريعة، فأقول لهم إن الخلاف بيننا وبينكم ليس في فهم حديث أو حديثين، وإنما الخلاف عميق الجذور وهو في عدم إيمانكم بالشريعة الطاهرة قرآنا وسنة، وعدم تسليمكم بصلاحيتها للحياة وأنها من عند الله، فليس من المنطق في شيء المناقشة في الفروع مع إنكار الأصول، فهذا هو عين البلادة والغباء. والله من وراء القصد وهو يهدي سواء السبيل. 

===

الاعتصام 1/245.

2 الفروق للقرافي 4/1225.

3 انظر الفكر المنهجي العلمي عند الأصوليين 185.

4 مفاتيح الغيب 10/102.

5 تفسير ابن كثير 2/336.

6 انظر مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح 5/2118، وطرح التثريب في شرح التقريب 7/64،65.

7 فتح الباري لابن حجر 6/368.

8 انظر إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري للقسطلاني 5/322، فتح الباري 6/368، عمدة القاري لبدر الدين العيني 5/211. 

9 السياسة أو الإشارة في تدبير الإمارة بتحقيق سامي النشار 68.

10 الكفاية في علم الرواية 432.

11 الموضوعات لابن الجوزي، تحقيق عبد الرحمن محمد عثمان، 1/106. 

12 انظر تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة، وشرح مشكل الآثار للطحاوي.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين